يذهب كتاب “ الطباخ.. دوره في حضارة الإنسان” ل "بلقيس شرارة إلى أن أدى ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي في شبه الجزيرة العربية إلى تحولات عميقة لم تقتصر على الجوانب الدينية، بل امتدت آثارها إلى البنى السياسية والاقتصادية والحضارية، وتركـت أصداء واضحة في الشرق والغرب على السواء.
تحولت الدعوة الإسلامية من المدينة المنورة عام 622م بوصفها حركة دينية قائمة على تعاليم النبي محمد، خلال عقود قليلة إلى حضارة كبرى سيطرت على مناطق واسعة، شملت إيران الساسانية، وسورية البيزنطية، وفلسطين، ومصر، وشمال أفريقيا، قبل أن تمتد خلال قرن واحد إلى جبال البرينيه في إسبانيا غربًا، ووادي فرغانة في شمال غرب الصين شرقًا، لتصبح وسيطًا رئيسيًا في حركة التجارة بين المشرق والغرب.
ويشير الكتاب إلى، إلى أن النظام الاجتماعي السائد في الجزيرة العربية قبل الإسلام كان في معظمه بدويًا، قائمًا على رابطة القرابة، حيث تجتمع الأسر في إطار العشيرة أو القبيلة. ولم يكن العربي يشعر بولاء أو التزام تجاه جماعة أكبر من قبيلته، في ظل نمط حياته يقوم على الترحال والتنقل الموسمي بحثًا عن الماء والمرعى، تبعًا للأمطار وفصول السنة.
ويرى المؤلف أن المجتمعات التي تمارس البداوة لا تملك مقومات تطوير مطبخ متكامل، إذ يحول الترحال المستمر دون نشوء تقاليد غذائية مستقرة، تحتاج بطبيعتها إلى الاستقرار والزراعة وتراكم الخبرة. لذلك كان طعام العرب قبل الإسلام محدودًا وبسيطًا، أقرب إلى ما يسد الجوع بسرعة، وأقرب إلى الفطرة، مثل: البرّ، والشعير، والدقيق، والسويق، والثريد، والحساء باللبن، والحليب، والجبن، والسمن، والشحم، والتمر، مع شيء من اللحوم المشوية على الجمر أو المطبوخة في القدور على الأثافي. كما اعتمدوا على الكمأة النيئة، وبعض الأعشاب والجذور البرية التي تنبت في الربيع.
ومن الأطعمة المعروفة آنذاك: السخينة، والعكيكة، والربيكة، والمضيرة، وهي أطعمة خشنة وبسيطة، بعيدة عن الإتقان والترف الذي ميّز مطابخ أقاليم الهلال الخصيب في الفترة الزمنية نفسها. كما عُرف عن العرب أكل الضِّباب، واليرابيع، والقنافذ، بل والحيات، وفي أزمنة المجاعة كانوا يلجؤون إلى أكل «العِلْهِز»، وهو دم القراد اليابس يُدقّ مع أوبار الإبل ويؤكل في سنوات الجدب. وكان للتمر والجراد مكانة خاصة في حياة الأعراب، لسهولة الحصول عليهما وقدرتهما على توفير الطاقة.
الأطعمة في العصر الأموي
مع قيام الدولة الأموية، كان العرب قد بسطوا سيطرتهم على بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين، وهي مناطق مثّلت قلب الحضارتين البيزنطية والساسانية في مراحل أفولهما. وقد استفاد الأمويون من هذا الإرث الحضاري، فاستعانوا بالنظام الإداري البيزنطي في الشام، وبالنظام الساساني في فارس، وهو ما انعكس أيضًا على أنماط الطعام.
وفي المجال الغذائي، مال الأمويون إلى اتباع الفن الرومي (البيزنطي) في معالجة البقول واللحوم، كما تأثروا بالمطبخ الفارسي، ولا سيما في الأطعمة الباردة والحلويات. ويستدل على ذلك بقول الأصمعي: «اختصم رومي وفارسي في الطعام، فحكم بينهما شيخ قد أكل طعام الخلفاء، فقال: أما الرومي فذهب بالحشو والأحشاء، وأما الفارسي فذهب بالبارد والحلوى».
الأطعمة في العصر العباسي
شهد العصر العباسي تطورًا نوعيًا في الزراعة انعكس مباشرة على المطبخ، إذ أدت الثورة الزراعية إلى تغيير المفاهيم السائدة في فلاحة الأرض. فبعد أن كانت الزراعة في العصرين الروماني والبيزنطي تتم مرة واحدة في العام أو كل عامين وتحت ظروف خاصة، عرف العالم الإسلامي نظام المناوبة الزراعية، فأصبحت الأرض تُزرع أربع مرات خلال عامين، ما أدى إلى تنوع المحاصيل ووفرتها.
وفي عهد هارون الرشيد، ظهر ما عُرف بـ«ذوّاقة الطعام»، وهم فئة تهتم بفنون المائدة إلى جانب اهتمامها بالأدب والشعر والموسيقى. كما دخلت إلى الطبخ الإسلامي مواد جديدة مثل اللوز المطحون، والجوز، والفستق، والسُّنْدُس، والفالوذج، وانتشرت أصناف جديدة من الأطعمة في قصور الخلفاء وبيوت الخاصة على الأقل.
وأصبح السكر مادة أساسية، حلّ محل العسل في تحلية عصائر النارنج والليمون، اللذين استُخدما على نطاق واسع في إعداد اللحوم، والسمك، والدجاج، والحلوى، ما يعكس تطور الذائقة الغذائية وتحول الطعام في الحضارة الإسلامية من مجرد ضرورة للعيش إلى فن وثقافة.













0 تعليق