أسئلة معلَّقة في السماء: (٣) عودةٌ مرّةً أخرى للشفاعة!  د.

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

هناك قضايا لا تموت… تعود كلما تصور الناس أنهم أحكموا غلق أبوابها.

والشفاعة واحدة من هذه القضايا، وتلك الأسئلة التي لا تهدأ، لأنها تلامس مقام النجاة والرحمة ومصير الإنسان بعد أن يطوي هذه الدنيا، والتي ظنّ البعض أنها محسومة، بينما تكشف القراءة الهادئة أنها لا تزال تحمل طبقات من الفهم تحتاج كشفًا وتحريرًا.

الشفاعة ليست بابًا للهروب، ولا هي كما يتخيلها العامة بابًا بلا ضابط ولا ميزان، وهي أيضا ليست كما يروّج بعض المتشدّدين أمرًا نادرًا لا يكاد يحدث ولا جسرًا للاعتماد على غير العمل، وليست امتيازًا يُعطَى بلا استحقاق، بل هي – كما نصَّ القرآن – منظومة إلهية دقيقة لا يصح معها الغلوّ ولا التفريط.

إنها منظومة ربانية محكمة، تُعطي المعنى لرجاء التوبة، وتفتح باب الرحمة دون أن تهدم العدل، وتُظهر مقام النبي ﷺ ولا تنفي مسؤولية الإنسان عن عمله.

في عام 1999، طرح المفكر الكبير الراحل الدكتور مصطفى محمود قضية الشفاعة بشكل مفصل من خلال كتابه الذي يحمل نفس الإسم، حين أراد أن يعيد الناس إلى الله لا إلى الأشخاص، حيث لم ينكر الشفاعة لكنه أكد على أهمية الاعتماد على العمل الصالح والجهد في سبيل تحقيق رضا الله.

لقد قدم د. مصطفى محمود رأيًا حاول فيه أن يسحب الناس من “الفهم الشعبي المريح” للشفاعة، ذلك الفهم الذي يجعل الإنسان يعتمد على غير عمله، ويتّكل على أولياء ومشايخ وأئمة كما لو كانوا يملكون مفاتيح الغفران، فقال إن الشفاعة ليست سلطة لأحد، بل هي رحمة مشروطة، مرتبطة بإذن الله ورضاه، مستشهدًا بقوله تعالى في سورة (الزمر، 44): ﴿قُلْ لِلَّهِ ٱلشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾، وهو رأي يتوافق تمامًا مع النص القرآني الذي يجعل الشفاعة عملًا إلهيًا قبل أن تكون شفاعة بشرية.

ومع أن الرجل لم ينكر الشفاعة، ولم يرفض أحاديث الصحيحين، ولم يقل ما يشير إلى إنكار أصل العقيدة، بل نقد “الفهم الشعبي” فقط، تلقى هجموا بقسوة شديدة وبلا روية، وكثيرون من منتقديه – خاصة في المؤسسات الدينية الرسمية – تعاملوا مع رأيه وكأنه “إنكار للشفاعة” بينما هو في الحقيقة محاولة منه لتصحيح مفهومها، وبعضهم تجاوز حدود الأدب العلمي، ليس دفاعًا عن العقيدة، بل لأن فكره يحتمل قراءة جديدة.

والحق أن الدكتور مصطفى محمود كان أقرب للفهم القرآني من كثير ممن هاجموه، لكنه في المقابل كان بحاجة إلى ضبط وتوسيع هذا المفهوم، فقد اقترب المفكر الكبير كثيرًا من الصواب لكنه وقع في تضييق غير لازم لمعنى الشفاعة، بينما تراث العلماء واسع، ولا يقبل التبسيط بهذه الصورة.

فقد أثبت ابن تيمية شفاعة النبي ﷺ للمذنبين من أمته، بل قال في “مجموع الفتاوى” (الجزء الأول): "والشفاعة التي أثبتها الله ورسوله حق، وهي لمن أذنب واحتاج إلى مغفرة الله." لكنه قيّدها بقولٍ مهم: "ولا تكون لمن أصرّ على الكبائر ومات غير تائب توبة صادقة.”، وتبدو الشفاعة من هذا الرأي تثبيت للعدل لا نقض له.

وفصّل ابن القيم في “شفاء العليل” تفصيلًا بديعًا، فرّق فيه بين نوعين: شفاعة منفية، وهي لمن يجعل الشافع شريكًا لله أو يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله، وشفاعة مثبتة، وهي التي تكون بإذن الله ورضاه، لأهل التوحيد، ممّن لم يصرّوا على المعاصي، حيث توسع ابن القيم كثيرًا، وأثبت شفاعات متعددة، بخلاف تضييق الدكتور مصطفى محمود.

وقد ذهب الإمام محمد عبده إلى أن الشفاعة لا تلغي مسؤولية الإنسان، وأن المقصود منها “رفع الدرجات” أكثر من “إلغاء العقوبات”، لكنّه لم ينف شفاعة إخراج أقوام من النار.

وقال الإمام النووي في شرح مسلم: "أجمعت الأمة على ثبوت الشفاعة للنبي ﷺ، وعلى أن من جملة المشفوع لهم أهل الكبائر من أمته."، وهذا يُعارض تضييق الدكتور مصطفى محمود إذا فهم كلامه أنه نفيٌ لهذه الدرجة.

أما السيوطي، فقد أثبت قرابة ثلاثين نوعًا من الشفاعات في “الخصائص الكبرى”.

إذن: أين الإشكال؟

الإشكال هنا أن الدكتور مصطفى محمود (رحمه الله) أصاب حين رفض الشفاعة “الشعبية” التي بلا عمل، وقد اجتهد جهدا محمودا في هذا المنطق، لكنني أتصور أنه جانبه التدقيق حين ضيّق مساحة النصوص التي أثبتت شفاعات كثيرة.

إن درجات وأنواع الشفاعة… منظومة كاملة لا تدرك ببساطة، ولا بد أن نعرف أنها ليست وعدًا عامًا بلا ضابط، بل نظام رباني متدرّج، لكل درجة شروطها وأهلها، تبدأ من الأنبياء وتمتد للصالحين، محددة بالعدل الإلهي ورضا الله، ومن بين هذه الدرجات: الشفاعة العظمى (المقام المحمود) يوم يعتذر الأنبياء، ويشفع النبي ﷺ لأهل الموقف ليُقضى بينهم.

والدليل على حديث الشفاعة الكبرى أو العظمى الطويل ما جاء في الصحيحين البخاري ومسلم، حيث يصف وقوف البشر يوم القيامة وطلبهم من الأنبياء أن يشفعوا لهم عند الله، ويبدأ الناس بالذهاب إلى آدم عليه السلام، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، وكل منهم يعتذر عن الشفاعة بسبب موقف الناس أو بسبب خطيئة ارتكبها، حتى وصول الشفاعة إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم،                 ويأتي الناس في النهاية إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فيقولون له: "يا رسول الله، أنت خاتم الأنبياء، أنت أحب الخلق إلى الله، فهل تشفع لنا عند ربنا؟"، فيذهب النبي محمد إلى ربه ويسجد تحت العرش. ويقول له الله تعالى: "ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع"، فيسأل الرسول الكريم الله عليه وسلم ربه أن يبدأ الحساب، ويطلب منه أن يخرج من النار كل من قال "لا إله إلا الله".

وقد ورد أيضا في شفاعة النبي ﷺ لأهل الكبائر من أمته في قوله في الحديث الشريف: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي." رواه أحمد والترمذي وأبو داود وصححه الألباني.

والمقصود في تلك الشفاعة جميع من مات من أمته ولم يشرك بالله شيئًا، حتى لو وقع في كبائر الذنوب، وذلك إذا تاب ولم يشرك بالله، بشرط أن يأذن لله سبحانه وتعالى بالشفاعة، ثم رضا الله عن المشفوع له، فلا تكون الشفاعة إلا لمن رضي الله عنه.

وهناك أيضا شفاعة رفع الدرجات، كما ورد في السنن: "إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب، أنى لي هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك."

وأيضا شفاعة إخراج أقوام من النار، كما جاء في حديث البخاري: "فيقول الله: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين."

ومن درجات وأنواع الشفاعة أيضا، شفاعة القرآن، كما جاء قي حديث النبوي الذي رواه مسلم: "اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه.”، وشفاعة الشهيد، كما ورد في حديث نبوي شريف رواه الترمذي: "للشهيد عند الله ست خصال… ويشفع في سبعين من أهل بيته.”، وشفاعة الصالحين بعضهم لبعض، كما في صحيح مسلم: "فيشفع المؤمنون في إخوانهم."

ومن هذا الطرح البسيط، يتبين لنا أن درجات الشفاعة واسعة جدًا، وليست مجرد رمز معنوي أو ضيق. 

لماذا نعود للحديث عن الشفاعة اليوم؟

الشفاعة اليوم ليست مجرد مسألة دينية نقاشية، بل انعكاس لحالة وعي مجتمع كامل تجاه العلاقة بين الإنسان وربه، وبين الرجاء والمسؤولية، ونعود للحديث عنها لأن معناها الحقيقي لا يزال غامضًا عند كثير من الناس، وكأنها مازالت معلقة في السماء، بين فهم مبسّط يقدّس الوسيط البشري، وبين تفسير فلسفي يهدئ النفس على حساب العمل الصالح.

فالناس تتأرجح بين عدة أطراف: طرف يتصور أن الله يغفر فورًا دون عمل، ويدعمون ذلك بآيات الرحمة، وينسون أن كل آية رحمة يقابلها آية مسؤولية كما هو الحال في سورة (الأعراف، 56): ﴿إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ﴾، فالرحمة للمحسنين لا للغافلين.

وطرف يظن أن النار مجرد “تهديد”، وهذا انحراف خطير؛ لأن القرآن أثبتها وصفها وتفاصيلها كما في سورة (الليل، 14): ﴿فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تلظى﴾، إنها ليست تهديدًا بل حقيقة.

وطرف يعتقد أن “المشايخ” والأولياء هم أصحاب الشفاعة الأولى، وهذا قلبٌ للمنطق القرآني؛ فالشفاعة لله أولًا، ثم لمن أذن له، ولا تُعطى بالوجاهة الأرضية ولا بمكانة الناس عند الناس.

وطرف أخير يظن أن الحساب شبيه بالوساطة الدنيوية، فيتصورون الشفاعة كما لو كانت “واسطة” بالمعنى البشري، بينما القرآن يقول في سورة (البقرة، 123): ﴿وَٱتَّقُوا۟ يَوْمًۭا لَّا تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍۢ شَيْـًٔا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَٰعَةٌ﴾، أي: لا يشفع أحد بغير إذن الله ولا لمن لم يرضَ الله عنه.

والملخص أن هناك خلط واضح، بعضهم يظن أن الغفران الإلهي يحدث فورًا بمجرد التضرع، فيغفل عن شرط العمل الصالح والتوبة، وكأن الله يغفر للغافلين دون مقابل، وآخرون يتصورون أن النار مجرد تخويف رمزي، وأن الشفاعة ستأتي “على يد المشايخ والأئمة” الذين يوقرهم الناس دينيًا، فيجعلونها شفاعة بشرية بدلًا من كونها رحمة إلهية، وهناك من يعتقد أن الحساب النهائي قد يُختصر عبر “الواسطة” بمفهومه الإنساني، فينسى أن القرآن والسنة يؤكدان أن كل شيء بيد الله، ولا شفاعة إلا بإذنه ورضاه كما أخبرنا الله تعالى في آية الكرسي من سورة (البقرة: 255): ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾، وفي (الأنبياء: 28): ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ﴾. 

الحقيقة أن الشفاعة لا تُعطى إلا لمن سار في الطريق الصحيح، وملأ سجله بالأعمال الصالحة، ثم خفت عزيمته قليلًا، أو ارتكب زلة بشرية، فتأتي رحمة من الله تجسد العدالة الإلهية، وهي ليست مخرجًا مجانيًا للغافل أو المتواكل، ولذا نعود اليوم للحديث عنها لتصحيح المفاهيم، وللتأكيد على أن الشفاعة ليست مجرد مفهوم خيالي، بل نظام رباني دقيق، متدرّج، له درجاته، وأهله، وشروطه، لأن صورة الشفاعة اليوم مشوشة في الوعي العام، رغم أن الأمر محسوم منذ نزول الوحي على سيدنا محمد ﷺ، لكن افتقار الناس للفهم يجعل الحسم كأنه ما زال معلقا في السماء.

إن الشفاعة ليست وعدًا مجانيًا، وليست رخصةً لإهمال العمل، وليست بابًا مفتوحًا لكل من أضاع عمره ثم جاء يطلب “وساطة أخروية”، بل هي رحمةٌ تكمّل عدل الله، وتُكرّم النبي ﷺ وأهل الطاعة، وتُفتح أبوابها لمن تعب في الطريق، ثم سقط مرّة أو مرتين، وليست لمن ترك الطريق كله.

وبين الفهم الشعبي المضطرب، والفهم الفلسفي المتجاوز للنصوص، تبقى الحقيقة واحدة:

الشفاعة دعمٌ إلهي لطريق سار عليه العبد أصلًا… وليست طريقًا جديدًا يُفتح لمن لم يمشِ خطوة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق