إعادة تعريف الدولة الأمريكية.. من الحضور العالمي إلى الانكفاء القومي

البوابة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

شهدت الولايات المتحدة خلال الشهور الأخيرة تحولات جذرية في أولوياتها الأمنية والسياسية، انعكست في سلسلة من الإجراءات والخطابات الصادرة عن إدارة دونالد ترامب بعد عودته إلى الحكم في 2025. ومن بين أبرز هذه التحولات: تصعيد العمليات العسكرية والأمنية في منطقة الكاريبي، تشديد سياسات الهجرة بخطاب عدائي صريح ضد المهاجرين، لا سيما الصوماليين، وتبني استراتيجية دفاعية جديدة تعيد رسم خارطة المصالح الأمريكية حول العالم.

هذه السياسات لا تبدو معزولة عن بعضها البعض، بل هي -في جوهرها- امتداد عملي لما يُعرف بـ"مشروع 2025" الصادر عن مؤسسة التراث (Heritage Foundation)، والذي يمثل رؤية محافظة شاملة لإعادة تشكيل الدولة الأمريكية وهيكلها التنفيذي.

عسكرة الكاريبي وتحولات الاستراتيجية الإقليمية

في سابقة لافتة، أطلقت الإدارة الأمريكية عملية "رمح الجنوب" (Southern Spear)، والتي تشمل انتشارًا عسكريًا واسع النطاق في منطقة الكاريبي بزعم مكافحة تهريب المخدرات. هذه الحملة، التي تضم وحدات بحرية وجوية واستخدامًا لتقنيات متقدمة (مثل الطائرات دون طيار)، تعكس تحولًا واضحًا في الأولويات الجيوسياسية الأمريكية، إذ جرى توجيه القدرات القتالية نحو المجال الإقليمي القريب، على حساب الأقاليم التقليدية ذات الأولوية كأوروبا والشرق الأوسط.

اللافت أن هذه العملية لا تقف عند حدود الأمن البحري، بل تندرج ضمن تصور أوسع تعكسه الاستراتيجية الدفاعية الجديدة الصادرة في أواخر العام الجاري، والتي تخلت -للمرة الأولى بشكل صريح- عن فكرة "الدور الأمني الشامل" لصالح حماية "نصف الكرة الغربي"، ما يعني عمليًا عسكرة العلاقات مع أمريكا اللاتينية والكاريبي ضمن رؤية تقوم على الردع الإقليمي وتعزيز السيطرة.

خطاب الهجرة والعداء المؤسسي للمهاجرين

بموازاة الحراك العسكري في الكاريبي، صعدت إدارة ترامب خطابًا هجوميًا غير مسبوق ضد المهاجرين، استهدف الصوماليين بوجه خاص. في ديسمبر 2025، أدلى ترامب بتصريحات علنية مفادها أنه "لا يريد الصوماليين في الولايات المتحدة"، في تمهيد لحملة ترحيل جماعية شملت ولاية مينيسوتا، مقر الجالية الصومالية الأكبر.

إذ جاءت هذه التصريحات ضمن مناخ سياسي أمني متكامل، ربط بوضوح بين الهجرة والأمن القومي، وشرعن استخدام أدوات الدولة القسرية ضد مهاجرين، دون التمييز بين اللاجئين والمهاجرين الشرعيين وغيرهم. وقد دعمت هذه التوجهات قرارات تنفيذية مثل تعليق طلبات الهجرة من 19 دولة غير أوروبية، ما يكرس رؤية قومية ضيقة للهوية الأمريكية، ويعكس توجهًا مؤسساتيًا نحو "تصفية" التنوع الثقافي والديمغرافي.

الاستراتيجية الدفاعية الجديدة

في 4 ديسمبر 2025، أعلنت الإدارة الأمريكية استراتيجيتها الأمنية الجديدة، التي شكلت نقطة انعطاف رئيسية في المفهوم الأمريكي للأمن القومي. أبرز ما ورد فيها: تقليص الالتزامات العالمية، وتعزيز التركيز على الداخل، وإعادة توجيه القدرات الأمنية نحو التهديدات "المباشرة" التي تشمل الهجرة، التهريب، ونفوذ القوى المنافسة في الحديقة الخلفية لأمريكا.

هذا التحول يعكس فلسفة سياسية تقوم على أولوية "السيادة القومية"، وتهميش المقاربات الليبرالية التي ربطت بين الأمن والتنمية والدبلوماسية. وبهذا، تتقاطع الاستراتيجية الدفاعية الجديدة مع الخطاب السياسي الهجومي لإدارة ترامب، لتصوغ معًا بيئة سياسية أمنية ترى في المهاجرين واللاجئين والحدود المفتوحة تهديدًا مباشرًا للهوية والدولة.

مشروع 2025 كمحرك أيديولوجي

لا يمكن فهم المشهد السياسي الراهن بمعزل عن مشروع "مانفستو 2025" الصادر عن مؤسسة التراث المحافظة، والذي يمثّل خريطة طريق شاملة لرؤية حكم محافظة ذات طابع سلطوي. حيث يتبنى المشروع مجموعة من المبادئ المحورية، أبرزها: تركيز السلطة التنفيذية في يد الرئيس، تفكيك المؤسسات البيروقراطية ذات النزعة الليبرالية، إعادة صياغة سياسات الهجرة كأداة في خدمة الأمن القومي، وتوسيع صلاحيات إنفاذ القانون الفيدرالي مع تقليص القيود المؤسسية والقضائية.

وما تشهده الولايات المتحدة حاليًا من تغييرات في الخطاب السياسي، والتشريعات، والسياسات الأمنية، والبنية الإدارية، يُعد ترجمة تدريجية لهذه الرؤية. الأمر الذي يجعل من هذه التحولات أكبر من كونها استجابات ظرفية، وباتت تشكل ملامح مسار استراتيجي ممتد يعيد تعريف طبيعة الدولة الأمريكية ووظيفتها.

تفكك التوازن المؤسسي وتصاعد الانقسام المجتمعي

إن تنفيذ السياسات المستلهمة من مشروع "مانفستو 2025" لا يقتصر على إعادة ترتيب أولويات الدولة، بل يحمل في طياته آثارًا عميقة على البنية الداخلية للمجتمع الأمريكي ومؤسساته. فتركيز السلطة في يد الجهاز التنفيذي يُضعف من الضوابط والتوازنات التي شكّلت جوهر النظام الدستوري الأمريكي، ويفتح الباب أمام تسييس أجهزة الدولة، لا سيما مؤسسات إنفاذ القانون والهجرة. كما أن الخطابات العدائية تجاه فئات بعينها -مثل المهاجرين والصوماليين- تُغذي النزعات العنصرية وتُعمّق الاستقطاب الاجتماعي، مما يهدد النسيج الوطني ويُفاقم الشعور بالاغتراب داخل فئات واسعة من السكان.

من جهة أخرى، فإن إضعاف المؤسسات البيروقراطية لصالح "ولاءات سياسية" يهدد الكفاءة الإدارية ويقوض المهنية في إدارة السياسات العامة، وهو ما قد يؤدي على المدى المتوسط إلى تراجع الثقة العامة في الدولة، وانكفاء المجتمع على هويات فرعية دفاعية، ضمن مناخ متوتر تتراجع فيه معايير التعددية والتمثيل.

من الدولة العالمية إلى القلعة القومية

إن الإجراءات والسياسات التي تبنتها إدارة ترامب منذ عودته في 2025 هي بالأساس تعبير عن تحول بنيوي في طبيعة الدولة الأمريكية. من التركيز على الأمن الإقليمي وعسكرة المجال الكاريبي، إلى خطاب الهجرة المتشدد، ومن تقليص الدور العالمي إلى تعزيز السلطة التنفيذية، تبدو الإدارة وكأنها تنفذ أجندة أيديولوجية كاملة، مستمدة من مشروع "2025"، تسعى لإعادة صياغة الولايات المتحدة وفق رؤية قومية، أمنية، محافظة.

من ثم، يفتح هذا التحول الباب أمام تحديات داخلية وخارجية كبرى؛ من تهديد التوازن المؤسسي إلى تفاقم الانقسام الاجتماعي، ومن تراجع الحضور الأمريكي عالميًا إلى توتر العلاقات مع الحلفاء التقليديين، لتعاد تشكيل الهوية الدولة الأمريكية نفسها.

*باحثة في الشؤون السياسية والإعلامية

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق