Advertisement
وفي هذا السياق، شكّلت الضربة الإيرانية الأخيرة التي طالت قلب تل أبيب تحوّلاً لافتاً، إذ قلبت مشهد الصراع من جديد. فالعاصمة "تل أبيب" التي طالما اعتُبرت آمنة نسبياً وبعيدة عن ميدان المواجهة، تحوّلت فجأة إلى هدف مباشر لهجمات دقيقة شملت صواريخ باليستية وطائرات مسيّرة، تمكّنت من اختراق منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلية والوصول إلى عمق المدينة، الأمر الذي عجزت القبة الحديدية عن احتوائه بالكامل.
وقد بدا حجم الدمار الناتج عن هذه الضربات لافتاً على مختلف المستويات، إذ تحوّلت شوارع تل أبيب المركزية إلى مساحات محروقة، وسُجّلت انهيارات في واجهات عدد من الأبنية الزجاجية، وسقوط مبانٍ كاملة، بينما امتدّت الحرائق لمسافات داخل المدينة، ما أدى إلى تعطّل الحركة التجارية، وإخلاء عدد من الأحياء، فضلًا عن إصابات وخسائر قُدّرت بمئات ملايين الدولارات. وهو ما دفع وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى التوصيف، وللمرة الأولى، بأن ما جرى مثّل كسراً لصورة العاصمة المحصّنة إذ وصلت خطوط الجبهة إلى عمقها.
غير أنّ ما كان أكثر أهمية من حجم الدمار بحدّ ذاته، هو ما كشفته هذه الضربات من معطيات جديدة. فبينما سارع الإعلام الإسرائيلي إلى وصف الهجوم بأنه استهداف عشوائي لمبانٍ مدنية، جاء تقرير موسّع نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية ليفنّد هذه الرواية، مستنداً إلى معلومات استخبارية وصور أقمار صناعية. إذ أشار التحقيق إلى أنّ إسرائيل كانت قد شيّدت في عام 2021 مركز قيادة عسكرية متقدّم تحت الأرض في وسط تل أبيب، يُعرف باسم "حصن صهيون"، وقد تم بناؤه عمداً تحت مجمّعات مدنية تضم مبان سكنية ومكاتب وشركات، الأمر الذي يجعل استهدافه بالضرورة يبدو كقصف للبنية المدنية.
وبحسب التحقيق، فإن الهدف من هذا التمركز كان مزدوجاً: أولًا، ضمان حماية منشأة عسكرية بالغة الحساسية من الاستهداف المباشر، وثانياً، منحها غطاءً إعلامياً وأخلاقياً في حال تعرّضت لهجوم، إذ سيُنظر إلى الضربة حينها على أنها موجهة ضد المدنيين. وهذه الاستراتيجية، وإن بدت استثنائية، تعكس نهجاً إسرائيلياً أوسع يقوم على دمج المنشآت العسكرية بالنسيج المدني، ما من شأنه تعقيد حسابات الطرف المقابل، وتحميله الكلفة السياسية والأخلاقية لأي رد عسكري.
انطلاقاً من ذلك، يصبح من المشروع إعادة النظر في الروايات الإسرائيلية التقليدية حول استهداف المدنيين، إذ يتبيّن أن البنية التحتية العسكرية قد زُرعت عمداً بين المناطق المأهولة، لا لحمايتها فحسب، بل لتضليل الرأي العام وتوجيه الاتهام تلقائياً لأي جهة تردّ عليها.
وهنا تبرز المقارنة مع ما حدث ويحدث في قطاع غزة، حيث تتعرّض الأحياء السكنية والمدارس والمستشفيات والبنية التحتية المدنية، لضربات مباشرة ومعلنة من قبل الجيش الإسرائيلي. إذ لم يكن في غزّة أي نموذج مماثل لـ "حصن صهيون"، ولم تُخفِ المقاومة مراكز قيادتها تحت المدارس أو داخل المجمعات التجارية. بل إنّ إسرائيل كانت تستهدف، وباعتراف مسؤوليها، البيئة الحاضنة للمقاومة من دون تمييز بين مدني وعسكري، وهو ما فاقم الكلفة الإنسانية بشكل هائل.
أما في تل أبيب، فالصورة تبدو معكوسة تماماً، إذ تبين أن القيادة العسكرية نفسها اختارت أن تتموضع في قلب المدينة وتحت أقدام المدنيين تحديداً، ما يجعل أي استهداف لها عرضة للتسييس والتشويه. وبالتالي، فإن الضربات الإيرانية سلّطت الضوء على سياسة أمنية تعتمد على التضليل، وعلى بنية عسكرية مخفية خلف واجهات مدنية.
ومن هنا، لا يمكن التعامل مع ما جرى على أنه مجرد تطوّر عسكري عابر، بل هو حدث يفرض إعادة تقييم جوهرية لمفاهيم "الاستهداف المشروع" و"حماية المدنيين"، إذ باتت تل أبيب نفسها، وفق ما كشفته التقارير، نموذجاً لسياسة تُمزج فيها الاعتبارات العسكرية بالبنية المدنية، ما يُنتج خطاباً مزدوجاً لم يعد من الممكن القبول به من دون تدقيق أو مساءلة.
وعليه، فإن الردّ الايراني على تل أبيب لم يُحدث فقط ضرراً بشرياً ومادّياً في منشآت وأبنية، بل فضح منظومة كاملة من السرديات التي لطالما تبنّاها الإعلام الإسرائيلي والغربي، كما أخرج إلى العلن بنية عسكرية كان يفترض بها أن تبقى طيّ السرّية، فإذا بها تُكتشف لا عبر التسريبات، بل عبر الوقائع الميدانية.