ملفات إبستين.. إنتصار الحقيقة رغم أنف السلطة

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

منذ أن أسدل الستار على حياة الملياردير الأميركي جيفري إبستين، داخل زنزانته في سجن MCC New York عام 2019، لم يهدأ ضجيج قضيته. فوفاته الغامضة لم تنهِ الملف الجنائي، بل حوّلته إلى رمزٍ يكشف التقاطعات الخطيرة بين الجريمة المنظمة، والثروة، والسلطة السياسية العابرة للأحزاب، ورغم أن التحقيقات قررت أن وفاته كانت نتيجة إنتحاره دون شبهات إجرامية، لكن الحكاية لن تتوقف عند هذا الحد.

اليوم، وبينما تتدفق الوثائق التي باتت تُعرف بـ Epstein Files في موجات كشف متتابعة، تتجه الأنظار نحو الكنز الذي خلفه وراءه، عشرات الآلاف من السجلات القضائية والمراسلات الخاصة، وملفات وزارة العدل التي تروي قصصًا ظلت محجوبة لعقود. هذا التحقيق يتتبع خيوط القصة: ما الذي نعرفه، ولماذا يُعدّ هذا الملف نقطة تحوّل في اختبار العدالة الأميركية؟ خاصة وإنه منذ دقائق صوت مجلس النواب الأمريكي بأغلبية 427 صوتًا مقابل صوت واحد لإجبار وزارة العدل على نشر جميع ملفات جيفري إبستين.

Jeffrey Epstein: How conspiracy theories spread after financier's death
دونالد ترامب وجيفري إبستين

البداية المربكة... التستر باسم القانون

لم تبدأ قصة إبستين بالضجيج، بل بالصمت المطبق الذي فرضته شبكة علاقاته، ففي ربيع عام 2005، تقدمت عائلة في بالم بيتش ببلاغ يُتهم فيه إبستين بالاعتداء على ابنتهم المراهقة. سرعان ما كشفت تحقيقات الشرطة المحلية عن شبكة "استدراج" معقدة تستهدف القاصرات، لتتسع الدائرة ويتم استجواب عشرات الفتيات، وتظهر شهادات متشابهة تؤكد وجود 36 ضحية على الأقل في التحقيق الأولي وحده.
 

Epstein survivors speak out ahead of House vote، take aim at Trump - ABC News
صورة لإحدى الناجيات من عمليات إبستين.


بعد هذا وتحديدا في عام ٢٠٠٨ وبدلا من محاكمة فيدرالية شاملة، أعلنت وزارة العدل عن اتفاق "عدم المقاضاة" (Non-Prosecution Agreement). حصل إبستين بموجب هذه الصفقة على تسوية جنائية مريحة للغاية، حيث اعتراف بتهمتين على مستوى الولاية، وعليها حصل على عقوبة سجن لا تتجاوز 13 شهرًا، مع السماح له بالخروج اليومي لمدة 12 ساعة للعمل.
 

الصفقة وُقِّعت تحت إشراف المدعي الفيدرالي في ذلك الوقت، أليكس أكوستا، الذي أصبح لاحقًا وزيرًا للعمل في إدارة ترامب، قبل أن يضطر للاستقالة بعد سنوات مع انتشار تفاصيل الصفقة المخزية. كانت تلك اللحظة هي الأبرز في تاريخ القضية، حيث شعر الضحايا بأن العدالة قد تخلت عنهم لصالح نفوذ رجل ثري.

ألكسندر أكوستا - ويكيبيديا
أليكس أكوستا

العودة إلى الظل... والموت الذي أجّج الشكوك

في عام 2019، وبعد ضغط إعلامي وضحايا لم يستسلموا، أُعيد فتح التحقيق فيدراليًا. أُلقي القبض على إبستين في يوليو 2019 بتهم الاتجار بالجنس واستغلال القاصرات، ولكن المحاكمة لم تبدأ قط، لأنه وبعد أسابيع فقط، عُثر على إبستين ميتًا في زنزانته وتحديدا في 10 أغسطس 2019. ورغم إعلان الطبيب الشرعي الرسمي بأن الوفاة كانت انتحارًا شنقًا، إلا أن الشكوك اشتعلت فورًا وباتت تتجاوز الضحايا إلى الرأي العام، خاصة وأن إبستين كان محتجزًا تحت المراقبة.

بوفاة المتهم الرئيسي، تحولت القضية من مسار جنائي إلى صراع على الوثائق، وهدفها الأوحد محاسبة شبكته بالكامل وكشف المتورطين معه.

تشريح الملفات… ماذا تملك الحكومة؟

في السنوات التي تلت وفاته، أصبح تركيز الجهود منصبًا على تجميع وتصنيف ما تركه إبستين من سجلات. وبحلول عام 2025، صار معروفًا أن وزارة العدل والجهات المختصة تمتلك حجمًا هائلًا من البيانات وهي

أكثر من 300 جيجابايت من البيانات الرقمية، آلاف الصور ومقاطع الفيديو الحساسة للغاية، سجلات الرحلات الجوية لطائراته الخاصة على مدى 14 عامًا، مستندات مالية وعقود توضح تدفق الأموال.

مراسلات خاصة بين إبستين وشخصيات نافذة ومن بينهم عرب وبالطبع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وملفات ضخمة من القضايا المدنية، أبرزها قضية Giuffre v. Maxwell.
 

What We Know About JPMorgan's Long Relationship With Jeffrey Epstein - The New York Times
جيفري إبستين

موجات الكشف… والبحث عن "قنبلة سياسية"

في سبتمبر 2025، نشرت لجنة الرقابة في مجلس النواب أول دفعة ضخمة، تجاوزت 33،000 صفحة. ورغم ضخامة العدد، أوضحت وكالات الأنباء الدولية (رويترز، أسوشييتد برس) أن 3% فقط من هذه الوثائق كانت جديدة كليًا، بينما كانت البقية معروفة أو منشورة جزئيًا. وقد شكلت هذه الدفعة أول صورة مكتملة نسبيًا لآلية عمل الشبكة.

بعد ذلك بأسابيع، أتت موجة كشف إضافية تضمنت مراسلات خاصة ووثائق من تركة إبستين، وأبرز ما ورد فيها كان ظهور ثلاث رسائل بريد إلكتروني، يُعتقد أنها تشير إلى أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب كان على علم بممارسات إبستين للاتجار بالجنس، وهو ما نفاه ترامب بشدة. وقد أدت هذه الرسائل إلى تجدد المطالبات الشعبية والسياسية بالإفراج الكامل عن الوثائق، الذي أتى بثماره اليوم في الساعات القليلة الماضية.

لكن، وكما أشارت واشنطن بوست، فإن الوثائق "ترسم شبكة علاقات واسعة، لكنها لا تتضمن القنبلة السياسية" التي كان يتوقعها الجمهور.

السرية المنتصرة... ماذا لم يُكشف بعد؟

تُشير التقديرات إلى أن هناك ما يزيد عن مليون صفحة لم تُنشر بعد. وتتعلل وزارة العدل في حجبها لهذه الملفات بعدة أسباب قانونية حساسة، من ضمنها  حماية القاصرات وضمان سرية هويات الضحايا، وكذلك  استمرار التحقيقات لأن هناك تحقيقات متفرقة ما تزال جارية في ولايات مختلفة، وبالطبع النفوذ السياسي احتمالية تورّط شخصيات ذات نفوذ سياسي تتطلب سياقات قانونية محكمة قبل النشر، بالإضافة إلى القوانين الفيدرالية: قوانين تمنع نشر المواد الإباحية المتعلقة بالأطفال.

أحد أكبر أسباب خيبة الأمل العامة كان إصرار وزارة العدل على القول بأنه "لا توجد قائمة عملاء (Client List) تحمل هذا الاسم"، وهو ما كان يتوقعه البعض وقائمة العملاء تلك كان من المتوقع أن تضمن أسماء عملاء تلك الشبكات التي تستدرك القاصرات. أوضحت الوزارة أن السجلات هي مواد متفرقة وغير منظمة، وأن التحقيقات تتطلب أدلة تتجاوز مجرد وجود الأسماء في دفاتر عناوين أو سجلات رحلات الطيران لبدء اتهام مباشر.

الملف السياسي... مصير "قانون الشفافية"

لم يعد ملف إبستين قضية جنائية فحسب، بل تحوّل إلى أداة صراع سياسي في واشنطن.

في يوليو 2025، قُدّم مشروع قانون "شفافية ملفات إبستين" (Epstein Files Transparency Act)، الذي يلزم وزارة العدل بنشر جميع الملفات غير السرية، ويمنع أي حجب لأسباب سياسية. وقد جمعت عريضة المشروع الحد الأدنى من التوقيعات (218 توقيعًا) لإجبار القيادة على عرضه للتصويت.

إذا تم تمرير القانون، فستُتاح ملايين الوثائق للجمهور، وقد يُعاد فتح قضايا جديدة ومساءلة شخصيات نافذة من كلا الحزبين. لكن تمرير القانون يظل غير مضمون، نظرًا لتورط أطراف من اليمين واليسار على حد سواء.

Rep. Massie's push for Epstein files transparency
شفافية ملفات إبستين

اختبار القوة والثقة في العدالة

ملف إبستين يختبر ثلاثة مبادئ أساسية في النظام الأميركي، أولا المساواة أمام القانون، وهل تُطبَّق العدالة على أصحاب النفوذ بنفس الصرامة التي تُطبَّق بها على المواطن العادي؟ ثانيا مواجهة الشبكة، وهل يمكن للدولة أن تواجه شبكة متورط فيها شخصيات عابرة للاتجاهات السياسية؟ ثالثا انتصار الشفافية وهل ستنتصر الشفافية التي يطالب بها 77% من الرأي العام (حسب استطلاع Marist في سبتمبر 2025) على جدار السرية؟

حتى الآن، ما تم كشفه هو مجرد بداية لعملية طويلة. ملف إبستين سيظل علامة فارقة في التاريخ الأميركي الحديث؛ ليس فقط لأنه يتعلق بجريمة بشعة، بل لأنه يلمس جوهر القوة، من يملكها، ومن يحميها، وهل يمكن لبلد أن يدّعي العدالة عندما يفشل في فضح نظام كامل سمح لهذا الملياردير بأن يفعل ما فعل، وأن يموت قبل أن يُحاسَب؟

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق