حين تثبت مصر حضورها!

حين تثبت مصر حضورها!
حين
      تثبت
      مصر
      حضورها!

في صورة واحدة بدا المشهد أكبر من زيارة دبلوماسية معتادة. 

 

استقبال القاهرة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، يعكس تحولا لا يمكن تجاهله في تكتيكات الدبلوماسية المصرية. 

 

اختارت القاهرة إيصال رسائلها في لحظة إقليمية شديدة التعقيد بالطريقة التي تؤكد دورها الإقليمي الكبير.

لا يمكن للكبار أن يتركوا الساحة للفاعلين الصغار دون تدخل في الأوقات الحرجة التي تدق فيها نواقيس الخطر.

بالتاريخ والجغرافيا والإرث الحضاري، للشرق الأوسط كبار لا يمكن تجاهلهم عند إعادة صياغة معادلات النفوذ والحضور.

طهران تدرك هذه الحقيقة جيدا كما تدركها القاهرة وأيضا أنقرة.

على هامش التحولات الكبرى التي أحدثها طوفان الأقصى بالمنطقة بدت الرغبات الإيرانية والتركية للتقارب مع مصر أكبر من أي وقت مضى.

هذه الرغبات اعتراف جماعي بحجم وتأثير الدور المصري في مجريات الأحداث بالإقليم.

تراجع الدور المصري بعد أحداث الربيع العربي متأثرا بظروفه الداخلية، ورغبة في إعلاء التنسيق مع الأشقاء في الخليج حيال القضايا الكبرى.

ما إن تأكدت خطورة التراجع المصري في الملفات الخطيرة، تقدمت القاهرة مرة أخرى لناصية المبادرة وحاولت تعبئة الدعم اللازم لخطتها حول الحل في غزة رغم الاعتراضات النفعية الدولية والتأفف الخليجي.

بثبات على الموقف، أكدت مصر رؤيتها لحل القضية الفلسطينية بإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة المستقلة للشعب الفلسطيني.

قالها السيسي صريحة في بغداد "لا سلام في الشرق الأوسط دون إقامة الدولة الفلسطينية حتى لو نجحت إسرائيل في تطبيع علاقاتها مع كل الدول العربية".

كانت الرسالة واضحة والمعنى لا يحتمل التأويل، والتصريح نفسه أثار الزوابع لما له من أثر على معادلات تقاسم الحضور الإقليمي.

صدور تصريح بهذه الحدة عن "رئيس مصر" أربك كل الحسابات، وربما أفسد الكثير مما كان يخطط له في عواصم غربية بالتنسيق مع وكلاء إقليميين.

نشطت الدبلوماسية المصرية بعد احتدام الموقف في الفترة الأخيرة للتأكيد على الموقف المصري الراسخ، وبدأت القاهرة تلمح لإمكانية تغيير استراتيجياتها حيال الكثير من الملفات والعلاقات الدولية.

لا يمكن قراءة استقبال عراقجي في هذا التوقيت الحرج بمعزل عن هذا السياق.

بدوره حاول عراقجي خلال الزيارة تأكيد اهتمام بلاده بتعزيز العلاقات مع مصر. لم تقتصر تحركاته على الأجندة الدبلوماسية، بل مضى إلى ما هو أعمق وأكثر رمزية، فاختار أداء الصلاة في مسجد الإمام الحسين، وتناول العشاء في خان الخليلي بصحبة شخصيات مصرية بارزة، في إشارات لا يخطئها مراقب.

المسألة لا تقتصر على حضور مسؤول إيراني رفيع إلى القاهرة، بل على دلالات المكان والزمان والمضمون، في وقت تشهد فيه المنطقة ترتيبات جديدة لما بعد الحرب على غزة، وما بعد تفكك النظام الإقليمي القديم.

لقاء عراقجي بالرئيس عبد الفتاح السيسي ووزير الخارجية المصري الدكتور بدر عبد العاطي لم يكن بروتوكوليا فقط، بل عكس مستوى جديدًا من الانفتاح المتبادل.

في كلماته، بدا عراقجي واعيا لحساسية اللحظة وتحدث عن "مرحلة جديدة في العلاقات المصرية الإيرانية"، وأشار إلى تطور غير مسبوق في مستوى الثقة والتعاون السياسي بين البلدين.

ما وراء هذا التصريح ليس مجرد تحسين في العلاقات الثنائية، بل عودة إلى ما يمكن تسميته بـ"التوازن الإقليمي البديل"، حيث تعود مصر وإيران إلى واجهة الفعل الإقليمي، ليس باعتبارهما محورا جديدا، بل باعتبار كل منهما ركيزة في معادلة الأمن الإقليمي التي تترنح منذ عقود.

من خلال ما صدر عن لقاءات عراقجي في القاهرة، يظهر إدراك مشترك لدى الطرفين لمسؤولياتهما التاريخية تجاه الإقليم. فإيران ومصر، رغم اختلاف المسارات، يجمعهما إرث حضاري وثقافي عميق، وموقع استراتيجي بالغ الحساسية تطل كل منهما على ممرات ملاحية مهمة، كما يجمعهما في الوقت الراهن إدراك بأن الفراغ في النظام الإقليمي يملأه آخرون.

في لقائه مع ثلاث وزراء خارجية سابقين — عمرو موسى، نبيل فهمي، ومحمد العرابي — بدت الرسالة وكأنها مراجعة لمسار العلاقات المصرية الإيرانية خلال فترات الجمود السابقة.

كان النقاش، بحسب مصادر مطلعة، يدور حول رؤية جديدة لدور مصر وإيران في استعادة الاستقرار الإقليمي، بعيدا عن منطق المحاور الصدامية، وقريبا من منطق التفاهمات الاستراتيجية التي تحفظ لكل دولة دورها ومصالحها.

في خلفية اللقاءات يبرز ملف غزة باعتباره المحك الحقيقي لأي تفاهم مصري إيراني. وأكد عراقجي صراحة دعم بلاده للجهود المصرية القطرية لوقف إطلاق النار، مؤكدا وجود مشاورات مكثفة تجري في هذا الشأن. وفي الوقت نفسه، حرص على الإشارة إلى علاقات إيران بجماعة أنصار الله اليمنية، لما لعملياتهم بالغ الأثر على حركة التجارة الواردة إلى قناة السويس.

أكد عراقجي على أهمية تقليل التوتر في البحر الأحمر، استجابة للمخاوف المصرية من تداعيات العمليات البحرية التي قد تمس الأمن القومي المصري. 

في جوهر التفهم الإيراني للمخاوف المصرية محاولة لإعادة تعريف الدور الإيراني نفسه في الإقليم على نحو أكثر براجماتية، لا يصطدم بل يراعي مصالح القوى الأخرى.

حاولت القاهرة تقديم المساعدة لإيران في مفاوضتها النووية مقابل دعم طهران للدور المصري في غزة. رتبت الخارجية المصرية لقاء مع مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافايل جروسي، بحضور وزير خارجية مصر.

الرسالة الأهم في هذا السياق، هي تلك المتعلقة بالمفاوضات النووية مع الولايات المتحدة، والتي تتم بوساطة عُمانية. شكر عراقجي مصر على دعمها للمسار الدبلوماسي، وأعلن من القاهرة استعداد بلاده للتوصل لاتفاق إذا تخلت واشنطن عن مطالبها غير الواقعية.

اكتسبت الرسالة أهمية مزدوجة: لأنها صدرت من القاهرة التي بدت وكأنها تعود لدورها القيادي في لعب الوسيط، لا بين الفصائل الفلسطينية فقط، بل أيضا في المسائل الأوسع المرتبطة بالأمن الإقليمي والتوازن النووي في المنطقة.

لم تكن الوساطة المصرية في ملف المفاوضات النووية خارج السياق، فالقاهرة صاحبة مبادرة منع الانتشار النووي التي قدمتها للأمم المتحدة منتصف سبعينيات القرن الماضي.

كان الغرض من المبادرة تحجيم التطلعات الإسرائيلية النووية، والآن تضع مصر الملف كله على المحك.

ما حدث في القاهرة قد لا يكون نقطة تحول كبرى في مسار العلاقات، لكنه بلا شك ليس أمرا اعتياديا، فلأول مرة منذ عقود، يتحدث مسؤول إيراني رفيع من قلب العاصمة المصرية عن تقاطع المصالح لا تضادها، وعن بناء الثقة لا خرقها، وعن التعاون لا الاستقطاب.

 

تسير مصر وإيران، كلٌ وفق حساباته، في اتجاه قد يضع حدا للجمود، ويفتح نافذة أمام ما يمكن تسميته بـ"سياسة عقلانية متعددة المحاور"، لا خضوع فيها لمحور، ولا استدعاء فيها لعداوات قديمة.

 

ربما لا يزال الطريق طويل، ولا تزال ألغام كثيرة على جانبيه، لكن المؤكد أن الصورة التي خرجت من القاهرة تؤكد أن مصر تبقى البوصلة، وإيران تقرأ الخريطة من جديد. وما بينهما، مستقبل يمكن أن يكون أكثر استقرارا، إن صدقت النوايا.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق محافظ المنوفية يسلم مساعدات مالية ولحوم ومواد غذائية وكراسي متحركة لـ150 حالة إنسانية
التالى محافظ المنوفية يسلم 80 جهاز عروسة للفتيات اليتيمات المقبلات على الزواج