الخميس 12/يونيو/2025 - 08:57 م 6/12/2025 8:57:42 PM
رُبّ ضارة نافعة، مقولة مشهورة تثبتها التجارب، وهذا ما أكدته تلك الأزمة المفتعلة، التى صنعتها بعض القوى المتآمرة، التى يغذيها- للأسف- بعض الأشقاء، سواء عن عمد بغرض النيل من استقرار مصر والتشكيك فى مواقفها العروبية الراسخة، أو عن جهل بحقيقة الموقفين الدولى والإقليمى، إن الموقف المصرى الحالى فيما يتعلق برفض استغلال أمننا القومى وانتهاك أراضينا بحجج قد تبدو إنسانية فى ظاهرها، لكن الغرض الخبيث واضح للعيان، شأن لا يقبل المساومة ولا التساؤل ولا التشكيك.
ورغم سُعار الهجمة على مصر وشراستها، نجد أن لها جانبًا إيجابيًا يتمثل فى إظهار الشعب المصرى لأقصى درجات الوعى، وبلوغه قمة النضج السياسى، وحرصه على استقلال القرار الوطنى، بعدم الرضوخ للضغوط سواء جاءت من غريب أو قريب. فضلًا عن إصراره على حماية أراضيه أمام كل مضلّل مخدوع أو متآمر مخادع، الحضارة بمعانيها الحقيقية يمكن ترجمتها بمثل هذه المواقف التى لا تقبل مزايدات ولا تحتاج أى إيضاحات.
نحن شعب سلّم أمر إدارته لقيادة وطنية واعية، وهى حين تتخذ قرارًا أو تقف موقفًا تدرك أن خلفها كل جموع الشعب تؤيد وتساند- اللهم إلا بعض القطعان الشاردة أو المضللة أو المغيبة- وهذا ما يمكن رصده بوضوح أمس واليوم عبر وسائل التواصل أو فى حوارات المواطنين العاديين حتى وهم يقفون أمام المخابز فى انتظار الرغيف المدعم أو فى الأسواق أو فى زحام المواصلات، إذ أثبت هذا الشعب المتحضر فى كل المواقف التاريخية أن أمن الوطن وأمانه وسلامة أراضيه ومصلحة مواطنيه ثوابت أساسية لا تقبل النقاشات ولا المواءمات، وهى تسبق أى شأن داخلى يشغلنا كهموم البطالة أو غلاء الأسعار أو غيرها من المنغصات.
أدرك المصريون بوعيهم الحضارى أن الحصول على تأشيرة دخول البلاد حق أصيل للبلد المستضيف، وأننا لسنا بصدد تقديم مبررات للقبول ولا تفسيرات للرفض. أدرك المصريون أن احترام البلد المضيف أمر تنظمه القوانين وتصونه قوتها. أدرك الشعب المصرى أن الشعوب يفترض أن تتسق تحركاتها مع مواقف قادتها، وأن من تخلف عن حضور مؤتمر قمة لدعم فلسطين لا يتسق موقفه الآن وهو يدعم إقدام بعض هواة السياسة لديه على انتهاك سيادة الدول بحجة دعم القضية الفلسطينية، التى لم يدعموها بمجرد حضور مؤتمر خطابى وسياسى.
تعجب الشعب المصرى الواعى من قافلة ترفع شعار الصمود وتدعو لرفع الحصار المفروض على الأشقاء فى حين لم تحمل حافلاتها أو ترافقها شاحنات لتحاول إيصال المعونات الغذائية التى يحتاجها المحاصرون بديلًا عن الهتافات الحنجورية التى أتوا بها ولا شىء غيرها. تساءل الشعب المصرى عما إذا كان من حق البعض ممن يزعمون مناصرة القضية العادلة أن يفرض علينا مغامراته وعواقبها. وتعجب الشعب المصرى الواعى متسائلًا: ألا يدرك هؤلاء الهواة أن لفلسطين المحتلة حدودًا مشتركة مع دول عربية أخرى غير مصر يمكن الاحتجاج أمامها؟ وهل من الوطنية أن نرضخ لمن يرغب فيمن يخدم خطة التهجير القسرى للشعب الفلسطينى العظيم- جهلًا أو عمدًا- بتشجيعه على إخلاء القطاع ليندفعوا عبر معبر رفح نحو التراب الوطنى المصرى فتموت قضيتهم للأبد عند هجرهم أراضيهم؟
طرح الشعب المصرى الواعى سؤالًا منطقيًا مفاده: لماذا لم يتفهم القائمون على أمر القافلة الموقف المصرى الذى أُبلغوا به رسميًا- قبل عشرة أيام كاملة من افتعال الأزمة- برفض مصر السماح للقافلة بالمرور عبر أراضيها؟ ومن أين موّل المشاركون فى القافلة رحلتهم؟ ومن الذى تكفل بالإنفاق على المشاركين الوافدين جوًا نفقات طيران ذهاب وعودة وإقامة فى فنادق القاهرة؟ ولماذا حرصوا على دخول البلاد بجوازات سفر أجنبية رغم أصولهم المغاربية؟ ولماذا دخلوا بتأشيرة سياحية، وقد كان فى نيتهم غرض سياسى يصل إلى حد الإضرار بأمن البلاد؟
ألم يسمع هؤلاء القادمون ضمن القافلة- على افتراض حسن نيتهم- بتصريحات إخواننا من أهل غزة المنكوبة، والتى يرفضون فيها تلك القافلة شكلًا وموضوعًا؟ ألم يسمعوا برجاء الفلسطينيين أن يحل العرب مشكلاتهم الداخلية قبل أن يُقدموا على تحرير فلسطين عن طريق مصر؟! ألا يدرك هؤلاء أن غزة جغرافيًا تطل على البحر المتوسط وأن دخولها بحرًا أيسر كثيرًا من تلك المغامرات البرية والجوية؟ وهل كانت نيتهم صادقة حين نشر المدعو عماد التونسى منشورًا احترافيًا يُلقن فيه جموع المشاركين أربعة سيناريوهات متوقعة كرد فعل متوقع من السلطات المصرية تجاه القافلة وكيفية التعامل مع كل منها؟
من جديد، أبدى سعادتى برد الفعل الشعبى المصرى المساند لقيادته وإن كنت لا أستغربه، وأؤكد أن الإرادة الشعبية المصرية لا تختلف مع ولا عن الموقف الرسمى للقيادة من شديد تعاطفنا مع الإخوة فى قطاع غزة، ولكنه ليس التعاطف من طرف اللسان أو بالحناجر فقط. إن دفاعنا عن القضية الفلسطينية وإيماننا بعدالة قضية العرب الأولى قد دفعنا ثمنه غاليًا ولا نزال من اقتصادنا ومن دماء آلاف الشهداء. ورسالتنا اليوم واضحة للجميع بأن تجربة مصر الطويلة تقول لكم: ابتعدوا عن الشعارات والمواقف العنترية والخطب الحماسية واصطفوا فى منابر قانونية وتحت مظلة شرعية، وحينها ستجدوننا معكم، بل سنسبقكم نحو ساحات النزال سلمًا أو حتى حربًا.