Advertisement
الذرّة والهاوية: ماذا يعني تخصيب اليورانيوم؟
تخصيب اليورانيوم هو العملية التي يتم فيها زيادة نسبة النظير النادر "اليورانيوم-235" داخل اليورانيوم الطبيعي. هذا النظير، الذي يشكل أقل من 1% من اليورانيوم الموجود في الطبيعة، هو القادر على الانشطار النووي، أي إطلاق طاقة هائلة عبر سلسلة تفاعلات متسلسلة. وعندما تُرفع نسبة هذا النظير إلى مستويات عالية، يصبح بالإمكان استخدامه كسلاح لا كوقود.
لكن لماذا اليورانيوم-235 بالذات؟ وما الفارق بينه وبين شقيقه الأكثر وفرة، اليورانيوم-238؟
عند استخراج اليورانيوم من باطن الأرض، نجد أن 99.27% منه هو يورانيوم-238، الذي يحتوي على 92 بروتونًا و146 نيوترونًا. أما اليورانيوم-235، الذي يحتوي على 92 بروتونًا و143 نيوترونًا فقط، فلا يشكّل سوى 0.72% من إجمالي الخام. الفارق بين النظيرين لا يكمن فقط في البنية الذرية، بل في السلوك الفيزيائي داخل قلب المفاعل أو القنبلة.
اليورانيوم-235 هو الوحيد بين النظائر القادرة على دعم تفاعل انشطار متسلسل. في هذا التفاعل، يقوم نيوترون واحد بشطر نواة الذرة، ما يُنتج طاقة هائلة ويُطلق نيوترونات أخرى تستمر في شطر ذرات إضافية، محدثة سلسلة تفاعلات يمكن أن تنفجر في جزء من الثانية، كما في الأسلحة النووية، أو تُضبط وتُستخدم لإنتاج الكهرباء أو الأدوية، كما في المفاعلات المدنية.
أما اليورانيوم-238، فهو خامد نسبياً في هذا السياق. لا يشارك مباشرة في الانشطار، لكنه يُستخدم في صناعات أخرى مثل إنتاج البلوتونيوم-239، وهو عنصر آخر قابل للاستخدام في السلاح النووي.
بين السلم والحرب: مستويات التخصيب ومعادلة الردع
لكي نضع الأمور في منظورها الحقيقي، يجب أن ندرك الفوارق الكمية والنوعية بين الاستخدام المدني والعسكري لليورانيوم. المفاعلات النووية التي تُستخدم لإنتاج الطاقة أو تصنيع النظائر الطبية تعمل عادةً على يورانيوم مخصب بنسبة 3% إلى 5%، وهي نسبة لا تكفي لإحداث انفجار نووي.
لكن عند الوصول إلى نسبة تخصيب 20%، يصبح اليورانيوم "عالي التخصيب" بحسب تصنيف الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وفي هذا المستوى، يصبح الانتقال إلى التخصيب العسكري - أي إلى 90% - أسرع بكثير من الانتقال الأولي من 5% إلى 20%. وهذا هو ما يُعرف بـ"العتبة النووية".
من هنا، فإن امتلاك إيران كميات كبيرة من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% — كما تؤكد الوكالة الدولية — لا يُعد تطوراً تقنياً فقط، بل نقطة انعطاف استراتيجية. فالمسافة الفاصلة بين 60% و90% تُقاس بأشهر أو حتى بأسابيع، في حال توفر الإرادة والقدرة التقنية.
الطرد المركزي: قلب السر النووي
تكنولوجيا تخصيب اليورانيوم تعتمد على أجهزة الطرد المركزي، وهي آلات تدور بسرعات خارقة لعزل اليورانيوم-235 عن اليورانيوم-238. وهذه التكنولوجيا، رغم بساطتها الظاهرة، محاطة بسرية شديدة لأنها تمثل بوابة العبور إلى السلاح النووي.
الدول التي تملك هذه التقنية يمكنها أن تنتقل في أي لحظة — من الناحية النظرية — من تخصيب منخفض للاستخدام المدني، إلى تخصيب عسكري لصنع قنبلة نووية. هذا هو جوهر الخطر الذي تثيره الأنشطة النووية الإيرانية، في ظل اشتداد المواجهة مع إسرائيل.
حين تتقاطع الفيزياء مع الجغرافيا السياسية
إذا كانت الفيزياء النووية علماً دقيقاً، فإن السياسة النووية هي علم إدارة الرعب. أي تحرك نحو تخصيب بنسبة 90% لن يُنظر إليه بوصفه خطوة علمية، بل كإعلان نوايا استراتيجي. وفي منطقة مشبعة بالحروب والانهيارات، يصبح اليورانيوم نفسه طرفاً في المعادلة.
إن التوتر الحالي بين إسرائيل وإيران لا يُقاس فقط بعدد الصواريخ أو ساعات الطيران في الأجواء. إنه صراع على مفترق نووي. وإذا كانت المفاوضات النووية قد وُضعت في ثلاجة دبلوماسية منذ سنوات، فإن أجهزة الطرد المركزي لم تتوقف عن الدوران.
في لعبة الردع المتبادلة، لا يكفي أن تمتلك السلاح — يكفي أن تكون قادراً على صنعه. وهذا بالضبط ما يجعل من تخصيب اليورانيوم بنسبة 60% حالة طوارئ استراتيجية. لأن من يمتلك القدرة على الوصول إلى 90%، يمتلك أيضاً القدرة على تغيير قواعد اللعبة.
وفي ظل غياب ثقة إقليمية أو ضمانات دولية حقيقية، يبقى تخصيب اليورانيوم أكثر من مسألة تقنية. إنه إنذار مبكر لحرب كبرى، أو لحظة عقل تعيد حسابات الصراع. وفي كلا الحالين، نحن في الشرق الأوسط لا نملك رفاهية تجاهل دوران أجهزة الطرد المركزي.