الأربعاء 04/يونيو/2025 - 11:12 م 6/4/2025 11:12:34 PM
غدًا تقف قوافل الخلق على صعيد عرفات، تتشابك الألسنة بالدعاء، وترتجف القلوب على أبواب الرحمة، ويبسط الله - جلّ في علاه - عطاياه حتى لكأن الملائكة تُذهل من كثرتها.
يوم عرفة.. يوم تذوب فيه المسافات بين الأرض والسماء، وتنقلب فيه صفحات العمر السود إلى نور، إن صدقت النية وبكى القلب، ويقف البشر من كل فجٍّ عميق، حفاةً عراةً إلا من قلوبهم، وعلى عرفات، يتساوى الغني والفقير، الأمير والأسير، المتعلم والأمي، لا صوت يعلو فوق صوت الرجاء، ولا ظل إلا ظل الغفران.
إنه اليوم الذي يُرجى فيه للخلق عتق لا كعتق الملوك، بل عتقٌ يرفع من حضيض الذنب إلى مقام الرضا، وإن كان لكل يوم جلال، فعرفة مهابته تُذيب القلوب كما تذيب شمس الحجاز جليد الجباه.
في مثل هذا اليوم، وقف أحد كبار التائبين، أحد الذين عرفوا الله بعد ضلال، وبكوا بعد قسوة، وسجدوا بعد أن طال الوقوف في طريق الذنب.. إنه الفضيل بن عياض.
كان الفضيل بن عياض من قُطّاع الطرق في خرسان والكوفة، فقد اشتهر في بدايات حياته يأنه كان مثالًا للفجور والضلال بين الناس، وعٌرف بينهم كلص وقاطع طريق، يهابه المارة ويخشاه التجار، فلا يمر أحد من طريقه إلا وسُلب ماله أو أُريق دمه، وكان يسكن خرابة على أطراف بلدة، يتخذها مأوى بعد غاراته الليلية، ولم يكن يتورع عن اقتراف الذنوب، كبيرها وصغيرها، حتى صار اسمه مرادفًا للخوف والرهبة في نفوس أهل زمانه، ولم يكن فضيل مجرد عابر في دروب الفساد، بل كان منغمسًا فيه حتى أذنيه، وكان يحمل قلبًا حيًا دفنته المعاصي ولم يمت، كأنما اختار الشر طريقًا لا رجعة منه… حتى جاء اليوم الذي غيّر مجرى حياته، وكان سبب التغيير... آية!
ويحكي الفضيل قائلا: "كنت أتسور جدارًا لأصل إلى امرأة كنت مفتونا بها، فسمعت رجلًا يقرأ: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَق﴾ [الحديد: 16]، فوقفت مكاني، وكأن الآية تخاطبني وحدي أو خرجت من فم السماء لأذني وحدي، فارتجف قلبي وقلت: بلى والله قد آن "، ثم جلس يبكي، وفي لحظة خاطفة، لم تكن مجرد يقظة ضمير، بل بعثًا جديدًا، ترك قطع الطريق وهوى النفس، واستبدل السيف بالمصحف، والخوف الذي كان يُلقيه في قلوب الناس، بخوفٍ يُلقيه على قلبه من الله.
ورحل الفضيل إلى مكة، وآوى إلى الحرم، وأصبح من أعبد الناس، ومن أكثرهم خشوعًا، حتى صار يُلقّب بعابد الحرمين، وبدأ الناس يقصدونه للسؤال والوعظ، وامتلأت مجالسه بكلمات تهز القلوب، لأنه كان يتحدث من قلب مجروح بالتوبة، لا من عقل يحفظ النصوص، وكان يقول: "إنما يخاف اللهَ من عرف اللهَ.. ومن عرف نفسه علم أنه لا نجاة إلا بالعفو."
كان الفضيل كثير التفكر واللجوء لله في كل موقف، وإذا ذُكر الموت تغيّر وجهه، وكان يقول: "من خاف الله لم يضحك إلا تبسمًا، ولم يُسرّ إلا شكرًا "، وكان يوصي الناس بألا يحتقروا أنفسهم، قائلًا: إن لم تُحسن في ليلة عرفة، فمتى؟ إن لم تترك الذنب في هذا اليوم، فمتى؟، ومن ذكرياته في اللجوء إلى الله أنه كان له ولدًا طائشًا، شقيا، مستهترًا، يٌدعى عليا بن الفضيل، يؤذيه بسوء الأدب وقلة الصلاح، ومع ذلك، لم ييأس عليه، ولم يطرده من بيته، بل كان يدعو له ليلًا ونهارًا، وخاصة في يوم عرفه، فكان من دعاء الفضيل بن عياض - رحمه الله - لابنه علي: " اللهم إن ابني أعز الناس علي، وقد أفسده الشباب وفتنة الدنيا، وإني اجتهدت أن أؤدب عليا، فلم أقدر على تأديبه، فأدبه أنت لي، وخذ بناصيته إليك أخذ الكرام عليك، فهداه الله تعالى بدعاء والده له.
أما المشهد الأشد أثرًا، في يوم عرفة والذي جاء من الفضيل وهو الرجل الذي عرفته الطرقات من قبل لا كعابر سبيل، بل كقاطع طريق يقتات المظالم، فهو ما رُوي عنه في هذا اليوم المبارك، فقد وقف الفضيل يوم عرفة، حاسر الرأس، باكي العين، وقد سكب خدَّه في كفّه، لا يُسمع له إلا نحيب، حتى ظن من حوله أنه هالك، فلما قرب غروب الشمس رفع رأسه، ونظر إلى السماء، ثم قال:
"وا.. سوأتاه منك وإن غفرت لي".
يا له من دعاء… هو لا يقول: إن غفرت فقد نجوت، بل يقول: حتى إن غفرت، فما زلت أستحي من سوأتي!
إنه يقف أمام الله ليس كمن يأمل فقط، بل كمن يخجل حتى من قبول الغفران، يا لها من رتبة في الخشية لا يبلغها إلا من كان يعرف حجم ذنبه، ويعرف أن رحمة الله أكبر.. جملة تهز كيان من يسمعها، لا من باب سوء الظن برحمة الله، بل من فرط الحياء وشدة التواضع، أي أن ذنوبه - في نظره - أكبر من أن يُغفر لها، ومع ذلك، يعلم أن الله يغفر، فيستحي من أن تُغفر له أصلًا!
إن قاطع الطريق هذا أصبح لاحقًا إمامًا في الزهد والبكاء والخشية، وتحوّل من رهبة الناس إلى رهبة الله.
في عرفات، ليس العبرة بمن حج فقط، بل بمن وقف بقلبه ولو كان في بيته، من بكى في صلاته، من صدق في توبته، من اعترف بخيبته بين يدي الله، ولعل أكثر من يُرجى لهم الرحمة، هم أولئك الذين قالوا كما قال الفضيل: بلى والله قد آن!
ولنا أن نتأمل: لماذا يُعتق الله في هذا اليوم أمثال الفضيل؟
لأنه يعلم أن في القلوب ما لا تراه العيون، ويوم عرفة ليس فقط موسم حج، بل موسم كشف، ترى فيه وجوهًا تضيء، لا لأن لها أعمالًا كثيرة، بل لأن لها قلوبًا خاشعة.
يا من تقرأ الآن… لا تكن أقسى من طريق كان يقطعه الفضيل، فذلك الطريق رقّ قلبه عند أول آية.
ولا تيأس من نفسك، إن كانت لك خطيئة، فقد كانت للفضيل جبالٌ من الذنوب، وسجد فوقها، حتى صارت محرابًا.
في يوم عرفة، لا ترفع يدك فقط… ارفع قلبك.
وقل كما قال الزاهد الكبير: "وا.. سوأتاه… وإن غفرت"، هل وقفت يومًا بخدّك في كفك كما فعل الفضيل؟
إن لم تكن قد فعلت، فافعل غدًا... فإن لله في يوم عرفة عتقاء من النار، ما يُعدّ بعدد أهل الأرض.
فما أجمل أن يغفر الله، وما أوجع أن نستحي بعد الغفران!