الثلاثاء 02/ديسمبر/2025 - 02:11 م 12/2/2025 2:11:15 PM
(كان ياما كان في غزة ) هو الفيلم الفلسطيني الحائز على جائزة الإخراج في قسم ( نظرة ما ) بمهرجان كان ٢٠٢٥ للأخوين (طرزان وعرب ناصر ) واللذان شاهدت لهما من قبل فيلمهما الطويل الأول ( غزة مونامور ) والذي عرض في كلا المهرجانين ( كان ) السينمائي في فرنسا ومهرجان القاهرة السينمائي الدولي وحصل آنذاك على جوائز كما حصل فيلم ( كان يا ما كان في غزة ) في دورة مهرجان القاهرة ٢٠٢٥ على جائزة (الهرم الفضي ) وجائزة ( افضل فيلم عربي ) وجائزة ( افضل ممثل ) فغزة هي الجرح الغائر والهم والهاجس الأكبر لنا وللجميع وبالطبع للأخوين ( طرزان وعرب ناصر ) فتحدثا عنها في فيلميهما ( غزة حبي ) او ( غزة حبيبتي ) ثم فيلم (كان ياما كان في غزة) والذي يروون لنا من خلاله حكاية او (رواية ) الحبيبة (غزة ) فهي الراوية من منظورهم.
و لكل حبيبة روايتها الخاصة وقد اختاروا هذه المرة ان تكون حكاية غزة بعيدةً عن أجواء النضال في محاولة لأنسنة المدينة وأنسنة قاطنيها.. فغزة بعدسة الأخوين ناصر مدينة شأنها شأن سائر المدن في العالم.. وساكنيها بشر عاديون ليسوا خارقين وليسوا ارهابيين او حتى من حملة السلاح بالضرورة إنهم بشر عاديون يعيشون فيها منهم الفاسد ومنهم الطيب ومنهم الشرس فالفيلم والتجربة تحاول أنسنة غزة.. وأن تُرى تلك المدينة بعين أخرى مغايرة بعيدا عن تيمة النضال والمقاومة رغم ان تلك الصفتين لصيقتين بفلسطين كلها وبتلك المدينة الحزينة شاء من شاء وأبى من أبى بحكم الاحتلال لا لرغبة مجانية من أهلها في النضال او المقاومة..فهم يقاومون واقع مرير وكتبت عليهم تلك المقاومة وهي كره لجموع قاطنيها او غالبيتهم..فمن يحب الحرب والموت والدمار ؟!
وحكاية غزة بعد الحرب ليست كحكايتها قبل الحرب.. وستظل الحكايات تنسج ولن تنتهي وستأتي دومًا مقرونةً بالنضال وبالحرب بطريقة ما او بأخرى طالما ظل ذلك الاحتلال قائمًا وتلك حقيقة يغفلها البعض ممكن يظنون ان المقاومة اختيار حر في المطلق للغزاوية ولأهل فلسطين بل ويلومون احيانا أهل غزة عليه !! أما هذه المرة فقد اختار الاخوين ( عرب وطرزان ) زاويةً جديدة لعلاقة بشر ببعضهم البعض من سكان وأهل تلك المدينة المنكوبة خاصة وان سيناريو الفيلم صيغ للحديث عن غزة في عام ٢٠٠٧ بعد ان بنى الاحتلال الجدار الجائر العازل الذي عزل المدينة وقاطنيها عن كافة سبل الحياة وحاصروها وأهلها لتدميرها فيما بعد وقد حدث ذلك بالفعل بعد أن افتعلوا ما افتعلوا وتذرعوا -بما وبمن أرادوا - لتجويع شعب غزة وإبادته وتحويل المدينة لريفيرا للمستعمر وانتزاعها من أهلها والرغبة في تهجيرهم كما كان مخططًا.. وبعد حرب السابع من اكتوبر ٢٠٢٣ توقف تصوير الفيلم وكاد ان يجهض ويوأد هذا المشروع الفني تماما كما أحيك للمدينة لكن وبعد اصرار صناعه على انجازه صور الفيلم في الأردن بممثل اردني وصار حلم الآخوين حقيقة بعد تنفيذ السيناريو الذي خيب ظن من كان يريد ان يشاهد غزة وهي تقاوم وتصمد.
و لقد أظهرتها بالفعل افلام عدة بهذا الشكل..أفلام جسدت جرائم المحتل على الشاشات اما صانعي هذه التجربة فقد مضوا في سرد حكايتهم عن غزة من خلال حكاية غزاوي يعمل سائقًا احيانًا ويمتلك في نفس الوقت محل فلافل ويهرب عقاقير طبية موضوعة على جدول المخدرات يستخدمها الكثير من أهل المدينة للتشافي من اوجاع الحرب النفسية والبدنية ففي غزة لا يمكن ان تعمل في مهنة واحدة او تضع كل ما تملك في سلة واحدة.. ولا تستطيع احيانا كذلك العيش بدون تلك العقاقير.. ولان سكان المدينة ليسوا جميعهم ملائكة بل بشر عاديون جعل الاحتلال حياتهم صعبة بل وغير محتملة وحتم عليهم ان يتعايشوا وسط كل ذلك المجنون -ربما بمجون وجنون يشبهه ويقابلة - فقابل السائق الأربعيني الغزاوي في طريقة ( يحيى ) الشاب الطيب الساذج الذي لم يفقد براءته وانسانيته بعد -و قد فقدها في نهاية الفيلم - ففقد حياته كلها ! وبدأت الحكاية عندما التقى ( النقيضين ) هاذان الاثنين وجعلت الصدفة القدرية من (يحيى) الطالب الجامعي اللطيف المهذب صديقا صدوقًا للرجل الغزاوي الذي يكبره في العمر ويعتبره ابنًا له ورفيقا لطريقه وصار كذلك كاتما لأسراره ومعاونًا له في كل شيء وقائدا لسيارته فتبادلا الأدوار ومضيا سويا في حياتهما المملة الرتيبة التي تشبه فيها الأيام بعضها البعض فلا جديد في غزة ولا جديد مع الاحتلال والحصار سوا المزيد من التضييق والاكتئاب والقتل والمنع من السفر فيحيى الذين ترك اهله وسكن في غزة ليدرس في الجامعة لا يستطيع ولا يسمح له كبقية من يعيشون في غزة الخروج منها !
فالاحتلال يحاصر أهل المدينة ليبيدوهم -هذا ما يريدونه حقا - وفي ظل كل تلك المنغصات والأجواء الضاغطة تولدت لدى سكان المدينة الكثير من الأمراض المجتمعية والنفسية فظهر الفاسد وتاجر المخدرات والقاتل والمقاوم واشتبكوا جميعا في تلك الظروف التي تودي حتما لكارثة وهذا ما حدث عندما رفض بطل العمل التعاون مع مهرب العقاقير الممنوعة للوشاية بغيره من التجار وبمرور الوقت ولان علاقات الفاسد متعددة ومتشعبة استطاع ان يصل لقطاع الأمن ويصير واحدًا منهم (شرطيا ) ذو سلطة فيعاود التواصل مع بطل العمل الذي أصر على موقفه متحديًا الشرطي الفاسد فقتله في مطعمه جزاءً له على عصيانه.. وشاهد بحيى الذي كان يختبىء تحت طاولة الفلافل بعينيه صديقه وهو يقتل غدرا داخل مطعمه فيصاب بالخرس الوقتي ويعزف عن كل شيء ويترك كل شيء وراءه وينعزل داخل نفسه في تلك المدينة التي تحاصر قاطنيها داخل أزقتها الضيقة فلا يسعهم فعل شيء او الخروج من تلك الدوامة التي تحاصرهم ليس فقط مكانيا بل تحصرهم داخل ذواتهم فيكرهون الحياة ويعتادون الموت والقتل( المشهد الدموي المأساوي ) والذي صار مشهدًا متكررًا عاديًا !!
و في احد الايام كان يجلس الشاب يحيى على احد المقاهي فجاءه مخرجا سينمائيا وطلب منه المجيء لمكتبته لانه يريده لأداء دور في احد الأفلام.. وبالفعل ذهب يحيى والتقى بالقادة الممولين للفيلم الذي يحكي عن نضال احد قادتهم الذي استشهد على يد الاحتلال نظرا لدرجة التشابه بين ( يحيى ) وبين شهيدهم فأرادوا تخليد ذكراه ونضاله في عمل سينمائي ملهم لغيره من الشباب كي يكملوا مسيرته النضالية ضد المحتل..و من هنا تتغير حياة يحيى الرتيبة بالكامل وينجذب لاجواء التصوير التي جر اليها بالصدفة.. وفي احد أيام التصوير زارهم ذات الشرطي الذي قتل صديقه من سنوات وفجأة ينقلب السيناريو كما انقلبت حياة (يحيى ) راسًا على عقب فالفيلم جعل من ( يحيى ) مناضلا يحمل السلاح ضد المحتل ولضعف الإمكانيات في المدينة المحاصرة كان كرو الفيلم يستخدم الذخيرة الحية في بروفاته ومشاهده.. وبعد ان تمكن وتدرب (يحيى) على حمل السلاح في الفيلم الذي يجسد من خلاله دور البطل والمقاتل ( الشهيد) فجعلت منه تلك التجربة الجديدة انسانًا جديدا اكتر قوة وقسوة وجرأة بل وشهره..فأراد ان يقتص لصديقه من قاتله فذهب وقتله وقتل معه زمن براءته ونقائه.. ثم عاد ليكمل مشاهد التصوير بعد ان تحول لقاتل في الواقع وليس فقط من حملة السلاح أمام الكاميرا.
ولعبث الأقدار ولعبثية تلك الحرب يقتل يحيى أثناء تصوير الفيلم ( بنيران صديقة ) كما تسمى.. فأثناء بروفه الفيلم الختامية وقيام المجاميع ( المناضلين ) وجنود الاحتلال بتبادل إطلاق النار فيما بينهم.. تصل الرصاصة الطائشة لرأس وعنق يحيى فيسقط قتيلا كما أسقط هو الشرطي وأرداه قتيلا !! وتحمل المجاميع جثمان (يحيى ) ( القاتل والمقتول ) على الاعناق وتضعه في صندوق ملفوفًا بعلم فلسطين ويزفه أهل المدينة بهتافات تصاحب عادة شهداء المدينة وشهداء فلسطين في مشهد عبثي حزين جعل من الشاب الجامعي البرىء قاتلا ثم مقتولا ليعتبره أهل المدينة من شهدائهم ويزفوه إلى مثواه الأخير وهو ذات المثوى والمصير الذي ينتظر غالبية سكان فلسطين وسكان تلك المدينة المنكوبة التي تزف يوميا عشرات بل ومئات الشهداء.. فحمل السلاح حتما ما يؤدي لجريمة !!
و ما اكثر الجرائم التي ترتكب في حق هذا الشعب وفي حق سكان مدينة غزة على يد المحتل ويد الفسدة والكارهين والموتورين.. ففي غزة وفي فلسطين لا خيارات ولا بدائل.. فإما أن تكون مناضلا مقاومًا قاتلًا لجنود الاحتلال او مقتولا شهيدا تزف محمولًا على الاعناق.. اما ان تعيش حياة طبيعية مثل غيرك بدون سلاح وقتل ودماء واستشهاد فتلك أمنية لا يمكن لها ان تتحقق في ظل وجود محتل وبالتالي شعب يقاوم ومدينة تحاصر ليجوع ويباد شعبها ويكون القتل والسلاح والاستشهاد هو المصير الأوحد والحتمي شاء من شاء وأبى من أبى.. ففيلم ( كان يا ما كان غزة )للأخوين ( ناصر ) عملا موفقًا مكتملًا بل واكثر نضحًا في سرده وحبكته من تجربتهم الأولى وأراه عملًا يقدم طرحًا جديدا وجريئًا أثار الجدل بين مؤيد ومعارض لكن وفي نهاية الأمر هو عمل هام يضاف لرصيد السينما الفلسطينية فالحروب يحب ان لا تنسينا ان المدن والشعوب لهم حيوات ولهم مجتمع يعيشون فيه ولا يمكن اختزال حيواتهم ومجتمعهم في النضال فقط فنغفل ونهمش قضايا وحكايات أخرى كثيرة لابد وان تُحكى وتُروى عن فلسطين وعن غزة وأهلها دون التشكيك في النوايا ودون توجيه الاتهامات المجانية لصناع العمل الذين اظهروا مأساة أهل غزة وحصارهم من قبل قوات الاحتلال..فالحصار وحده كافيًا جدا لإدانة المحتل وجعله مجرمًا.
و جعل السجين المحاصر ضحيةً يجب التعاطف والوقوف معه وفي صفه وتثمين مواقفه ونضاله والاصطفاف معه ضد المحتل المجرم الذي يقتل ويحاصر لينهي حياة من يحاصرهم حتى وان بقي البعض منهم على قيد الحياة.. فالحصار في ذاته قتل واستنزاف يومي والمحاصر ليس حيًا بالمفهوم الحقيقي لمعنى الحياة.. فان تعيش محاصرًا وسجينًا فهذه ليست حياة وليست اختيارًا حرًا يختاره الفرد بمحض إرادته ولا يمكن ولا يستطيع أن يعيش ويحيى الإنسان هكذا ويستمر في حياته دون ان يتنقل هنا وهناك كما يحلو له.
















0 تعليق