إن أى هزيمة فى معركة عسكرية لا يمكن اعتبارها حسمًا نهائيًا لصراعٍ بين قوتين، حيث يمكن لأى قوة منهما أن تجتازها فى أشهرٍ أو سنوات. لكن هناك نوعًا من الهزائم يعنى أن ذلك الطرف المهزوم لن يمكنه الخروج من هزيمته بسهولة، وربما لن يمكنه ذلك مطلقًا! تمامًا مثل الفارق بين أن تحرق أو تدمر محصولًا زراعيًا، وبين أن تدمر التربة ذاتها.
مشهدان لوزير الدفاع الأمريكى مع قادة دول الناتو فصلت بينهما عدة أسابيع يؤكدان أن دول الشرق الأوسط قد سقطت فى هزيمة قد لا يتمكن بعضها من الخروج منها أبدًا، بينما سوف تعانى دولٌ أخرى منها لعقودٍ آتية.
المشهد الأول كان صادمًا للأوروبيين ذاتهم، ووصفه بعضهم لى بأنه يلخص حالة الغطرسة والاستعلاء الأمريكى على الأوروبيين.
كان المشهد لوزير الدفاع الأمريكى مخاطبًا دول أوروبا بأن عليها أن تنفق خمسة بالمائة من الناتج المحلى لكل دولة فى مجال الدفاع، وأنه على الأوروبيين أن يتحملوا نفقات الدفاع عن أنفسهم، وعليهم أن يتوقفوا عن الاعتماد على أمريكا فى الدفاع عنهم.
بدا الخطاب مهينًا لدول عريقة، لكنه كان يرتكز إلى حقائق بالأرقام مفادها أن إنفاق دول أوروبا على الدفاع كان يتراوح من دولة لأخرى من واحد ونصف فى المائة إلى ثلاثة فى المائة، وأن إنفاق الولايات المتحدة وحدها يمثل ما يقرب من ثلث ميزانية دول الناتو، بينما إنفاق كل دول أوروبا مجتمعة يمثل الثلثين.
ثم كان المشهد الثانى لنفس الوجوه منذ أيامٍ قليلة، لكنه أتى مختلفًا تمامًا. فكل دولة من دول أوروبا أتت هذه المرة بموافقات على زيادة إنفاقها فى مجال الدفاع بنسبٍ متفاوتة تقارب ما طلبه الوزير الأمريكى.
بدأت دول أوروبا فى الحديث عن وجوب إعادة بناء قدراتها العسكرية بما يتناسب مع سياسة دفاعية جديدة، كما وضعت كل دولة جدولًا زمنيًا للانتهاء من خططها هذه فى غضون ما يقرب من ثلاث أو أربع سنواتٍ مقبلة.
هذه المرة لم يكن المشهد عاصفًا أو مهينًا، بل كان مشهدَ حلفاءٍ يمثلون كتلة واحدة تتفق على مواجهة الأخطار المحتملة- وأيضًا اقتسام الغنائم المحتملة- كفريق واحد، وبدا المشهد الأول عارضًا عابرًا، فما يجمع هذه الدول من مصالح راسخٌ لا يقبل المقامرة.
هذا يعنى أن أى دولة سوف يكون قدرها مواجهة أى دولة عضو فى الناتو فسوف تواجه تكتلًا عسكريًا هو الأقوى فى العالم! التكتلات العظمى فى العالم توافقت تقريبًا على عدم المواجهة العسكرية المباشرة أو اتخذت قرارًا بعدم إشعال فتيل الحرب العالمية الثالثة.
قررت أن تتشاكس اقتصاديًا.. وأن تعتبر مناطق من هذا العالم كمناطق نفوذ أو استعمار بأشكاله التقليدية أو غير التقليدية. مناطق فقط للاستغلال ولا قيمة ولا حقوق لشعوبها مثل تلك التى تتمتع بها شعوب دول هذه القوى العظمى فى العالم. ولستُ فى حاجة إلى القول بأننى أشير إلى دول منطقتنا البائسة!
هذا يعنى أننا فى عصر التكتلات السياسية والعسكرية الكبرى. دول مختلفة فى مفردات كثيرة، لكنها توافقت على مبادئ عامة لحماية مصالحها وتحقيق الأمان والرخاء لشعوبها.
كيف وصلوا إلى ذلك وكيف وصلت دول الشرق إلى ما هى عليه الآن؟! فى مطلع القرن الماضى خاضت هذه الدول الغربية حربين دمرتا قوتيها العسكرية والاقتصادية.
خرجت هذه الدول عبارة عن أكوامٍ من الخراب والدمار. فماذا فعلت حتى تصل إلى ما هى فيه الآن؟ لقد تخلصت من الأوهام وقدست قيم العمل والعلم والقانون. خرجت النساء للعمل لسد نقص الأيدى العاملة. والعمل الذى قمن به هو عمل بدنى عنيف لبناء دولهن من جديد. ساعات عمل حقيقية متواصلة تصل لعشر ساعات تشارك فيها النساء والرجال. أعادوا بناء قدراتهم العسكرية بناءً على ما كان لديهم بالفعل من علوم عسكرية تصنيعية. فتحوا أبواب بلادهم لكل من يستطيعون الحصول منه على علم أو مال أو قوة بدنية للعمل. لم يسمحوا أبدًا لأى قيادات دينية أو مؤسسات دينية أن تتداخل فى مشهد البناء. لقد نحت هذه الدول جميع المؤسسات الدينية ورجالها جانبًا ولم تسمح لها أو لهم بالتداخل فى شخصية أو قوانين الدول. قوانين صارمة حاسمة بشكل حقيقى يتساوى أمامها الجميع.
وفى نفس هذه السنوات كانت دول الشرق الأوسط خارجة لتوها من عقود أو قرون الاحتلال، ورغم عدم امتلاك هذه الدول الشرقية ما كانت تمتلكه دول الغرب من علوم عسكرية أو تطبيقية، لكنها- أى دول الشرق- كانت لديها فرصة حقيقية للبناء وسط انشغال الغرب فى إعادة بناء قدراته. لكن وبعد هذه العقود هذا هو حال دول الشرق.. دول ممزقة داخليًا متناحرة ذاتيًا تقاتل فئاتٌ منها البعض الآخر فيحيلونها إلى خرائب. ودولٌ لديها قدرات اقتصادية هائلة تحولت إلى غنائم للغرب. ودولٌ قليلة باقية ما زالت تحتفظ بقوتها تجاهد للبقاء. وأزمة هذه الفئة الأخيرة من الدول أنها تقع وسط هذا المحيط المتهافت، فتجد نفسها فى أى وقت مطالبة بمواجهة تكتلات قوية بمفردها. مواجهة غير عادلة تمامًا.
ما فعلته حكومات الغرب منذ عقود- وهى فى غمار إعادة بناء قدراتها- هو أنها درستْ دولَ الشرق جيدًا ووضعت خططها لبقاء هذا الشرق غارقًا فى تيهه. فدولة مثل فرنسا، وبعد أن نفضت عن نفسها تمامًا أى هواجس لبقاء شيطان الطوائف على أرضها نشبت مخالبها فى أجساد دول عربية آسيوية مستخدمة نفس هذا الشيطان. فغدت تساند بعض الطوائف ضد بعضها الآخر من بنى جلدتها، وعملت على تكريس عوامل الفرقة والتنازع بين أبناء الوطن الواحد. ودولة مثل إنجلترا- وقبل خروجها من مصر- قامت بزراعة أخطر تنظيم سرى عميل فى الأرض المصرية.. أمدته بالمال ورسمت له الطريق الذى يمكن من خلاله إبقاء مصر فى حالة استنزاف للقوة والاقتصاد فقط من أجل مواجهة هذا التنظيم. ونفس هذه الدولة- حين تم اكتشاف مصادر الطاقة فى النصف الآسيوى من الدول العربية- رسمت خرائط ألغام بين هذه الدول قابلة للانفجار فى أى لحظة. وتكتل دول الغرب اتفق على تقسيم غنائم هذا النصف الآسيوى فيما بين أعضائه واتفقوا أيضًا على استنزاف هذا المصدر دون السماح لممتلكيه بالتمتع بحرية القرار.
لقد درسونا جيدًا ووضعوا لكل دولة من خطط السيطرة والإنهاك ما يتناسب مع خريطتها البشرية والنفسية وموروثها وأعرافها. كان الهدف واحدًا واضحًا.. أن يبقى هذا الشرق غارقًا فى دواماته وصراعاته البينية، سواء كانت هذه الصراعات دينية طائفية أو قبلية أو صراعات على الثروات بين رءوس السلطات بعيدًا عن الشعوب. منحوا هذه الرءوس الفرص لنهب ثروات شعوبهم والفرار بها إلى خزائن الغرب، فضمنوا بذلك السيطرة على الحكومات الفاسدة التى لا يستطيع أفرادها مواجهة شعوبهم، كما ضمنوا بقاء هذه الشعوب فى حالة تغييب وجهل وفقر وهزال اجتماعى وبدنى وروحى. هل لو لم تكن هناك إسرائيل فى الشرق كانت دول الشرق وشعوبها أحسن حالًا الآن؟! إننى أشك فى هذا كثيرًا، فنجاح زراعة هذا الكيان الاستعمارى جاء نتيجة لنجاح تلك الخطط وليس العكس. دراسة غرس هذا الكيان ثم تمدده عبر العقود، وعجز دول الشرق عن إزاحته يؤكد أن أسباب هذا العجز تكمن فى دول الشرق وليس فى قوة الغرب أو قوة الكيان ذاته.
لقد كرست إنجلترا مبدأ «فرق تسد» كسياسة عامة تستخدمها فى جميع خططها ضد شعوب الشرق ودوله. هذه حقيقة، لكن من منحها فرص تحقيق مبدأها الاستعمارى هذا؟ من قام بذلك هم شعوب الشرق ذاته الذين استجابوا بكامل اختيارهم لعوامل الفرقة والصراع. تجنيد آلاف المواطنين للعمل ضد أوطانهم- كقادة الجماعات الإرهابية- هو عمل تقليدى فى جميع المواجهات والحروب، لكن من منح إنجلترا أو غيرها هذه الفرصة الذهبية لقيامها بذلك بتلك السهولة؟ إن الذين قاموا بذلك هم من نفخوا فى نار الطائفية والتعصب الدينى فى أوطانهم عبر عقود سابقة فربوا أجيالًا متطرفة لا تؤمن بقداسة وطن وتضع القيم الوطنية فى مرتبة متدنية فى مقابل أى شعارات دينية يتم إلقاؤها إليهم كطُعم من محترفين. معامل تجنيد هؤلاء تقع فى دولٍ لا تسمح لمواطنيها أو المقيمين على أراضيها حتى بإظهار شعاراتهم الدينية! هى فقط تعد هذه المعامل كالمصانع الحربية العسكرية، وتعتبر هؤلاء مجرد طلقات سوف تستخدم فى أوقاتٍ معينة ضد أوطانهم. إن الحكومات الشرق أوسطية التى تسمح بالاستيلاء على عقول مواطنيها وشحن تلك العقول شحنًا دينيًا متعصبًا هى حكومات تتبرع بتقديم هؤلاء المواطنين كمشاريع مستقبلية محتملة لتفجير تلك الدول.
لذلك فأنا لا أوافق على تقمص شعوب الشرق دور الضحية. هذه الشعوب اقترفت فى حق أوطانها من الجرائم ما يفوق كثيرًا جدًا ما خطط له أعداؤها. إن كل شعب يستحق تمامًا ما آل إليه حاله الآن. شعوبٌ وضعت طوائفها الدينية والقبلية فوق الوطن، وتوهمت أنها آمنة طالما بقيت طائفتها أو قبيلتها فى سدة الحكم. نسيت تلك الشعوب أنها لا تعيش بمفردها، وأن كل دولة هى جزءٌ لا يتجزأ من الإقليم ومن العالم. وأن السياسة الدولية لم تتغير عبر التاريخ ولها قانونٌ واحد أزلى. أن تكون قويًا أو يتم التهامك. لو لم يكن الشرق مطمعًا لتم تطبيق هذه النظرية فى محيط الإقليم ولاقتصرت المخاطر والتهديدات على دول الجوار، ولكان الوصول لتفاهمات مع الجيران كافيًا للأمان. لكن قدر هذا الشرق أنه يمتلك مجتمِعًا من الثروات والموقع الجغرافى ما جعله دائمًا هدفًا لأطماع الغرب. لذلك لم يعد كافيًا أن تكون كل دولة فى المواجهة بمفردها. لقد أهدروا الفرصة تلو الفرصة لخلق كيان إقليمى قوى يستطيع ردع الطامعين وأصبح حالهم ما نراه الآن مما يشبه كثيرًا مرحلة ملوك الطوائف فى العصور الوسطى، حين كان كل زعيم طائفة يتلقب بلقب الملوك ويتناحر مع جيرانه حتى زالت ممالكهم للأبد.
لقد هُزم الشرقُ. هذه حقيقة واقعة لا يمكن التهرب منها أو تجميلها. ومن يحتمل تاريخيًا إثم هذه الهزيمة هم شعوب الشرق أنفسهم حكامًا ومحكومين. ومأساة الشرق الحالية أن هذا الجيل وما سبقه من أجيالٍ أخرى سوف يورّثون هذا الواقع الأليم لأجيال أخرى لاحقة. سوف يورثونهم إرثًا كريهًا من الطائفية والقبلية ونوازع التناحر والانتقام من بعضهم البعض. سوف يورثونهم نموذج العصور الوسطى الذى تخلصت منه شعوب الغرب. اللعبُ بالنار الذى مارسته بعض الأنظمة فى العقود السابقة بصناعة جماعات التطرف والإرهاب حرق أوطانًا ومزقها وتركها أشلاء أوطان، وترك بعضها الآخر على المحك. قبولُ بعض الشعوب بالرشاوى السياسية من بعض الأنظمة الفاسدة أنهك دولًا اقتصاديًا، ولم يعد ممكنًا لهذه الشعوب أن تجتث هذا السرطان من تربتها بسهولة. وما بقى من دولٍ فى الشرق على قيد الحياة يواجه أزمة وجودية كبرى. فبدلًا من أن تقوم هذه الدول بمحاولة بناء تنموية نهضوية تجد نفسها- فى كل مواجهة- فى مواجهة تكتلات إقليمية كبرى منفردة.
وهذا ما تواجهه مصر الآن. فيما يقرب من قرنٍ من الزمان حاولت مصر الإبقاء على قوة الشرق، وقدمت الغالى والنفيس فى سبيل ذلك. غضت الطرف عن الصغائر، وجادت بالمال والأرواح من أجل بناء تكتل شرقى متوازن، لكنها للأسف لم تنجح فى ذلك ليس تقصيرًا منها، وإنما لأنها كانت تخوض حرب بقاء الشرق هذه بمفردها. كانت مخلصة فى حربها، بينما كانوا مخلصين لطائفيتهم وقبليتهم ولم يؤمنوا يومًا بما كانوا يطنطنوا به. لم يكن مطلوبًا أن يذوب الكل فى واحد، أو أن تتخلى الشعوبُ عن شخصياتها المختلفة أو حتى أن تتخلى عن اعتزازها بالقبيلة أو الطائفة. لم يكن مطلوبًا أن نعتنق جميعنا قومية واحدة بالإكراه أو حتى أنْ نحبّ بعضُنا البعضَ. فشعوبُ الغرب لا يعشق بعضُها البعض، بل على العكس يحملون من أحداث التاريخ وذكرياته ما يجعل مشاعر الكراهية بين بعضهم حقيقة سرمدية، لكنهم نضجوا ووضعوا كل شىء فى نصابه الصحيح. المشاعر والشعارات لا تصنع قوة، إنما الاتفاق على صيغة واحدة تخلق الحماية للجميع هو ما يصنع القوة.
لم يكن مطلوبًا من شعوب الشرق أن تتخلى عن مشاعرها أو شعارات كل شعبٍ أو اعتزازه بهويته المستقلة، إنما كان المطلوب أن يبقى هذا الاعتزاز حصريًا ثقافيًا أدبيًا، ولا يحول دون الاتفاق على المصالح الاستراتيجية الكبرى الدائمة التى لا تتغير بتغير شخصية الجالس على العرش. كان المطلوب أن تبقى كل دولة ذات سيادة وطموح وأهداف مستقلة، لكن أن يكون هناك نصيبٌ متفق عليه من مورد كل دولة لتأسيس منظومة عسكرية متقدمة متطورة تتولى الدفاع عن شرف الجميع.
لكن هذا لم يحدث لأن مصر كانت تتعامل كثيرًا مع مراهقى سياسة لا مع حكامٍ تم إعدادهم للحكم. ابنٌ ينقلب على أبيه.. أخٌ يطمع فى الحكم لابنه بدلًا من أخيه.. قادة جيوشٍ لا يعرفون عن العسكرية الوطنية الحقيقية شيئًا تولوا مناصبهم دون وجه حقٍ أو انقلبوا على حكامٍ آخرين فحكموا شعوبهم بالحديد والنار أو بالرشوة والفساد أو بالخيانة الصريحة.. حكامٌ يعقدون اتفاقات الشيطان مع مجرمى تنظيمات مسلحة سرية للإبقاء على عروشهم أو لتنفيذ أوامر الحُماة أو للتخلص من خصومهم السياسيين.
ولا أبرىء بعض أنظمة الحكم المصرية من ارتكاب أخطاء مماثلة لما اقترفه بعض هؤلاء الحكام لدول الشرق الأخرى. ففى مرحلة ما لم يكن نظام الحكم المصرى على درجة كافية من النضج السياسى وحاول تغيير الهوية السياسية لبعض أنظمة الحكم فى دولٍ أخرى. قابلت هذه الأنظمة هذا التوجه بالتواطؤ المباشر ضد مصر مع أشد أعداء الشرق، ولم تخجل حتى الآن عن التباهى بذلك وإعلان أنها كانت من الفاعلين فى فرض الهزيمة العسكرية على مصر. وهكذا فقد أهدرت أنظمة الحكم هذه- مجتمعة- السنوات التى كان يمكن خلالها التوصل إلى صيغ توافق سياسى وعسكرى ناضجة تحفظ لهذا الشرق شرفه. لقد أهدروها فى محاولة إسقاط بعضهم البعض، وأهدروا مقدرات أوطانهم وتركوا إرثًا من الكراهية بين الشعوب. حين طالعتُ وثائق التواطؤ المنشورة فى بعض المراجع التاريخية أصابتنى صدمة كبرى وأدركتُ أن الشرق لم يكن أبدًا ضحية لكنه الذى فعل فى نفسه ما لم يفعله به أعداؤه. إن الأموال التى أنفقتها بعض أنظمة الحكم الثرية فى سبيل إسقاط نظام الحكم فى مصر مرة، وفى سبيل نشر التطرف والإرهاب فى تربتها مرة، وفى سبيل نشر دعايات سلبية مهينة عنها وعن شعبها مرة ثالثة، وإن الأموال التى أنفقها أحد أنظمة الحكم المصرية فى سبيل فرض نموذج سياسى بعينه على دولٍ أخرى، إن هذه الأموال فقط كانت تكفى لبناء قوة عسكرية مشتركة مستقلة عن الغرب لو كان هؤلاء الحكام مؤهلين حقًا للحكم. لقد كان الصراع بينهم أشبه بصراعٍ بين مراهقين لا علاقة لهم بسياسة أو حكم أو شعور بالمسئولية الوطنية الحقيقية عن حماية أوطانهم ومقدرات شعوبهم. وكان موقف غالبية شعوبهم- ولا يزال- أشبه بموقف المشجعين فى حلبة مصارعة لا يكترثون سوى بأن يصرع أحدُ المتصارعين الآخرَ دون إدراك أن هناك بالخارج من ينتظر أن ينقض على الجميع!
رغم أن أنظمة الحكم التالية لتلك الفترة البائسة حاولت أن تصوب هذه الخطايا وبدت أكثر نضجًا فى تقبل فكرة استقلالية كل دولة بشخصيتها وتقبل فكرة إمكانية التعاون المشترك رغم هذه الاستقلالية، لكن هذه المحاولة أتت متأخرة جدًا بعد ضياع العقود التى كان من المفترض أن يتم خلالها بناء قوة سياسية عسكرية مشتركة، وبعد أن تم بالفعل نجاح غرس عوامل أخرى لإرهاق هذه الدول. للحق وللإنصاف التاريخى أقول إن مصر- رغم خطأ ذلك النظام- كانت هى الأكثر إدراكًا لطبيعة الصراع فى الشرق، وكانت هى الأكثر إخلاصًا ووضوحًا فى سعيها لقيام تلك القوة المنشودة للحماية، وكانت هى الأكثر إسهامًا رغم توريط الجميع لها فى تحمل عبء المواجهة الأكبر.
حتى الكيان السياسى الوحيد الذى كان يمكنه أن يكون طاقة النور لتلك الشعوب الشرقية لم يتم التعامل معه بجدية.. تم نزع كل الصلاحيات الحقيقية للجامعة العربية وأصبحت مجرد منبرٍ رفيع المستوى لتسجيل المواقف، أو أحيانًا لإبراء الذمة.. لقد تحولت الشعارات إلى ما يشبه الملهاة الحزينة الكئيبة. يجلسون معًا يُسمعون الشعوبَ ما يخدر مشاعرها ويملأونها بالأمل، ثم ينفض السامر.. ضجيج بلا طحين سوى الوهم.
إن المشهد الثانى لاجتماع قادة الناتو، وتصميم كل دولة على تخطى الخلاف وحتى على بلع الإهانة الأمريكية، وتقديم كل دولة مقترحًا يتجاوب مع ما طلبه الشريك الأمريكى، ثم تدخل الأمين العام لتقريب وجهات النظر بصورة عملية وتقديمه اقتراحًا لسد الفجوة بين مطلب هذا الشريك وبين قدرات كل دولة، كل ذلك كان موجعًا جدًا لمن شاهده من أهل الشرق، لأن هذا التوافق وهذا الإصرار على الاتفاق على تطوير القدرات العسكرية معناه بوضوح أن أعداء الشرق جبهة واحدة قوية. لا أؤمن بحتمية صراع الحضارات ولا أروج للعداء بين الشرق والغرب، لكننى أقول ما نشاهده على الأقل فى الأعوام الأخيرة. دولنا أصبحت وبشكلٍ صريح هدفًا لهذا الغرب الذى عاوده الحنين للهيمنة الاستعمارية التقليدية. وشعوبُ الشرق تبرعت بمنحه أسباب النجاح. إننى مشفقٌ حقًا على الأجيال التالية فى دول الشرق الأوسط، لأنها سوف ترث إرثًا أسود وعارًا ثقيلًا.
أما نحن -المصريين-، فما زال أمامنا أملٌ كبير جدًا أن ندرك بلادنا، وعلى أقل تقدير أن نوفر لها من أسباب القوة المستقلة ما يعوضها عن قوة التكتل الذى لن تقوم له قائمة على المدى القريب. وإدراك مصر ونجاتها هو غاية هذا الحديث ومقصد كاتبه.
وفى الجزء الأخير من حديثى هذا سوف أقول ما أعتقد أنه سبيل النجاة لمصر بناءً على هذه الحقيقة الموجعة.. فقدان الأمل فى وجود تكتل شرقى عربى قوى على المدى القريب.