قدرات- فن- إنسان، ثلاث كلمات تُشكّل المعادلة التى يجب أن نعمل بها جميعًا فى مجال اكتشاف الموهوبين فى كل مجالات الفنون، فكل إنسان يحمل قدرة ما، وكل فن هو طريق لتجلى هذه القدرة، وكل قدرة حين تُمنح فرصة التعبير تتحوّل إلى طاقة تغيير.
والفن ليس فقط ما نراه ونسمعه فى وسائط مختلفة، بل هو ما نشعر به ونفهمه ونشاركه، فالفن فى جوهره لا يتطلب قدرات جسدية بل يتطلب شغفًا وصدقًا ليحقق تأثيره العميق.
حين وصلتنى دعوة لحضور الاحتفالية التى تقيمها مؤسسة «شجرة توت»، تحت رعاية المجلس القومى للأشخاص ذوى الإعاقة، بمناسبة إطلاق منصة «القدرة بالفن»، وهى منصة للفنون الأدائية الدامجة للأشخاص ذوى الإعاقة، لأمثل المجلس كمستشار ثقافى، نيابة عن الدكتورة إيمان كريم، المشرف العام على المجلس، توقفت كثيرًا أمام تعبير «القدرة بالفن»، فهو ليس شعارًا، بل سياسة ثقافية ضرورية يجب أن تكون مضمنة فى كل فعل ثقافى، لنكتشف القدرات الكامنة للأشخاص ذوى الإعاقة ونمنحها فرصة حقيقية للظهور.
امتد الحوار على مدى يومين، عبر الجلسات الحوارية والورش والعروض، ليتفق الجميع أن أمامنا طريقًا طويلًا يجب أن نسلكه لنؤكد أن تمكين الأشخاص ذوى الإعاقة عبر الفن هو شكل راقٍ من أشكال العدالة الثقافية، وشهادة حقيقية على أن الإبداع لا يُقاس بالحواس فقط، بل بالوعى، والإرادة، والشغف، وأن احتفاءنا بالفن ما هو إلا تجلى لاحتفاء أكبر بالإنسان.
طريق مهدت له سياسات الدولة الداعمة للأشخاص ذوى الإعاقة، والجهود المتصلة من المجلس القومى للأشخاص ذوى الإعاقة، لنشر الوعى وتمهيد أرضية لاحتضان إبداعات الأشخاص ذوى الإعاقة، لأن الفنون ليست رفاهية بل حق وأداة تمكين وتعبير.
لكن، كيف يمكن للفن أن يكون طريقًا للدمج؟، ما الذى يحدث حين نعطى الفن فرصة ليكون لغة جديدة بين الإنسان والعالم؟، حين نكفّ عن النظر إلى الإعاقة كـ«نقص» ونراها بوصفها تنويعًا إنسانيًا يضيف لا ينتقص؟، فى هذه المسافة، يولد سؤال جوهرى: كيف يمكن للفن أن يكون مساحة للدمج وأن يتحول إلى أداة تحرر للأشخاص ذوى الإعاقة، لا مجرد وسيلة للتسلية أو المواساة؟.
الفن- بأشكاله المتعددة، من مسرح وموسيقى وتشكيلى ورقص وسينما- لا يطلب من الإنسان سوى شىء واحد: أن يكون، وهذا «الوجود» فى ذاته هو فعل مقاومة حين يصدر عن من حُرم طويلًا من الحق فى التعبير أو المشاركة، وهنا تحديدًا تظهر قدرة الفن على تغيير المعادلة، لا فقط عبر فتح أبواب التمثيل، بل بإعادة تعريف الجمال والقدرة والمعنى.
إن الأشخاص ذوى الإعاقة حين يجدون فى الفن ملاذًا آمنًا أو منصة تعبير، فإنهم لا يحققون فقط اندماجًا ذاتيًا ونفسيًا، بل يسهمون فى إعادة تشكيل الوعى العام بقيمة التنوع وثراء الاختلاف، هذا فضلًا عن الشعور بالاستحقاق الإنسانى، فنحن جميعًا جديرون بأن تتاح لنا كل السبل لنبدع وكل السُبل لنتلقى الإبداع، وعلينا أن نشجع كل التجارب والتكوينات التى تعمل على فتح مسارات الدمج فى الفنون.
فى مختلف أنحاء العالم، ظهرت تجارب رائدة استخدمت الفنون كأداة للدمج الحقيقى، وليس الرمزى، للأشخاص ذوى الإعاقة، ومنها فرقة «أويلى كارت» «Oily Cart»- بريطانيا، وهى فرقة مسرحية مخصصة للأطفال ذوى الإعاقة الذهنية والجسدية المعقدة، عروضها قائمة على استخدام وتفعيل الحواس الخمسة، كوسائل لتلقى العرض المسرحى دون الاقتصار على حاستى السمع والبصر كما يحدث عادة، وتُقدَّم عروضها فى أماكن غير تقليدية، مثل أحواض السباحة أو الغرف المظلمة المُضيئة بلطف.
الهدف ليس تقديم «عرض» بقدر ما هو خلق تجربة حسية مشتركة، يكون الأطفال على طبيعتهم فيها، يتفاعلون ويتواصلون كما يحلو لهم، دون التقيد بقواعد وشروط للتلقى.
فى بريطانيا أيضًا، توجد فرقة «مسرح جراى»- «Graeae Theatre Company»، وهى واحدة من أولى الفرق المسرحية فى العالم التى تُدار ويُمثّل فيها فنانون من ذوى الإعاقة، وتشتهر باستخدام الترجمة الحية، ولغة الإشارة، والوصف الصوتى، ليس كـ«إضافة»، بل كبنية أساسية فى العرض.
وفى الولايات المتحدة الأمريكية، كنت محظوظة فى ٢٠١٧ لأنى زرت مركز «كولورادو للفنون التعبيرية»، وهو مؤسسة تعليمية وفنية تحتضن الأشخاص ذوى الإعاقة وتبنى قدراتهم فى مجالات الفنون، وقد شارك بعض خريجيه فى «عروض برودواى».
وهناك أيضًا، فرقة «انكلوسيف دانس- اليابان»، والتى أسسها راقصون محترفون، وهى تعمل على دمج الراقصين من غير ذوى الإعاقة مع الراقصين من ذوى الإعاقة، فى عروض جماعية، حيث لا يتم تعديل الرقصات لتتناسب مع الإعاقات بل تصمم لتعبر عن التنوع الحركى وتحتفى به.
وقد شاهدت على «يوتيوب» ذات مرة عرضًا راقصًا للفرقة يؤديه راقص فقد رجله اليسرى مع راقصة فقدت ذراعها اليمنى، حيث تبرز الرقصة تكاملهما، وتصير هى قدمه الناقصة ويصير هو ذراعها.
تجارب عدة ظهرت فى مصر فى مجال الفنون الأدائية لكنها متعثرة ولا تلقى الدعم المناسب لما يتطلبه هذا النوع من الدمج من إتاحة، مثل فرقة «الشكمجية» لأميرة شوقى، وفرقة «الصامتين» لرضا عبدالعزيز، وفرقة «نور الحياة الموسيقية» للدكتور محسن صادق، وأخيرًا تجربة «أحلام مشبكة» التى عملت عليها رشا إرنست، الناشطة فى هذا المجال وشاركتها الممثلة والمخرجة ريهام رمزى.
ختامًا، نرجو أن تتمكن المنصة من الاضطلاع بدورها، وأن تجد تلك التجارب ما يليق بها من دعم، لأن دمج الأشخاص ذوى الإعاقة فى الحياة الفنية أمر يتعلق بالعدالة الثقافية، فالفن ليس رفاهية، بل حقًا إنسانيًا أصيلًا، وطريقًا لاستعادة الذات.
ولعل ما نحتاجه اليوم ليس فقط تبنى هذه النماذج، بل تطوير خصوصية محلية تنبع من ثقافتنا، وتتماهى مع هذا المفهوم الإنسانى الشامل.