لم أعتد أن أُشرك نفسي في الحديث عن الانتخابات البرلمانية، لأن ما يجرى فيها يترك الإنسان حيرانًا، بين رئيس الدولة الذي يُطالب بالنزاهة والشفافية في اختيار من ينوب عن الشعب في البرلمان بغرفتيه، وما يحدث على الأرض من بعض تجاوزات، مرت في انتخابات مجلس الشيوخ مرور الكرام، دفعت ـ ربما ـ إلى المزيد من تلك التجاوزات في انتخابات المرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب، حتى علت الشكوى التي وصلت أصداؤها إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي.. وقبل ساعات فقط من إعلان نتائج هذه المرحلة من انتخابات مجلس النواب، وبينما كانت التوقعات تسير في اتجاه ما رسمه البعض لها، ظهر بيان للرئيس عبد الفتاح السيسي، على منصة X، يطلب فيه من الهيئة الوطنية للانتخابات، إعادة مراجعة مسار العملية الانتخابية في عدد من الدوائر الفردية، وفتح الباب، لأول مرة منذ سنوات، أمام احتمال إلغاء المرحلة الأولى بالكامل، أو إلغاء دوائر محددة (إذا تعذّر الوصول لإرادة الناخبين الحقيقية).
توقيت البيان جاء ملفتًا.. إذ جاء قبل أقل من أربعة وعشرين ساعة من إعلان النتائج، وبعد أسبوع، تصاعدت فيه الشكاوى والاتهامات من مرشحين وأحزاب ومراقبين عن حصول انتهاكات.. وتضمن بيان الرئيس إشارة غير مألوفة، بأن العملية الانتخابية لم تجرِ بسلاسة، إذ قال إن (الأحداث التي وقعت في بعض الدوائر) وصلت إلى الرئاسة وتحتاج إلى فحص دقيق.. وشدّد على أن الهيئة الوطنية للانتخابات، هي الجهة الوحيدة المخوّلة بالتحقيق واتخاذ القرار، وأكد استقلاليتها، وأن الرئاسة (لا تتدخل) لكنها تطالب بـ (فحص أعمق).. ولفت إلى ضرورة (عدم التردد) في اتخاذ القرار الصحيح، بما في ذلك إلغاء المرحلة كلها أو دوائر محددة، وهذه خطوة نادرة في المشهد الانتخابي المصري، تُحسب للرئيس السيسي، الذي أراد الانتصار لإرادة الناخبين الحقيقية.. لذلك، حظيت بردود أفعال إيجابية بشكل عام، سواء من الأحزاب السياسية أو المواطنين عبر وسائل التواصل الاجتماعى، لأن ذلك بمثابة تصحيح للخلل الذى حدث فى بعض الدوائر الانتخابية.
قال الرئيس السيسي، (وصلتني الأحداث التي وقعت في بعض الدوائر الانتخابية التي جرت فيها منافسة بين المرشحين الفرديين، وهذه الأحداث تخضع في فحصها والفصل فيها للهيئة الوطنية للانتخابات دون غيرها، وهي هيئة مستقلة في أعمالها وفقًا لقانون إنشائها.. وأطلب من الهيئة الموقرة، التدقيق التام عند فحص هذه الأحداث والطعون المقدمة بشأنها، وأن تتخذ القرارات التي تُرضى الله ـ سبحانه وتعالى ـ وتكشف بكل أمانة عن إرادة الناخبين الحقيقية، وأن تُعلي الهيئة من شفافية الإجراءات، من خلال التيقن من حصول مندوب كل مرشح على صورة من كشف حصر الأصوات من اللجنة الفرعية، حتى يأتي أعضاء مجلس النواب ممثلين فعليين عن شعب مصر تحت قبة البرلمان، ولا تتردد الهيئة الوطنية للانتخابات في اتخاذ القرار الصحيح عند تعذر الوصول إلى إرادة الناخبين الحقيقية، سواء بالإلغاء الكامل لهذه المرحلة من الانتخابات، أو إلغائها جزئيًا في دائرة أو أكثر من دائرة انتخابية، على أن تجرى الانتخابات الخاصة بها لاحقًا.. وأطلب كذلك من الهيئة الوطنية للانتخابات، الإعلان عن الإجراءات المتخذة نحو ما وصل إليها من مخالفات في الدعاية الانتخابية، حتى تتحقق الرقابة الفعالة على هذه الدعاية، ولا تخرج عن إطارها القانوني، ولا تتكرر في الجولات الانتخابية الباقية).
وعليه، وفي ضوء توجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي بالحفاظ على نزاهة وشفافية العملية الانتخابية، أكدت الهيئة الوطنية للانتخابات استمرارها في حالة انعقاد دائم لمتابعة كل التطورات، مع استعداد كامل لإلغاء أي نتائج تُخالف إرادة الناخبين، حتى لو كان الإخلال في لجنة فرعية واحدة.. كما أكدت على ان الرقابة القضائية صارمة، والطعون تحت التدقيق، وكل مخالفة تُحاسب لضمان عدالة ومصداقية العملية الانتخابية، وأن الهيئة تؤكد أن إرادة الشعب فوق كل اعتبار، وأن كل خطوة مراقبة بدقة حمايةً لمصداقية الانتخابات وتعزيزًا لثقة المواطنين في العملية الديمقراطية.. وأن الهيئة لن تسمح بوجود أي نائب لم يأتِ بإرادة الناخبين، وأن القانون سيطبق بكل صرامة، وفي حال اقتضت الضرورة، قد يتم إلغاء نتائج الانتخابات بأكملها لضمان نزاهة العملية الانتخابية ومصداقيتها أمام الشعب المصري.. ومن المقرر أن تصدر الهيئة الوطنية للانتخابات تقريرًا رسميًا مفصلًا عن سير المرحلة الأولى للانتخابات، تمهيدًا للانتقال إلى المرحلة الثانية من العملية الانتخابية خلال الأيام المقبلة، مع استمرار متابعة كافة الطعون والشكاوى، لضمان شفافية كاملة وحقائق موثقة لكل ما يتعلق بالانتخابات البرلمانية.
●●●
اللافت في هذا الشأن، هو السعادة الغامرة التي بدت في وجوه الشعب المصري، وعبرت عنها ألسنتهم، حتى بين عوام الناس، التي ظننت يومًا أن مثل هذا الانتخابات لم تعد تهمهم في شيء، اللهم من قلة وجدت رزقها فيما تحصل عليه من بعض جنيهات مقابل كل صوت انتخابي، يضعه صاحبه في الصندوق، لمرشح يستحق أو لا يستحق، ذلك لا يهم.. لقد جاء بيان الرئيس على منصة X، وكأنه طوق نجاة لأولئك الذين لجأوا إليه، ليحول بينهم وبين ما جرى في بعض اللجان الانتخابية، دعت بعض المرشحين إلى الانسحاب (على الهواء) صبيحة يوم الانتخابات.. واعتبروا أن ما تضمنه البيان من حرص واضح على صون إرادة الناخبين ورفع مستوى الشفافية، هو (رسالة سياسية مهمة، يجب أن تُترجم فورًا إلى إجراءات عملية).. فهذا البيان الرئاسي يضع الجميع ـ مؤسسات وأجهزة ومسئولين ـ أمام مسئولية وطنية مباشرة، لترجمة هذه التوجيهات إلى خطوات عملية وفورية، تُعيد الطمأنينة للناس، وتثبت أن الدولة المصرية عازمة بصدق على حماية نزاهة الانتخابات، وضمان التعبير الحقيقي عن إرادة الشعب.
إن ما ورد في بيان الرئيس، من مطالبة للهيئة الوطنية للانتخابات بالتدقيق الكامل، واتخاذ القرارات التي تُرضي الله وتجسّد إرادة الناخبين، هو دعوة جلية لإعلاء دولة القانون، وهي دعوة تحتاج إلى تفعيل فعلي وسريع من كل أجهزة الدولة المعنية، حتى يعرف المواطن أن صوته محترم وأن حقه مصون، فـ (نحن أمام لحظة فارقة، والمسئولية تقتضي أن نثبت للجميع، في الداخل والخارج، أن الانتخابات المصرية تُدار بنزاهة، وأن الدولة لا تتسامح مع أي تجاوز، وأن المستقبل السياسي لهذا الوطن أكبر من أي ممارسات فردية أو ضغوط أو تجاوزات).. لذلك، فمن الأهمية أن تضمن الجهات الأمنية والتنفيذية، الشفافية الكاملة في كل ما يتعلق بالوقائع والمخالفات التي جرى رصدها، وعدم التعرض أو تهديد أو الضغط على أي مواطن أو مندوب أو موظف، يبلغ عن مخالفات أو يقدم شهادات تخص العملية الانتخابية، وتمكين المرشحين ومندوبيهم من الحصول على صور كشوف الفرز من اللجان الفرعية وفق ما نصّ عليه القانون، وإتاحة المعلومات أمام الرأي العام بشأن ما اتُّخذ من إجراءات تجاه المخالفات في الدعاية أو التصويت أو الفرز، لضمان الرقابة المجتمعية واستقامة المسار الانتخابي.
وأراني أتوقف أمام ما نشره موقع قناة (الحرة)، من أنه (وبينما احتدم النقاش السياسي، كانت هناك صورة مختلفة تتشكل في شوارع شبرا وامتداداتها نحو روض الفرج وبولاق أبو العلا، حيث كان الدوائر تستعد لتصويت المرحلة الثانية من الانتخابات.. هناك، ظهرت المهندسة والإعلامية، مونيكا مجدي، كاستثناء لافت في اسلوب الحملات الانتخابية التقليدية: لا مواكب سيارات، لا فرق تنظيم، لا لافتات عملاقة.. فقط دراجة هوائية، ميكروفون صغير، وصوت يخاطب الناس وجها لوجه: أنا مونيكا مجدي.. مرشحة مجلس النواب.. بدور على صوت حر مش صوت بفلوس).. وانتشرت مقاطع فيديو لجولاتها على الدراجة، مثيرة موجة من الجدل بين من اعتبرها تجربة دعائية مختلفة، ومن رأى أنها مبالغة أو بحث عن التعاطف.. لكن المرشحة مونيكا مجدي تؤكد، أن كل ما تفعله قائم على جهد ذاتي، وأنها تواجه انتقادات وشائعات، لكنها (لا تتسامح مع أي محاولة للنيل من تعبها أو التشكيك في نواياها).. وفي ما يخصّ الاتهامات بـ (شراء الأصوات) أو (حسم النتائج مسبقًا)، تقول مونيكا لـ (الحرة)، إنها لا ترى أن الدولة تدعم مرشحًا بعينه، وتؤكد أن (بعض الممارسات الفردية هي التي تشوه الصورة، وليست توجيهات رسمية).. وتضيف أنها تحارب (المال السياسي، والرشى، والشنطة التموينية) التي (تزيّف إرادة الناخبين وتحرم المواطنين من صوتهم الحقيقي).. وتساءل الموقع في نهاية تقريره عن الانتخابات في مصر: إلى أين تتجه الأمور؟.. لتقول: بين بيان رئاسي غير مسبوق، ومرشحة تتجول بدراجة بين الأزقة، تبدو الانتخابات المصرية على أعتاب اختبار حقيقي.. وفي المسافة بين إرادة الناخبين وإرادة القوى النافذة، ستتحدد ملامح البرلمان المقبل).. انتهى.
●●●
إن معارك الداخل لا تختلف عند الرئيس السيسي عن معارك الخارج.. جميعها معارك يحب أن يقودها ويخوضها، حتى يأتي كل شيء متسقًا مع رؤيته التي يراها لمصر، اليوم والغد.. وفي الوقت الذي ظن البعض أن معارك الخارج تُشغل الرئيس عن متابعة الداخل، فوجئ هذا البعض، أن عينه ترى وأذنه تسمع، لأنه بالقرب منك، وليس بعيدًا عنك.. لذلك، فقد أثار البيان الذى أصدره، بشأن الأحداث التى شهدتها بعض الدوائر الانتخابية، ردود أفعال واسعة فى الأوساط السياسية، مؤكدين أنها تمثل لحظة فارقة فى مسار العملية الديمقراطية، وبعثت رسالة رئاسية بإعادة الانضباط للمشهد الانتخابي، ووضع الجميع أمام مسئولياتهم الوطنية، وفتح باب الأمل في حياة سياسية أفضل.
لقد كشف بيان الرئيس السيسي بوضوح، إصرار الدولة على أن تأتي نتائج انتخابات مجلس النواب، معبرة تعبيرًا صادقًا عن الإرادة الشعبية، ويعكس توجيه الرئيس للهيئة الوطنية للانتخابات بـ (اتخاذ القرارات التي تُرضي الله، وتكشف عن الإرادة الحقيقية للناخبين)، حرصه على تحقيق النزاهة والشفافية والعدالة بين جميع المرشحين، وهو ما يتسق مع قيم الدولة المصرية الحديثة التي تضع المواطن في صدارة الأولويات.. لقد أكد الرئيس على أن الهيئة الوطنية للانتخابات هي الجهة المختصة وحدها بفحص الأحداث والطعون، وفي ذلك تشديد على استقلال مؤسسات الدولة، ويمنح الهيئة مساحة كاملة لاتخاذ قراراتها وفقًا لنصوص القانون دون أي تدخل من أي جهة، وهو ما يعزز ثقة المصريين في منظومة الانتخابات ويدعم قواعد الشفافية.. ويُعد تأكيد الرئيس، على أنه لا مانع من إلغاء نتائج المرحلة الانتخابية، كليًا أو جزئيًا إذا تعذر كشف الإرادة الحقيقية للناخبين، ضمانة سياسية غير مسبوقة، تؤكد أن القيادة السياسية لا تتهاون في حماية الشرعية الانتخابية، وأن البرلمان القادم يجب أن يكون معبرًا عن الشعب بحق، لا عن ترتيبات أو مصالح أو تجاوزات.
بيان الرئيس يضع أسسًا جديدة لتاريخ الممارسة الانتخابية في مصر، ويبني جسورًا من الثقة بين المواطنين ومؤسساتهم، ويمهد لبرلمان قوي نابع من إرادة شعبية خالصة، مما يعزز مكانة الدولة ويؤكد التزامها بمسار ديمقراطي واضح المعالم، لأن الرئيس طالب الهيئة الوطنية للانتخابات بإعلان الإجراءات المتعلقة بمخالفات الدعاية الانتخابية، وهو ما يعكس توجهًا واضحًا نحو ضبط السلوك الانتخابي، ومنع أي شكل من أشكال التأثير غير المشروع في إرادة الناخب، سواء بالمال أو بالممارسات غير القانونية، الأمر الذي يضمن تكافؤ الفرص بين جميع المرشحين، كما أن البيان يحمل رسائل مهمة للمواطنين، وللمرشحين، وللمجتمع الدولي، مفادها أن الدولة المصرية تسير بخطى ثابتة نحو ترسيخ التجربة الديمقراطية في الجمهورية الجديدة، وأن القيادة السياسية تتمسك بمعايير صارمة للشفافية، كجزء من بناء دولة قانون ذات مؤسسات قوية.
إن الرئيس، بكلمته الحاسمة على منصة X، وضع معيارًا أخلاقيًا وقانونيًا واضحًا لا يقبل التأويل، وأنه لا مكان إلا لإرادة الناخبين الحقيقية ولا صوت يعلو فوق استقلال الهيئة الوطنية للانتخابات، ولا تهاون مع أي تجاوز يمس ثقة المواطن أو يشوّه المنافسة السياسية، وتؤكد أن الدولة المصرية تتعامل مع الانتخابات بمنطق حماية الإرادة الشعبية أولًا، وما ورد في بيان الرئيس من تأكيد على وصول معلومات واضحة عن بعض التجاوزات، ثم إحالة الأمر بالكامل إلى الهيئة الوطنية للانتخابات، باعتبارها الجهة الوحيدة المختصة بالفحص، يعكس احترامًا كبيرًا لمبدأ الفصل بين السلطات، ويؤكد أن الدولة لا تتدخل في عمل المؤسسات، لكنها في الوقت نفسه تراقب المشهد لحماية المواطن وحقه الدستوري في اختيار من يمثله.. وما ربط الرئيس قرارات الهيئة الوطنية للانتخابات بضرورة أن تكشف عن الإرادة الحقيقية للناخبين، يحمل دلالة قوية على أن العمل الانتخابي أصبح مسئولية أخلاقية وإنسانية قبل أن يكون مسئولية سياسية أو قانونية.. ويمثل استعداد القيادة السياسية لإلغاء نتائج المرحلة بالكامل أو جزئيًا ـ إذا ثبت تعذر معرفة الإرادة الحقيقية للناخبين ـ أعلى مستويات الجرأة والشفافية السياسية، ويكشف أن الدولة لن تقبل ببرلمان يدخل إليه أي نائب اعتمادًا على تجاوزات أو ضغوط أو تضليل.
●●●
■■ وبعد..
فإن مصر التي تتقدم نحو مرحلة جديدة، لا تحتمل خدش صورتها الانتخابية، ولا المساس بحق مواطنيها في الاختيار الحر، بل إن قيادتها السياسية تضمن حماية العملية الانتخابية، وتعزيز المشاركة الشعبية، وترسيخ حياة سياسية صحية قائمة على التنافس الشريف والكفاءة واحترام القانون.. ومن هنا، لابد من قراءة بيان الرئيس السيسي، باعتباره منعطفًا حقيقيًا لا مجرد تعليق سياسي، وبوابة لاستحقاقات انتخابية مقبلة أكثر نزاهة ووضوحًا، وبداية لمسار يعيد الاعتبار لحق المصريين في اختيار من يمثلهم دون تدخل أو تلاعب، وباعتباره حاسمًا لمن يتجاوز الخطوط الوطنية، وفي الوقت نفسه حاملًا رسالة أمل تشير إلى قدرة الدولة على تصحيح المسارات، وإعادة ثقة المواطنين في العملية السياسية، وفتح المجال العام على أسس تحترم القانون وتعلي من شأن المؤسسات.. البيان الرئاسي جاء ليؤكد بوضوح، أن الدولة ماضية في حماية هذا الحق بلا تردد ولا تأجيل.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.
















0 تعليق