الانتظام المالي على طاولة مجلس الوزراء: تصفية الودائع بطريقة غامضة

لبنان24 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
يعقد مجلس الوزراء جلسة عند الساعة الثانية من بعد ظهر اليوم في القصر الجمهوري في بعبدا، يتصدر جدول أعمالها مشروع قانون الانتظام المالي واسترداد الودائع.
من الناحية القانونية، يشكّل المشروع خطوة مفصلية لأنه ينهي مرحلة إدارة الأزمة عبر التعاميم والاستنساب، وينقلها إلى إطار تشريعي صادر عن السلطة التشريعية. غير أن هذا الانتقال لا يكون كافياً بحد ذاته إذا لم يرفق بمعايير واضحة لتحديد الخسائر ومصادرها، وبمسار محاسبة فعلي يربط توزيع الخسائر بالمسؤوليات.

أما مالياً، فيبرز الخلاف الأساسي حول ترتيب تحمّل الخسائر، ودور موجودات مصرف لبنان، في حماية صغار المودعين. فبينما ترى الحكومة أن المشروع يحمي الغالبية الساحقة من المودعين ويؤسس لمسار تدريجي لاسترداد الحقوق، تعتبر المصارف أن تجاهل تسييل جزء من أصول المصرف المركزي يفرغ شعار حماية المودعين من مضمونه.

وأشار رئيس الحكومة نواف سلام إلى أن هذا المشروع يأتي في سياق الانتقال من إدارة الأزمة إلى معالجتها ضمن إطار قانوني واضح، مؤكداً أن الدولة لن تلجأ إلى حلول مؤقتة أو مسكنات، بل إلى مسار قائم على الشفافية والعدالة وقابلية التنفيذ.

وفي ما يخص المودعين، أعلن سلام أن المودعين الذين تقل ودائعهم عن 100 ألف دولار، ويشكلون نحو 85% من إجمالي المودعين، سيستعيدون كامل ودائعهم على مراحل خلال أربع سنوات. أما المودعون المتوسطون والكبار، فسيحصلون على مبلغ 100 ألف دولار نقداً، إضافة إلى سندات قابلة للتداول بقيمة رصيد ودائعهم من دون أي اقتطاع من أصلها.

في صيغته المطروحة، يأتي مشروع قانون الفجوة المالية كاستجابة تشريعية متأخرة لانهيار مالي غير مسبوق، فيسعى، كما يقول استاذ الاقتصاد بلال علامة، إلى إدخال الفوضى النقدية في إطار قانوني منظَّم. أو بعبارة أدق، يتضمن مشروع القانون محاولة لتنظيم قانوني لفوضى أدّت إلى خسائر تُقدَّر بنحو ثمانين مليار دولار. وبهذا المعنى، يحمل المشروع حسنة أساسية لا يمكن إنكارها، تتمثّل في الاعتراف الرسمي والصريح بوجود خسائر فعلية في النظام المالي وضرورة معالجتها بقانون، بدلاً من تركها رهينة الاستنساب أو خاضعة لتعاميم إدارية صادرة عن مصرف لبنان أو قرارات مصرفية أحادية. كما يضع، من حيث المبدأ، حدّاً لحالة الإنكار السياسي، ويقرّ بصراحة بأن السلطة تسببت بخسائر على مدى عشرين عاماً، ويشكّل شرطاً تقنياً لا غنى عنه لأي تفاوض جدّي مع صندوق النقد الدولي. ويُفترض نظرياً أن يكون هذا القانون، بحسب علامة، مدخلاً لإعادة هيكلة القطاع المصرفي وتوحيد المعايير المحاسبية بين الدولة والمصارف والمصرف المركزي، بما يحدّ من الفوضى القانونية، ويمنع استمرار الاستنسابية في السحوبات والتحويلات، ويؤسّس، ولو شكلياً، لانتقال من إدارة الأزمة بالأمر الواقع إلى إدارتها بنص تشريعي واضح صادر عن مجلس النواب .
إلا أنّ هذه الحسنة النظرية تصطدم، وفق علامة، بثغرات قانونية ودستورية عميقة، تجعل من القانون، بصيغته المتداولة، أقرب إلى تشريع للأزمة أو إلى تسريح مؤجّل لها، لا إلى حلٍّ فعلي. فالاعتراف بالخسائر لا يواكبه أي مسار للمحاسبة أو لتحديد المسؤوليات، ما يحوّل القانون من أداة لتحقيق العدالة المالية إلى أداة لتوزيع الخسائر فقط، ويُكرّس منطق تحميل النتائج من دون مساءلة الأسباب، في خرق واضح لمبدأ سيادة القانون ولمفهوم العدالة التصحيحية. كذلك، فإن معالجة الفجوة المالية عبر الاقتطاع المباشر أو غير المباشر من الودائع، سواء من خلال شطبها أو تجميدها أو تحويلها قسراً إلى أدوات مالية طويلة الأجل، يثير إشكاليات خطيرة، لا سيما أن هذه الأدوات ستُربط بموجودات مصرف لبنان كضمانة للتسديد. وينطوي هذا الربط، وفق قراءة علامة، على إشارة ضمنية إلى موجودات المصرف من الذهب، ما يجعل هذا الشرط كارثياً على قيمة هذه الأدوات المالية وعلى مخزون الشعب اللبناني من الذهب، وقد يطرح إشكالية دستورية جدّية تتصل بحماية الملكية الخاصة والحقوق المكتسبة. إذ لا يجوز لأي قانون عادي أن يصادر أموالاً خاصة من دون حكم قضائي فردي أو مسار قانوني عادل ومتدرّج، وإلا تحوّل إلى تشريع استثنائي يُفرغ الضمانات الدستورية من مضمونها.

ويُضاف إلى ذلك أن القانون، بدلاً من أن يساوي بين المودعين، يُدخل، كما يشير علامة، تمييزاً طبقياً مقنّعاً تحت عناوين تقنية، فيفرّق بين فئات الودائع بحسب أحجامها وتواريخها، من دون أي معيار موضوعي مرتبط بمصدر الأموال أو بمسؤولية أصحابها عن الانهيار، ويؤدي ذلك عملياً إلى معاقبة من أبقى أمواله داخل النظام المصرفي، ومكافأة من هرّبها أو حوّلها في الوقت المناسب، ما يقوّض مبدأ المساواة أمام القانون، ويحوّل الخسارة من أزمة عامة إلى ظلم فردي مشرّع، علماً بأن المسبّب الرئيسي للأزمة هم الذين عمدوا إلى تحويل أرباحهم إلى الخارج أو تهريب الأموال طوال سنوات الأزمة.

والأخطر أن القانون، بصيغته الحالية، يمنح، كما يقول علامة، حصانة ضمنية للمصارف وللسلطات النقدية والمالية، من خلال تجاهله لمسؤولياتها الإدارية والجزائية. فهو لا يربط توزيع الخسائر بأي تدقيق فعلي في كيفية تكوينها، ولا يلحظ آليات لاسترداد الأرباح غير المشروعة أو الأموال العامة المهدورة، فيتحوّل إلى شكل من أشكال العفو المالي المقنّع، من دون النظر إلى الوضعية الفعلية للمصارف أو إلى إمكانياتها المتعلقة بإعادة الودائع المتفق على إعادتها والمحددة بمئة ألف دولار لكل شخص. وبذلك يؤسّس لسابقة تشريعية خطيرة مفادها أن الفشل المنظومي يمكن معالجته دائماً عبر تحميل كلفته للمجتمع، لا لمسبّبيه.

أما على المستوى الدولي، فعلى الرغم من أن وجود قانون ينظّم الفجوة المالية يُعدّ مطلباً تقنياً أساسياً لأي برنامج إنقاذ، فإن تعارض هذا القانون مع المعايير التي تشترطها المؤسسات الدولية، ولا سيما في ما يتعلق بأولوية إعادة هيكلة المصارف، وحماية صغار المودعين، وربط الخسائر بالإصلاح القضائي والحوكمة، يجعله، بحسب علامة، قانوناً هشّاً وقابلاً للطعن، وقد يفتح الباب أمام نزاعات قضائية داخلية وخارجية، ويعرّض الدولة لمخاطر قانونية إضافية بدلاً من أن يخففها.

خلاصة القول إن قانون الفجوة المالية، من حيث المبدأ، ضرورة لا يمكن تجاوزها، لأن البديل عنه هو استمرار الانهيار من دون أي إطار قانوني. غير أن قيمته الحقيقية لا تُقاس، كما يقول علامة، بمجرد وجوده، بل بمضمونه. فإذا أُقرّ من دون تصحيح جذري لثغراته، سيسجَّل كقانون ينقل الخسارة من دفاتر المصارف إلى كاهل المواطنين، من خلال تصفية الودائع بطريقة غامضة ومن دون اعتماد معايير واضحة أو شفافة للتقييم، ويُشرعن انهيار الثقة بدلاً من استعادتها. أما إذا أُعيدت صياغته على أساس المحاسبة أولاً، وحماية الحقوق الدستورية، وتوزيع عادل ومتدرّج للخسائر، فيمكن أن يتحوّل فعلاً إلى حجر أساس في مسار التعافي المالي وبناء دولة قانون، لا دولة تصفية أزمات.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق