(1)
يقولون ويروجون هذه الأيام بأن مصر فى أزمة سياسية بسبب التغييرات الدرامية فى المشهد السياسى الإقليمى من قيام نظام حكم مرضى عنه غربيا فى دولة عربية آسيوية على يد قادة مليشيا سابقين تم إعدادهم للحكم بالخارج، واضطراب الأوضاع فى دول جوار مصر، ومحاولة تفجير حدودها الشرقية فى أى لحظة، وحدوث توترات بين مصر وبين القوى الأعظم دوليا بسبب رفض مصر مخططات تمس سيادتها، وأخيرا انضواء أنظمة حكم ثرية بشكل علنى فظ تحت طاعة كاملة لتلك القوى الأعظم ومحاولة السطو بالمال على مكانة ودور مصر السياسى!
يقولون أن مصر أصبحت محصورة وظهرها للحائط! من منطق هزيمة الشرق التامة والهرولة – بعد تلك الهزيمة – للارتماء طواعية فى بيت الطاعة السياسى، ورفض مصر منفردة لتلك الهرولة، فإن قولهم صدقٌ تام لا كذب فيه. نعم من هذه الزاوية التى يقبع فيها هؤلاء الذين بادروا بالطاعة التامة فهم قطعا يرون مصرَ وحيدة ظهرها للحائط. فهم يدركون بشكلٍ واقعى حقيقى أنه لم يعد لديهم ما يمنحهم شجاعة الوقوف معها. وأعتقد أن مقولةً تم نسبتها لسيدة منذ أكثر من خمسة قرونٍ ونصف قرن هى أصدق ما يلخص مشهد هؤلاء..(ابكِ كالنساء ملكا لم تدافع عنه كالرجال!).. لكنهم اليوم ليس لديهم الشجاعة حتى للإعتراف بالهزيمة والبكاء، لكنهم مشغولون بمحاولة إسقاط آخر ما تبقى من حصون شرقهم..مصر!
من هذا المنطق الواقعى الذى يقطع بأن الشرق ودوله اليوم – ككيان إقليمى - فى لحظة هزيمةٍ كبرى لعجزهم فى العقود السابقة عن الوصول لصيغة توافق ناضجة تحفظ لهذا الكيان شرفه واستقلاله والدفاع عن مقدراته يكون حقيقيا جدا أن الدولة الوحيدة الباقية ترفض وتواجه ولا تفرط هى فى أزمة حقيقية كبرى. مصر فى أزمة، لكن ليس بسبب ضعف موقفها أو تهافتها أو أزماتها الاقتصادية أو شرفها الذى أعلنت تمسكها به للنهاية أو بسبب ممارستها السياسة بشرف، وجودها ببعض قوت أبنائها على من لا يستحقون، لكن مصر فى أزمة لكونها إحدى دول الشرق المهزوم والمستهدف بأكمله من قوى وتكتلات قوية إقليمية تشمل دولا كبرى مجتمعة بمقدراتها وأموالها وأسلحتها وعلومها المتطورة. حين يُكتب على دولة قدرٌ جغرافىٌ وتوافقات حتمية لخوض مواجهات كجزء من إقليم، ثم تنظر حولها فتجد الجميع قد سقط، أو خان وسلم ثغوره، أو أنه لم يخض المواجهة ولم يهتم بمواجهتها من الأساس، حين يحدث هذا تكون هذه الدولة فى أزمة.
أزمة مصر الحالية هى أنها تخوض مواجهات لا تخصها بشكلٍ حصرى. هى تدفع فاتورة الدفاع عن شرف الشرق منفردة. هذه هى الحقيقة التى يدركونها جيدا، وتصيبهم بالجنون وتدفعهم – بدلا من محاولة التعلق بالأمل الأخير المرهون ببابها – إلى محاولة التخلص من هذا المشهد تماما بإسقاطها فيتساوى الجميع فى السقوط. هذه ليست فقط حالة حكومات، بل حالة كثيرٍ من شعوب الشرق. شعوبٌ تدرك يقينا أن حكوماتها تضجع فى سريرٍ واحد مع قادة الصهيونية، لكن أفراد هذه الشعوب يغضون الطرف عن ذلك ثم يملأون الدنيا صراخا ضد مصر! مرة بأن مصر تمنع وصولهم - باثنى عشر كليومترا من الحدود مع غزة - لتحرير القدس! ومرة بتنفيذ خطط أجهزة مخابرات والخروج بحشدٍ إعلامى بغية الوصول لإحداث فوض فى مصر تحت راية كسر الحصار دون أن يتوقفوا لمراجعة نشرات الأخبار المكتظة بتعاون حكوماتهم مع الكيان!
مذيعة عربية شهيرة جدا فى قناة صهيوعربية بامتياز تضع مقعدتها على كرسى صهيونى وربما تمر بسيارتها يوميا على أكبر القواعد التى انطلقت منها القذائف تصب حممها على رؤوس أهل القطاع، وربما يراقبونها فى غرفة نومها ويعرفون لون ملابسها الداخلية وهى تعرف كل ذلك، هذه المذيعة تطل علينا بوجهها القبيح لتعرض بمصر وتلعن من تسميهم بالدول المطبعة! تطبيق حرفى لمقولة العاهرة حين تتحدث عن الشرف! حقا ما أشرفكم!
(2)
هذه هى أزمة مصر التى لن تكون مواجهتها صحيحة دون أن يدرك المصريون طبيعة الأزمة. فى مثل هذا الموقف الذى تقف فيه دولة مثل مصر، يكون منطقيا أن تعيد ترتيب أوارق المواجهة، وربما أن تعيد التفكير فى بعض توجهاتها السابقة وغاياتها بما يصب فى اتجاهٍ واحدٍ هو تقوية نفسها فقط – حيث لا يوجد معها آخرون - فى المواجهة. حين يتعرى جميع المحيطين بها يصبح حقا أصيلا لها أن تعيد ترتيب أولوياتها، وتضع غايات جديدة لتحقيقها أو منع تحقيقها على حسابها. يصبح منطقيا وعادلا جدا أن يتغير هدفها من الدفاع عن إقليمٍ - قررت غالبية دوله وشعوبه تقديمه فى مزادات علنية أو التطوع بتمزيقه وتقديمه لقما سائغة لمن يملك قوة الالتهام – إلى الدفاع فقط عن ذاتها وشعبها ومقدراتها وحدودها. ويصبح نجاحها فى تحقيق هذه الغايات – وسط تلك المشاهد – هو نصرٌ كبير تنأى من خلاله بنفسها عن مشاهد هزيمة الشرق ومشاهد عاره وسقوطه. هذا ما يجب أن يدركه المصريون.
أنه ومنذ عقودٍ حين كانت هناك آمالٌ لتحقيق قوة إقليمية شرقية، كان وقتها الحديث عن قضايا شرقية إقليمية مشروعا، وكان وقتها الحديث عن كل الشعارات الإقليمية لدول عديدة منطقيا. لكن الآن وبعد أن سقط من سقط وباع من باع ومزق وطنه من مزق، يغدو حتميا على المصريين أن يكون منطقهم الأوحد أنه لا حديث بعد اليوم إلا عن قضية مصر. وأنْ يتيقن المصريون أنّ مصر لم تُهزم، وأنها مازالت فى موقفٍ يستطيع المصريون من خلاله – إن خاضوا الطريق الصائب – أن ينجوا بها ومعها. أى حديث مصرى شعبوى الآن عن تلك القضايا الإقليمية يعنى أن بعضنا لم يزل خارج دائرة الإدراك وخارج سياق اللحظة. رغم أننى من المؤمنين بالقومية المصرية منذ زمنٍ بعيد وبغض النظر عن تفاصيل المشهد الراهن، لكن هذا لا يعنى أن أى دولة يمكنها أن تعيش فى عزلة بعيدا عما يحدث حولها أو محيطها. لكن تغييرات المشهد الآن توجب على المصريين أن يعيدوا – كدولة – صياغة علاقاتهم بهذا المحيط. فيما يخص الاقتصاد ومفردات السياسة والدبلوماسية فلمصر مؤسسات قادرة قطعا على صياغة هذه العلاقات بشكلٍ جديد متطور مواكب لأى تغيرات. وهذا ما رأيناه فى الأيام الأخيرة وأدركنا معه أن مصر دولة قوية لديها الكثير من أوراق القوة وقادرة على التعامل مع أى تغيرات تطرأ على المشهد السياسى. رغم هذه الثقة اليقينة فى قوة مؤسسات الدولة المصرية العريقة، يبقى إدراك بعض التفاصيل – مما يجرى فى الشارع المصرى ومما تزدان به صفحات التاريخ - وتسليط الضوء عليها مهمة واجبة حتمية على المثقفين القيام بها. لأن مواجهة مصر الآن ليست شأنا خاصا بمؤسسات الدولة فقط، لكنه واجب قومى على جميع المصريين القيام به مجتمعين.
(3)
ماذا تملك مصر الآن من أدوات قوة تمكنها تعويض مشاهد هزيمة الشرق؟ وهل المطلوب فقط أن تجتاز مصر المواجهة الحالية أم أن تحصن نفسها مما سقطت فيه باقى ثغور الشرق لأجيال قادمة؟!
أول ما تملكه مصر ويجب أن يكون هو البديل عن مشاهد تهافت وسقوط الإقليم هو الداخل المصرى..هو المصريون أنفسهم. التلاحم الوطنى المصرى والتماسك المصرى ولا شىء غيره هو قوة مصر الأعظم. لن يسقط وطنٌ مهما كانت حجم التحديات والتهديدات الموجهة إليه إذا كان شعبه قد حسم أمره بعدم السماح بهذا السقوط. هذه مسلمة من ثوابت التاريخ.
من أجل تحقيق هذه الغاية – الحفاظ بصرامة على التماسك الوطنى المصرى أو تماسك الجبهة الداخلية - يجب أن تكون هناك مصارحة تامة عن أداء أجهزة الحكم التنفيذية فى مصر فى السنوات القليلة الماضية فيما يتعلق بهذه النقطة تحديدا. هل أخطأت هذه الأجهزة فى حساباتها فيما يخص حماية المشاعر المصرية الوطنية بالداخل؟ أعتقد أن الإجابة هى نعم. أعتقد أن الإدارة المصرية تدرك ذلك وأنها قد شرعت بالفعل فى اتخاذ إجراءاتٍ قوية لتصويب هذا الخطأ. هناك شعرة حادة فاصلة كانت على وشك أن تُقطع بين الوفاء بالتزامات مصر الإقليمية الأخلاقية تجاه دول الجوار وبين حماية المشاعر المصرية الجماعية.
من معايشة الواقع المصرى فى طبقاته الوسطى يظهر بقوة أنه قد كانت هناك مشاعر مصرية مختنقة ترفض بعض المشاهد داخل مصر، لكنها تلتزم الصمت احتراما لما قررته الدولة المصرية. لم يتقبل المصريون هذا التيسير المبالغ فيه أحيانا من قبل بعض إدارات الحكم المحلى فى بعض المحافظات فيما يتعلق بحصول مئات الآلاف من غير المصريين على حقوق ممارسات تجارية أو ممارستها دون الحصول على هذه الموافقات القانونية لسنوات، فى مقابل قيام نفس إدارات الحكم المحلى باتخاذ إجراءات قانونية صارمة تجاه نفس الممارسات حين يقوم بها مصريون. ولم يكن الغضب المصرى من شروع الدولة المصرية فى بناء بنية قانونية صارمة ملزمة للجميع لأن ذلك هو غايتنا جميعا لبناء دولة قوية، إنما كان الغضب من استثناء مئات الآلاف وربما ملايين من غير المصريين من الالتزام بنفس القوانين.
بعض الأحداث الأخيرة كانت مؤلمة للمصريين. فجأة فى محافظة جنوبية تتم إزالة عشرات المحلات والأكشاك التى ظلت لسنوات تمارس أنشطة تجارية دون أية ضوابط قانونية. فأين كانت أجهزة الحكم المحلى طوال تلك السنوات؟! إحدى الوقائع التى تم فيها محاولة الإعتداء على سيدة مصرية بسلاح أبيض وتم تداولها على وسائل التواصل قادت إلى أن محل الواقعة لم يكن حاصلا على تراخيص فتم غلقه. لكن فوجىء المصريون فى اليوم التالى بإعادة فتحه دون أن نفهم كيف تم الحصول على تراخيص فى يومٍ واحد. وما كان أكثر ألما هو هذا التطاول على مصر والدولة المصرية والمصريين الذى تبع إعادة الفتح!
هناك تساؤلات حول أداء أجهزة الحكم المحلى فى مصر فيما يتعلق بهذا الملف وما يمكن أن يؤدى إليه هذا الأداء من إيصال رسائل غاية فى السلبية إلى جموع المصريين وإلى جرح مشاعرهم الوطنية. إن وفاء الدولة المصرية بالتزامات أخلاقية فى السنوات الماضية لم يكن يعنى على الإطلاق أن تتوقف بعض هذه الأجهزة التنفيذية عن ممارسة مهامها. أعتقد أن المصريين فى حاجة لأن تبدى الإدارة المصرية تفهما واضحا لما حدث فى السنوات الماضية، وأن تتعاطى بشكل جديد مع مشاعر المصريين الوطنية فيما يتعلق باعتقادهم بأحقية التمتع بموارد مصر دون غيرهم. أن تعيد التأكيد على ما هو معلوم بالضرورة لأن الشعوب فى بعض اللحظات الحاسمة تحتاج إلى تلك المصارحات والمصالحات، وفى حالة الشعب المصرى الذى تحتل المشاعر الوطنية المكانة الأهم فى وجدانه تغدو تلك اللحظات ذات أهمية أكبر فيما هو آتٍ. شعر كثيرٌ من المصريين عبر السنوات الماضية، وبعد أن طالعوا التطاول عليهم مرارا وتكرارا ممن شاركوهم مقدرات بلادهم أنهم فى حاجة إلى إعادة الدفء لتلك العلاقة الخاصة بينهم وبين دولتهم. هذا هو الأساس الأول للحفاظ على التماسك الوطنى الداخلى ولإعادة ترتيب ما تمتلكه مصر من أوراق قوة وأهمها كما ذكرت هم المصريون.
(4)
لقد ساند المصريون دولتهم بشكل طبيعى يتفق وشخصيتهم التاريخية عبر السنوات الماضية، ومن مظاهر تلك المساندة هو الثقة التامة فى قرارات هذه الدولة فى هذا السخاء تجاه ملايين من غير المصريين وتعاملوا مع الموقف بأخلاقيات مصر التاريخية. ثم ثبت أن كثيرا من الذين عبوا من هذا السخاء لم يكونوا سوى متآمرين على من فتحت أبوابها لهم – ونحن نذكر تفاصيل الاتجار فى العملة الصعبة وجلب المخدرات ومحاولات الإخلال بالاستقرار المصرى وحملات التطاول على مصر وقيادتها منذ هجمات السابع من أكتوبر – ولقد أدركت مصر ذلك وتعاملت مع الموقف باحترافية دولة عريقة، وبقيت عدة نقاط لرأب هذا الصدع فى جدار الشعور المصرى الوطنى الجماعى..
النقطة الأولى أن يكون كل ما حدث هو حدٌ فاصل بين مرحلتين، الأولى هى المرحلة المنتهية بما فيها، والثانية التى بدأت مع تطبيق مصر لقوانينها والمضى قدما فى الطريق لنهايته مؤيدة بشعبها. فى هذه المرحلة الثانية وكما (نقول نقطة ومن أول السطر) فيما يخص أداء أجهزة الحكم المحلى فى عموم مصر. فمازالت بعض المشاهد قائمة، وكلما حدثت واقعة نكتشف مصادفة أن هناك أنشطة خارج القانون المصرى يمارسها غير المصريين.
النقطة الثانية المصريون فى انتظار حديث إعادة الدفء لتلك العلاقة التى أشرتُ إليها، أن يشعروا أن موقفهم بمساندة دولتهم مساندة مطلقة فى هذا الملف رغم كل ما احتملوه هو محل تقدير واستحسان من تلك الدولة مع وعدٍ أن تكون أبواب مصر مفتوحة فقط لمن يستحق طرقها.
النقطة الثالثة أن تتم محاسبة من قصر من المسؤلين التنفيذيين فى أى محافظة مصرية.
(5)
الأساس الثانى لطريق نجاة مصر من هزيمة الشرق هو أن يستوعب المصريون الأسباب الحقيقية التى قادت إلى سقوط الآخرين فيحذروها اليوم وغدا.
من استعراض أسباب سقوط الآخرين – كما أوضحت فى الجزئين السابقين – يبدو أن القاسم المشترك الأكبر فى هذه الأسباب هو الطائفية الدينية. لقد حمى الله مصر من وجود هذه المفردة بأن جعل شعبها المسلم ينتمى إلى مذهبٍ واحد، وجعل شعبها المسيحى أيضا بعيدا عن صراع الطوائف الدينية. لكن هذا لم يمنع من أن يكون الدين هو الذى تم استغلاله فى مصر لعقودٍ سابقة فأرهقها كثيرا. حين لم يجدوا مدخلا طائفيا صريحا لاستغلاله فى مصر، قرروا خلق فكرة جديدة هو أن المصريين فى حاجة إلى إعادتهم إلى صحيح الدين، وأنفقوا مليارات الدولارات عبر عقودٍ - وبعضها أموال شرقية خالصة - من أجل نشر هذا الباطل ليكون هو سلاح شق الصف المصرى وتمزيقه. من دراسة تاريخ مصر فى العقود السابقة يتضح أن الذين قاموا بذلك لم يكن جميعهم غير مصريين، وأن كثيرا منهم كانوا ينتمون بالفعل لمؤسسات دينية مصرية استغلوا حالة التسامح المصرية فتوغلوا ونشروا أفكارهم بطريقة ناعمة حتى جنوا أخيرا ثمار غرسهم المر، ومرت مصر بما نعلمه فى آخر أربعة عقود، وكانت ذروة نجاحهم فى ذلك الاشتباك المسلح ضد الدولة المصرية. نجحت مصر فى المواجهة المسلحة وبدأت فى محاولة مواجهة الأفكار نفسها. لكن يبدو أننا على وشك إعادة المحاولات الناعمة، وكأننا نعيد ما حدث فصلا فصلا. لذلك فمن أهم ما يجب أن تتنبه له مصر – وهى فى غمار إعادة ترتيب أوراقها – ألا تسقط فى الفخ الناعم مجددا. أن تنتبه بكل صرامة لأى محاولات للسيطرة مجددا على عقول الأجيال الجديدة من قبل من يعتنقون أيديولجية خلط الدين بالسياسة بمحاولة السيطرة المجتمعية للمؤسسات الدينية على مفردات الثقافة والتربية والفنون.
أى استسلام لتسليم الصغار لهؤلاء يعنى أن مصر تضحى بمستقبلها، وأنها تتخذ قرارا بإعادة تدوير ما حدث فى العقود السابقة. من أبسط قواعد الفطنة والكياسة والتفكير المنطقى أن ندرك أن الذين يريدون بمصر ذلك لن يجهروا صراحة به الآن، وأن نفس الكتالوج القديم سوف يتم تفعيله..مصطلحات من قبيل إعادة القيم الأخلاقية عن طريق منح مساحات أكثر للمؤسسات الدينية..وسوف يكون التركيز بقوة على محاولة الحصول على موافقات للهيمنة على الصغار لتنشئتهم كما يريدون. هم يعتقدون أن فشلهم الأول كان فشلا تكتيكيا ولم يتخلوا عن معتقداتهم لأنهم يؤمنون بقداستها وأنهم مأمورون بالعمل على تنفيذها. الحل بسيط جدا..التعليم المدنى ولا شىء غيره. حصر دور ومساحات نفوذ المؤسسات الدينية فى إقامة الشعائر الدينية الرسمية. الوقوف بقوة ضد أى محاولة لمنح دور تعليمى لتلك المؤسسات بعيدا عن مؤسسات التعليم الرسمية. لا ينبغى أن نضع المواجهة وأن نحصرها فى كيانات الجماعات الراديكالية التقليدية، إنما المواجهة مع الأفكار ومع من وما يقومون بترويجها بطرق فظة واضحة أو ناعمة. صغارنا هم جنود هذا الوطن غدا.
(6)
منذ أسابيع كتب أحد الأصدقاء على صفحته عبارة مهمة منبها ومحذرا..الأوطان تتآكل من الأطراف..فرددت عليه متيقنا أن مصر لن تُؤكل لا من أطرافها ولا من قلبها.
لكن يقينى هذا لا يمنع أننى أتوقف أمام عدة مظاهر فى الطرف الجنوبى لمصر أو محافظتها الحدودية الجنوبية. هناك مظاهر غريبة مريبة تلقى بكومة من التساؤلات عن أداء بعض الأجهزة التنفيذية، وما ترتب على تراكمات هذا الأداء. فى ظاهرة ملفتة انتشرت فى بعض مدن وقرى محافظة مصر الجنوبية أنواعٌ من المخدرات المدمرة لكل من يقترب منها ولا أمل إطلاقا فى التعافى منها وتحيل من يتعاطونها إلى وحوش آدمية بشكل يثير الرعب على مستقبل أجيالٍ قادمة. ترتب على تراكم هذه الظاهرة أن فقد بعض المواطنين الإحساس بالأمان فى بعض القرى والمدن فقرروا القيام بما هو أخطر..أن يهاجموا بعض ما يعتقدون أنه أوكارٌ لكبار التجار.
انتشرت فى مدينة أسوان وهى مدينة سياحية حدودية مظاهر فوضى مرورية غريبة. وكثرت حوادث استخدام الأسلحة البيضاء وغيرها. كثرت حوادث الاشتباك بالأسلحة البيضاء بين غير المصريين أحيانا فى مناطق حيوية من المدينة.
شىءٌ آخر حدث منذ أشهر أثار الدهشة..أكشاك شرطة السياحة التى كانت تنتشر أعلى شارع كورنيش النيل على طول امتداده عند مداخل مراسى الفنادق العائمة، هذه النقاط كانت لها أهمية قصوى فى تمتع السائحين بالإحساس بالحماية والتمتع بالتنزه آمنين فى أجمل شواع المدينة. فجأة ومنذ أشهر فوجئنا بنقل هذه النقاط إلى أسفل الشارع عند مدخل كل فندق عائم دون سبب مفهوم..لأن السائح حين يصل لتلك النقطة يكون قد وصل بالفعل للفندق وتقل الحاجة إليها فى تلك النقطة، إنما حاجته الحقيقية هى فى الشارع. أدى ذلك إلى عزوف الكثير من السائحين عن الخروج خارج الفندق..وهذا أسوأ ما يمكن أن نفعله من دعاية عن واحدة من أهم مدن مصر السياحية.
فقدت المدينة كثيرا من سمعتها العتيقة كمدينة تنعم بالسلام والهدوء والجمال. لقد أوصلت هذه المظاهر للمواطنين أفكارا فى منتهى الخطورة فى مدينة أو محافظة حدودية. أنا على يقين بأن مصر لن تُؤكل من أطرافها ولا من قلبها وأن أهلها قادرون على حمايتها سواء مؤسسات أو مواطنين. لكن هذا لا يمنعنى من الإشارة إلى أن ما يحدث يجب أن تكون له وقفة قوية من مؤسسات الدولة المصرية، وأن هذه الوقفة الصارمة المنشودة ليست فقط من أجل أنها من طبائع الأمور لما نطمح إليه من الحفاظ على كيان الدولة، وإنما لأن حماية الأطراف هو من تمام ما نتحدث عنه من ترتيب أوراق قوة مصر فى هذه المرحلة من المواجهة المنفردة للدفاع عن مصر فقط. ومن تمام الحفاظ على الأطراف أشير إلى هؤلاء الذين قاموا فى السنوات السابقة بمحاولات تهريب أعداد كبيرة من مواطنى إحدى دول الجوار عبر حدود مصر الجنوبية..هل تم حصار أنشطتهم ومحاسبة من تورطوا؟! إن محاولة خلق فوضى على حدود مصر الجنوبية لا يقل خطرا عن نفس المحاولة على حدودها الشرقية أو الغربية.
(7)
يجب أن يتم تدريس طلاب مصر مادة جديدة تماما اسمها القومية المصرية. مادة معلوماتية تجيب عن تساؤل من نحن وما هى هويتنا الحقيقية وما هو طموحنا لبلادنا..
هذه المادة تحتوى - حسب تصورى - خليطا من عدة علوم إنسانية، أولها موجز للتاريخ المصرى كاملٌ شاملا مفردات الحضارة المصرية من علوم وفنون. وثانيها ينبغى أن يكون مادة تثقيف سياسى تحيط أبناء مصر بما حدث على الساحة السياسية على الأقل منذ عام 1948م وصولا للآن. نحن لا نريد تلقين أبنائنا شعارات مبهمة، لكن أن نلقى بين أيديهم بوقائع وحقائق يدركون من خلالها قدر بلادهم، وما يحيط بها من محيط وما يتهددها وكيفية المواجهة. ويجب أن تحتوى هذه المادة فصلا تفصيليا عما قام به المتطرفون الدينيون فى مصر منذ تأسيس جماعة الإخوان الإرهابية وحتى اليوم. وأن يشمل هذا الفصل بكل وضوح وصراحة قائمة بأسماء كل من تورط فى تأييد الجماعات الإرهابية بالفتوى أو المشاركة الصريحة فى جرائم إرهابية من رجال الدين حتى لو كانوا ممن ينتمون إلى مؤسسات دينية رسمية. قوائم سوداء صريحة دون تحرج تشمل من كانوا بمثابة آباء روحيين لجماعات إرهابية فى مصر، ومن أفتوا بالقتل ومن برروا جرائم قتل. أقترح أن يتم تقسيم محتوى هذه المادة إلى مراحل متصاعدة حسب المرحلة العمرية حتى إذا ما وصل أحدهم للمرحلة الثانوية – سواء ثانوية عامة أو فنية - يكون قد انتهى بالفعل من دراستها. على أن تكون مادة دراسية حقيقية تُضاف درجاتها للمجموع!
(8)
أعود لبداية حديثى فأقول.. إن مصر – من زاوية إعادة ترتيب الأولويات – ليست ضعيفة وقادرة تماما على المواجهة والصمود شريطة ألا تخوض الدولة – أى المؤسسات – هذه المواجهات بمفردها. فالمصريون جميعا مسؤلون عن حماية بلادهم والخروج بها إلى آفاقٍ جديدة تليق بها. وشريطة أن يعيد المصريون التفكير فيما مروا به فى العقود الأخيرة وخاصة فى العامين الأخيرين. عليهم إعادة رسم اللوحة الكلية التى تشمل جميع المحيطين بهم بناء على المستجدات والمواقف. وشريطة أن يعملوا على استغلال أهم أسلحتهم – القوة البشرية - الاستغلال الأمثل. أن يستغلوا هذا السلاح الآن وأن يحموه غدا من التبرع به – عن جهلٍ – لأعدائهم الذين يبشر فى بلادنا لهم بعض من يعيشون بيننا وبعض من ينتمون إلينا. مصر فى هذه المواجهة بهذه المفردات ليست محصورة وظهرها ليس للحائط، لكنها دولة قوية راسخة. يؤسفنى القول أن أضعف ثغور مصر هو بعض ثغورها الثقافية سواء أشخاص أو مؤسسات. والثقافة التى أعنيها تشمل مؤسسات الثقافة التقليدية والإعلامية والفنية. وهناك الكثير من الحديث عن هذا الملف تحديدا. لكن كبداية أرى أن أفضل ما فى المشهد الثقافى المصرى وأقواه هو كيفية ردود عموم المصريين على ما يقوم به أو يتخذه بعض المثقفين من مواقف. وأشير هنا – كمثال لا أكثر – إلى موقف كثيرٍ من المصريين فى قضية تلك العائلة المسمومة ربيبة جهاز المخابرات الغربى المعروف وكيف ساند هؤلاء المصريون موقف الدولة المصرية المدافع عن سيادتها واستقلال مرفقها القانونى واستقلال قرارها السياسى. موقف يجب أن يخجل معه كثيرٌ ممن يعدون أنفسهم من النخب الثقافية أو الفنية أو الإعلامية.