الحكومة تشرّع السطو على جنى عمر الناس

لبنان24 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
بعد الإقرار المبتور لمشروع قانون الفجوة المالية في حكومة بدت منقسمة على نفسها يُطرح أكثر من سؤال عن طريقة العمل الحكومي في الأشهر القليلة المقبلة، وهي التي بدت عاجزة عن اقناع تسعة وزراء بجدوى هذا المشروع، الذي اعتبرته أوساط اقتصادية "سطوًا مشرّعًا" للودائع، الذي لم يعد مجرّد نص تقني لمعالجة أزمة مالية غير مسبوقة، بل تحوّل، بصيغته المطروحة، إلى أخطر محاولة تشريعية لتقنين الانهيار، وتبرئة المسؤولين عنه، وتحميل كلفته للضحية بدل المرتكب. إنّه قانون لا يسدّ فجوة، بل يفتح فجوة دستورية وأخلاقية عميقة بين الدولة ومواطنيها.
وفي رأي هذه الأوساط أنه من حيث المبدأ، لا يمكن لأي تشريع أن يتجاوز الدستور اللبناني، ولا سيما المادة 15 التي تحمي حق الملكية حمايةً صريحة لا لبس فيها. والودائع المصرفية، مهما حاول البعض تمييع توصيفها، هي ملكية خاصة مكتسبة، لا يجوز المساس بها إلا في حالات محددة، ولأسباب منفعة عامة واضحة، ومع تعويض عادل وفوري. ما يقترحه قانون الفجوة المالية هو العكس تمامًا. هو اقتطاع مقنّع، أو شطب تدريجي، أو تحويل قسري للودائع، من دون منفعة عامة محددة، ومن دون تعويض، ومن دون مساءلة.
وترى هذه الأوساط أن الأخطر من ذلك هو أنّ المشروع يكرّس تمييزًا فاضحًا بين اللبنانيين، في انتهاك مباشر لمبدأ المساواة أمام القانون. مودعون هرّبت أموالهم قبل الانهيار، وآخرون حُجزت ودائعهم بعده. مودعون استفادوا من نفوذ سياسي أو مصرفي، وآخرون تُركوا لمصيرهم. أي عدالة هذه، وأي قانون هذا الذي يُشرعن اللامساواة بدل تصحيحها؟
وتعتقد هذه الأوساط أن ثمّة خللًا بنيويًا آخر لا يقل خطورة، يتمثّل في الطابع الرجعي المقنّع للقانون. فالودائع تكوّنت في ظل قوانين وأنظمة مصرفية ونقدية كانت الدولة نفسها تشرف عليها. فتحميل المودعين اليوم نتائج سياسات مالية ونقدية خاطئة، أُقِرّت لاحقًا، هو انتهاك صريح لمبدأ عدم رجعية القوانين ومساس بالحقوق المكتسبة.
أما القضاء، فيُراد له أن يكون شاهد زور. فالمشروع لا يوفّر للمودعين آليات واضحة للطعن أو المراجعة، ولا يضمن حق التقاضي الكامل، في مخالفة فاضحة للمادة 20 من الدستور. تشريع يُقفل أبواب العدالة أو يفرغها من مضمونها، هو تشريع ساقط دستوريًا مهما جرى تجميله بالأرقام والجداول.
لكن بيت القصيد يبقى في مكان آخر، على حدّ ما تقوله تلك الأوساط، إذ أن قانون الفجوة المالية يتعمّد القفز فوق السؤال الجوهري وهو من تسبّب بالأزمة؟ الدولة، أم مصرف لبنان، أم المصارف، أم إداراتها، أم مجالسها، أين هو تحديد المسؤوليات المدنية والجزائية، أين المحاسبة؟ إن تشريع توزيع الخسائر من دون تحديد المرتكبين ليس إصلاحًا، بل عفو تشريعي مقنّع، وتبييض سياسي ومالي لأكبر جريمة اقتصادية ومالية في تاريخ لبنان.
وما يزيد الشكوك، هو قلب التسلسل التشريعي رأسًا على عقب. فبدلًا من إقرار قانون عادل ل" الكابيتال كونترول"، ثم إعادة هيكلة المصارف، وتحديد الخسائر والمسؤوليات، يُصار إلى البدء بقانون الفجوة، أي بتحميل النتائج قبل معالجة الأسباب. هكذا لا تُبنى دول، ولا تُستعاد ثقة، ولا يُقنع صندوق نقد ولا مجتمع دولي.
ليس هذا القانون حلًا، بل إعلان إفلاس أخلاقي للدولة. ليس معالجة، بل تشريع للظلم. وليس إصلاحًا، بل محاولة لتمرير الانهيار تحت قبّة البرلمان. والخطر الحقيقي لا يكمن في حجم الفجوة المالية، بل في تحويلها إلى نص قانوني يُكرّس أن الدولة، حين تعجز، تختار دائمًا الطريق الأسهل: مدّ يدها إلى جيوب مواطنيها بدل محاسبة نفسها.
والأخطر من كل ذلك أن مجلس النواب في عقده الاستثنائي سيدخل في "بازار" مع الحكومة، بحيث يصار إلى تمرير مشروع قانون الفجوة المالية في جلسة سيدعو إليها الرئيس نبيه بري بعد الأعياد مباشرة، وسيقاطعها بالطبع النواب أنفسهم الذين قاطعوا آخر جلسة تشريعية. وهذا يعني أن المشروع سيصبح قانونًا في مقايضة مكشوفة قد يتم اللجوء إليها من قِبل "ترويكا" الحكم، وتقضي بسير الحكومة بالانتخابات النيابية وفق القانون الحالي من دون إجراء تعديلات عليه.
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق