تأخر الرد الإيراني على سلسلة الاغتيالات الإسرائيلية الأخيرة في قلب طهران لا يبدو مفاجئًا؛ فإسرائيل عبر اختراق أمني غير مسبوق، نجحت في توجيه ضربات موجعة طالت الصف الأول من القيادة العسكرية؛ ما خلّف فراغًا واضحًا في مراكز اتخاذ القرار داخل الحرس الثوري والجيش الإيراني، لا يزال النظام مشغولًا بسده وإعادة ترتيب بنيته القيادية.
فراغ في القيادة العسكرية
هذا الفراغ لا يمكن فصله عن السياق السياسي الأوسع داخل إيران؛ حيث تزداد علامات الشيخوخة في قمة الهرم الحاكم. فالمرشد الأعلى علي خامنئي، البالغ من العمر 86 عامًا، يعاني من تراجع في القدرات الذهنية والبدنية، ما يضعف ديناميكية القيادة ويؤخر الاستجابات السريعة والحاسمة في الأزمات الحرجة، وبالنظر إلى دقة وتوقيت العملية الإسرائيلية، يبدو أن تل أبيب تعمّدت عدم استهداف خامنئي نفسه، رغم قدرتها الواضحة على ذلك، في إشارة ذكية إلى رغبتها في الإبقاء على حالة الجمود التي يمثلها بقاؤه في السلطة؛ إذ يشكّل استمراره ضمانًا لغياب القرار الحاسم داخل النظام.
الرد المرتقب يثير قلق الاستخبارات
لكن الأهم أن إسرائيل، التي تخترق عمق المؤسسة الاستخباراتية والعسكرية الإيرانية، تدرك جيدًا أن ردًا قادمًا لا محالة، وتتهيأ له. ما يقلقها هو احتمال أن يكون هذا الرد "خارج التوقع"، أي يتجاوز سيناريوهات الردود المحسوبة التي يمكن قراءتها عبر القنوات الاستخباراتية التقليدية، وهو ما قد يمثل تحديًا حقيقيًا لمنظومات الردع والسيطرة في تل أبيب وواشنطن.
من بين أبرز الضربات التي تلقاها النظام الإيراني في هذه الموجة من الاغتيالات، اغتيال الجنرال رولام علي رشيد، قائد فرقة "خاتم الأنبياء"، الذي لم يكن معروفًا للرأي العام العربي، لكنه في الواقع كان الرجل الأقوى عسكريًا في إيران بعد المرشد الأعلى. هذا الجنرال كان مسؤولًا عن حماية كل الأصول الاستراتيجية في إيران، ويُفترض أنه القائد الفعلي للقوات المسلحة في أوقات الطوارئ؛ ما يجعله بمثابة العقل الأمني والعسكري المدبر للدولة الإيرانية. وفقدانه لا يُعد فقط ضربة موجعة، بل اختلالًا هيكليًا قد يصعب تعويضه في المدى القريب.
إسرائيل ما بعد الخطوط الحمراء
يذكر أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أكّد أن "العملية مستمرة لأيام"، مشددًا أن إسرائيل قررت ضرب قلب المشروع النووي الإيراني، بعد وصول "التهديد الإيراني إلى مستويات لا يمكن التساهل معها".
ما يُميز هذه الضربة أنها أزالت الخطوط الحمراء التي حكمت العلاقة بين الطرفين لعقود، وجعلت من المواجهة المباشرة خيارًا فعليًا. إنها لحظة نهاية استراتيجية الردع المتبادل، وبداية ما يمكن تسميته بـ"الردع العدمي"، حيث الجميع معرض للخطر، ولا ضمانات لأحد.
الجغرافيا لم تعد درعًا
وقد تكرّس في السنوات الماضية نمط من الاغتيالات المنهجية الإسرائيلية لقادة في غزة ولبنان وسوريا، ومرورًا بعلماء في إيران، من دون ردود حاسمة أو إدانة دولية فعالة. هذه السابقة من الصمت الدولي مكّنت إسرائيل من فرض منطقها الأمني الأحادي على كامل رقعة الشرق الأوسط، مدعومة بشرعية غربية ضمنية أو معلنة.
اليوم، المنطقة كلها أمام معادلة مرعبة: فمن تصنّفه إسرائيل خطرًا وجوديًا، قد يُمحى جويًا في دقائق، سواء كان في طهران، دمشق، بيروت، أو حتى أبعد.
انهيار الداخل الإيراني؟
العملية كشفت هشاشة غير مسبوقة في البنية الأمنية الإيرانية، سواء عبر اختراقات استخباراتية دقيقة، أو تواطؤ داخلي محتمل، مما يفتح الباب أمام سلسلة اختراقات جديدة مستقبلًا، ويطرح تساؤلات مصيرية حول صلابة النظام، وإمكانية إعادة بناء الردع من جديد.