بين حينٍ وآخر يطلّ علينا أناس يلهثون خلف الترند بتصريح صادم، أو بدعوى كاذبة، أو بهجوم على الآخرين بلغة وضيعة. وهنا يصبح لزامًا علينا أن نطرح السؤال: هل نحتاج حقًا إلى التصدّى لتصريحات تافهة لا تبحث إلا عن الانتشار؟
فى حقيقة الأمر، إننا حين ننجرّ إلى الرد على مثل هذه الأقاويل لا نفعل شيئًا سوى أننا نصبح جزءًا من ترند جنونى لا يعنيه الإنسان، ولا الفنان، ولا القيمة، بقدر ما يعنيه الاتساع والضجيج، ترند لا يهمه أن يكون هذا الانتشار مقرونًا بإعجاب أو استنكار، مدح أو ذم، ثناء أو هجاء؛ فكل ذلك عنده سواء. وهكذا، ومن حيث لا ندرى، نشارك فى صناعة الفقاقيع.
ومن هنا نعيد طرح السؤال بصورة أكثر وضوحًا: هل نحتاج حقًا إلى الدفاع عن الفنان محمد صبحى؟ الإجابة، فى واقع الأمر، لا. نحن لا نحتاج إلى الدفاع عن محمد صبحى، ولا هو فى حاجة إلى دفاعنا، ما نحتاجه فعلًا هو الدفاع عن ثقافة راسخة فى مواجهة ثقافة متحوّلة، ملوّنة، سائلة، تعيد تشكيل أحكامها وقيمها وفق إيقاع الترند.
لم تعد الثقافة تُقاس اليوم بما راكمته من تجارب، ولا بما أحدثته من تحولات إنسانية واجتماعية بطيئة وعميقة، بل بما تلتقطه عين الكاميرا فى لحظة عابرة، أو بما يخرج فى تصريح مرتبك، أو بما تفرضه زاوية واحدة جرى تضخيمها حتى بدت وكأنها الحقيقة الكاملة. هكذا انزاح الميزان من التراكم إلى اللحظة، ومن المسار إلى اللقطة، ومن النقد إلى المحاكمة الأخلاقية.
فى هذا السياق المربك، تتحوّل اللقطة التى التقطتها الكاميرا للفنان محمد صبحى فى لحظة عابرة، تضافرت فيها ظروف وسياقات متداخلة، إلى مسرح واسع لعقد محاكمة أخلاقية كاملة لفنان، لا بوصفه صاحب مشروع، بل بوصفه شخصًا مجردًا من تاريخه.
إن التناول الترندى لتلك اللحظة ليس سوى اختبار فادح لهشاشة الذاكرة الثقافية. فمحمد صبحى فنان لم يكن حضوره عابرًا، ولم تُبنَ تجربته على عمل واحد أو نجاح طارئ، بل على مشروع متكامل ظلّ المسرح فيه هو المركز لا الهامش. فنان حضر، رغم مرضه، ليشارك فى تكريم شباب الفنانين، ثم يُلقى بكل ذلك جانبًا، وتُختزل تجربته، ويُقتطع تصرّف واحد من سياقه، ليصبح مادة لمحاكمة أخلاقية صاخبة، صُنعت وفق ضرورات الترند بلا منطق.
إن مشروع محمد صبحى الفنى هو فى جوهره مشروع ثقافى راسخ مستند إلى المسئولية الاجتماعية، فلم ينظر صبحى إلى الفن بوصفه إنتاجًا جماليًا منفصلًا عن المجتمع، بل بوصفه فعلًا تربويًا ومعرفيًا. وهو ما بدا واضحًا فى اختياراته الدرامية، وفى مشروعه الأوسع الذى بلغ ذروته بتأسيس مدينة سنبل للفنون، كمحاولة نادرة لربط الفن بالتعليم، والجمال بالمسئولية الاجتماعية.
ويصبح السؤال هنا: كيف يمكن تجاهل هذا المشروع الفنى والثقافى الراسخ، وهذا التاريخ الممتد، لتصبح مازورة التقييم محصورة فى لحظة، أو لقطة، أو جملة، أو زاوية واحدة للصورة؟ وكيف نُمعن النظر فى انفعال عابر لسنا بصدد تقييمه أصلًا، أو فى تصريح قد نتفق أو نختلف معه، ونسمح للكاميرا- من خلال زاوية واحدة جرى تضخيمها- أن تصوغ حكمًا نهائيًا يبدو وكأنه الحقيقة الكاملة؟
هكذا ينزاح الميزان من التراكم إلى اللحظة، ومن المسار إلى اللقطة، ومن النقد بوصفه فعل فهم وتحليل، إلى المحاكمة الأخلاقية بوصفها فعل إدانة سريعًا.
إن محاولة اختزال فنان بهذا الحجم فى موقف عابر أو تصريح مرتبك، تعبير صريح عن خلل أعمق فى آليات التقييم ذاتها. فاللحظة، مهما كانت صادمة أو مستفزة، لا يمكن أن تُلغِى مشروعًا، ولا أن تمحو مسارًا تشكّل عبر عقود من العمل المتواصل، فلسنا مطالبين بتقديس الفنان، ولا بتبرير أخطائه، لكننا مطالبون- إن كنا معنيين بالثقافة حقًا- بألا نحاكم تاريخًا كاملًا بمنطق الترند، ولا أن نختزل مشروعًا فى لقطة. فحين تصبح الذاكرة الثقافية بهذا القدر من الهشاشة، لا يكون الخطر على فنان بعينه، بل على معنى وجوهر الثقافة نفسه.












0 تعليق