التصوف روح العلم والمعرفة.. دفاع عن الطريق وتنقية للمسار

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

السبت 15/نوفمبر/2025 - 11:40 م 11/15/2025 11:40:02 PM


في زمنٍ تسارعت فيه الخطابات، وتعددت الأصوات حتى فقد الإنسان سكينته، عاد الحديث عن التصوف وكأنه قضية شائكة أو ترف روحي، بينما كان – عبر التاريخ – أحد أهم المشاريع التي حفظت للأمة توازنها النفسي، وأخلاقها، ومكانتها الحضارية.
غير أن هذا الطريق، الذي ولد نقيًّا، لم يَسْلم من سوء القراءة وسوء الممارسة معًا، فصار هدفًا للهجوم من خصومه، وهدفًا للتشويه من بعض مدّعيه، وموضوعًا للريبة في عيون غير العارفين بحقيقته.
اليوم، ربما أكثر من أي وقت، يحتاج الإنسان العربي إلى مراجعة جادة لهذه المدرسة العميقة، التي صهرت عبر القرون روح الدين في سلوك، وقلبت المعرفة إلى ذوق، وحوّلت الأخلاق إلى منهج.
وحين أفتح باب المناقشة اليوم حول التصوف، فإن ذلك ليس مجرد طقوس غامضة أو حالة وجدانية شخصية، بل أعتقد أنه يمكن أن يكون المشروع الحضاري والروحي والعلمي المتكامل الذي تحتاجه الأمة الإسلامية في وقتها الحاضر.
ونحتاج البداية لتعريف ما هو التصوّف… ولماذا أُسيء فهمه؟
التصوف في جوهره ليس طقوسًا غامضة ولا انسحابات عن الحياة، إنه – كما مارسه الكبار الأوائل – تصفية القلب من الكدر، وإفراد الحق بالاتباع، إنه مشروع تزكية، يقوم على ثلاثة أركان كبرى: العلم من خلال فهم الدين فهمًا دقيقًا، والسلوك عبر ترجمة العلم إلى واقع، والذوق حين ترقّي النفس في مقامات الأخلاق والسكينة.
لكنّ أزمة التصوف أنه واجه معضلتين، الأولى تتمثل في الخلط بين الجوهر والمظاهر، فحُسبت أخطاء المتطفلين على المدرسة كلها، والثانية في عجز البعض عن فهم لغة الروح، فظنّوا أن كل ما لا يُقاس بميزان المادة هو خرافة.
والحق أن التصوف، حين يمارس كما مارسَه الكبار أمثال الجنيد، والغزالي، وأبو الحسن الشاذلي، وعبد القادر الجيلاني، وابن عطاء الله السكندري، لا يمكن أن يكون إلا علمًا رصينًا وأخلاقًا حقيقية.
ومع هذه الممارسة الصحيحة للتصوف الحقيقي، حمى التصوف الأمة على مر القرون ووازنها نفسيًا وأخلاقيًا ومجتمعيًا، لأن التصوف في جوهره طريق تزكية للنفس والروح، وهو علم وسلوك وأخلاق، يُظهر الإنسان في أبهى صوره، ويحرره من الخوف والهوى، ويجعله يقف على قاعدة ثابتة بين الدنيا والآخرة، وقد جاء في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، فالمتصوف الحق يجمع بين الصدق في القول والفعل والمعرفة العميقة بالشرع وتهذيب النفس.
وقد واجه التصوف الإسلامي الصحيح حروبا جسيمة عبر القرون، ومن أسباب الحرب على التصوف عبر التاريخ، أنه يُحرّر الفرد من الاستلاب الفكري، فالتصوف يصنع إنسانًا لا يخشى إلا الله، ولا يتعلق إلا به، ولا ينتظر تصفيق الناس، وهذا النوع من البشر مزعج للسلطات المتغولة، وللمذاهب المتشددة، وللمصالح المتشابكة، وأعني بالتحرر هنا التحرر من الداخل.. وهو أخطر أنواع القوة.
ثم أن التصوف الحقيقي يقلل مساحة التطرّف، حين يتربى الإنسان على السكينة، والتواضع، ومقاومة الهوى، فإن احتمالات انجراره للعنف الأيديولوجي تقلّ إلى أدنى حدّ، ولهذا، كان المتطرفون يرون في التصوف "خصمًا" لا بد من إسقاطه، لأنه يعطّل مشروع الكراهية.
والتصوف أيضا، يفضح هشاشة المظاهر، وهو يضع الإنسان أمام نفسه، بلا رتوش، والنفس – كما قال الغزالي – “مملوءة بأمراض خفية”، ولما كانت كثير من المشاريع الفكرية تقوم على تضخيم “الأنا”، فإن التصوف يعاكس كل ذلك، ومن هنا، جاءت عداوة كثير من "النخب" التي بنت صورتها على الزينة لا الجوهر.
والتصوف السليم يهدد التجارة بالدين، ولا يعترف بالدجالين، ولا بالوسطاء، ولا بالمتاجرين بالبشر باسم الدين، وهو مدرسة تستعيد العلاقة المباشرة بين العبد وربه، ولأن السوق الديني يحتاج إلى أصوات متوترة، ومواقف متشددة، وصراعات لا تهدأ، فقد كان التصوف حجر عثرة أمام هذه الصناعة.
وهذا يدفع للإجابة عن السؤال الأهم: من هم أعداء التصوّف؟
هم المتطرفون، سواء من تيارات التكفير، أو الغلو الفقهي، أو الحركات التي صنعت من الدين مشروعًا للهيمنة السياسية، وهؤلاء يرون أن التصوف يُضعف خطابهم القائم على الخوف والتهديد، لأن المتصوف لا يخشى إلا الله.
والماديون الجدد، الذين أنكروا كل ما لا يقاس بالمعادلات، واعتبروا الإنسان “آلة نفسية” لا روح لها، وهؤلاء فقدوا القدرة على فهم أن الدين ليس طقوسًا فقط، بل بناء نفسي في الأصل.
والأخطر هم مدّعو التصوّف، وهؤلاء أخطر من أعدائه الظاهرين، ومن استبدلوا الذكر بالرقص، والروحانيات بالخرافات، والسلوك بالتجارة، والورع بالدعاية، هؤلاء شوهوا الطريق، وأعطوا خصومه دليلًا جاهزًا للهجوم، وهم كما وصفهم الإمام الرائد محمد زكي إبراهيم - رحمه الله - مجدد التصوف الإسلامي في العصر الحديث بمصطلح (المتمَصوفة)،
ثم من أعداء التصوف أيضا، من اعتادوا السلطة الدينية الصلبة، لأنه يُعيد تعريف سلطة العالم، وأنها ليست لمن يملك النص، بل من يملك المعرفة والسلوك والتواضع من خلال الفهم الصحيح للنص، ولذلك تحارب بعض المؤسسات التي تقدّم العلم كـ “هَرم طبقي” هذا الخط الروحي الذي يجعل الفقيه خادمًا للناس لا متسلطًا على رقابهم.
والأهم من أين يأتي الخلل الذي يجب تنقية التصوف منه؟
أولا: من الانفصال عن العلم، وبعض الطرق انشغلت بالمظاهر، وتركوا العلم، فأصبح الطريق بلا جذور، ولا يمكن أن يصح التصوف بلا فقه، ولا فقه بلا تزكية.
وثانيا: المبالغة في وصف الأولياء بما لم يصفوا به أنفسهم، وبعض الممارسات الشعبية حولت الأولياء إلى “كائنات خارقة”، بينما الأولياء في التراث هم الصالحون لا الأسطوريون.
وفي التراث الصوفي، كان الأولياء يدركون أن كراماتهم ليست زينة للعيون، ولا عنوانًا للسلطة بين الناس، فهم لم ينشروا ما وهبهم الله من أسرار أو مواهب، ولم يرفعوا أسماءهم في الأسواق، لأنهم عرفوا أن أي كشف لعلاقة مباشرة بينهم وبين الله يعني زوال المعجزة وإفناء السر، وأن ما بين العبد وربه من لطف ورعاية وكرامة لا يُظهر إلا لمن ارتقى قلبه وتأمل، وأن الإفصاح عنها يختزل التجربة الروحية إلى مجرد مظهر شكلي فارغ، وأن كل كلمة عن كرامة وليٍ هي مثل الضوء الذي إذا كشف عن نفسه يغيب معه السر ويذوب معه الوصل، لذلك عاشوا في صمت عميق، متواضعين، كما لو أن كل عين ترى العظمة لا تلمس إلا التواضع، وكل قلب يلمس الكرامة لا يعرفها إلا في السر.
لقد كان الأمر عندهم أشبه بالمحيط الذي يخفي أعماقه عن أعين السباحين، والعين لا ترى إلا سطح الماء، والفيض الإلهي الذي يمر عبرهم، إذا ظهر، يتحول إلى غيث في القلب، لا إلى مجد في الدنيا، وقد أفرد بعضهم وصف هذا السر بأنه نور لا يُقاس، وقوة لا تُرى، وروعة لا تحدها حدود، ومحيط من جمال لا يلتقطه سوى من تحرر قلبه من الهوى، وكانوا يرددون أن الكرامة الحقيقية هي أن لا يدركها أحد إلا الله، وأن كل ما يُرى أو يُقال أو يُختبر في الدنيا مجرد ظل، وأنهم هم أول من يخفون عن أنفسهم أعظم ما وهبهم الله من أسرار، فلا يفسد السر بمباهاته ولا يستهلكه بالتفاخر، بل يتركونه زادًا لمن عرف قيمته في الخفاء، وهكذا، كل ما عبر عنه التراث عن أولياء الله من كرامات كان صمتٍ عميق وتواضعٍ لا يقدر البشر على موازاته، كأنهم يعيشون في قلوبهم محيطًا من نور لا يُرى، وسرًا لا يُكشف، وعظمة لا تُعلن إلا في صمت الكون.
وثالثا: غياب الدور الإصلاحي، ورغم ما يمتلكه التصوف من أدوات روحية وأخلاقية عميقة، إلا أن دوره الإصلاحي حاليا في تصحيح الخطاب الديني المعاصر يظل محدودًا، وهذا الغياب له أسباب واضحة وجذرية، منها أن بعض الطرق الصوفية انشغلت بالمظاهر والطقوس الداخلية على حساب التواصل الفعلي مع المجتمع، مما أضعف تأثيرها الإصلاحي في مواجهة التشدد أو التطرف.
ثم أن هناك ضعف في نقل التجارب الروحية والفكرية للأجيال الجديدة بلغة معاصرة مفهومة، فظل خطاب التصوف محصورًا في نصوص ومصطلحات غامضة للكثيرين، وهو ما أتاح للماديين والمتطرفين استغلال الفراغ وتشكيل خطاب مضاد يسيطر على وعي الجمهور.
والأخطر أن بعض المتصوفة لم يسعوا إلى الانخراط في الفضاء العام، أو إلى مواجهة الفكر الديني المنحرف بالمعرفة العلمية والمنهجية القرآنية، خوفًا من تشويه سمعتهم أو فقدان مصداقيتهم الروحية، رغم أن التصوف بطبيعته قادر على ضبط الخطاب الديني لأنه يربي الإنسان على الأخلاق والوعي والاعتدال.
والأجدر بلفت الانتباه، أن غياب المؤسسات الصوفية الفاعلة التي توازن بين المعرفة الدينية والوعي الاجتماعي ساهم في محدودية الدور الإصلاحي، إذ لم تتشكل منصات تعليمية أو إعلامية قوية توصل جوهر التصوف إلى الجماهير، وهذا أدى إلى أن يبقى التصوف أداة شخصية للزهد والتهذيب أكثر من كونه مشروعًا مجتمعيًا إصلاحيًا قادرًا على مواجهة الانحرافات الفكرية والدينية، بينما التاريخ يثبت أن التصوف يمكنه أن يكون أداة إصلاحية قوية إذا ما تم توجيهه نحو تعليم الشباب وقادة الرأي، وربط الروحانية بالوعي المدني والمعرفة الصحيحة، ليصبح رافعة لتصحيح الخطاب الديني بدلًا من أن يكون مجرد ممارسة فردية.
وفي مصر قدم التصوف نموذجًا متوازنًا من خلال مدرسة المرسي أبو العباس، والسيد البدوي، وإبراهيم الدسوقي،  وابن عطاء الله السكندري، وأبي الحسن الشاذلي، وغيرهم من أئمة التصوف الذين أسسوا مدارس لخدمة الفقراء ونشر العلم، وصنعوا التسامح الشعبي والروح الجماعية واحترام الأولياء والقدرة على الصبر والثبات، وكل هذا يفسر كيف صمدت مصر رغم العواصف، لأن التصوف كان الحارس الداخلي للوعي الجمعي، وقد ضرب المتصوفة الحقيقيين أمثلة تاريخية ملموسة في مقاومة الظلم والفساد، مثل الدور الاجتماعي والسياسي للشيخ عبد القادر الجيلاني في بغداد الذي لم يقتصر على التعليم الديني بل أنشأ مدارس ومؤسسات اجتماعية، والشيخ أبو الحسن الشاذلي في مصر وشمال إفريقيا الذي أسس طريقة اجتماعية روحية لخدمة المجتمع، ويظهر التاريخ كيف أن المتصوفة في القاهرة والإسكندرية والأقاليم أسسوا مدارس علمية وخيرية أخرجت أجيالًا من العلماء والفقهاء والمصلحين الاجتماعيين، كما لعبوا دورًا حاسمًا في تهذيب النفوس وبث روح التسامح بين مختلف المذاهب والطوائف، وقد كان لهذه المدرسة أثر كبير على استقرار المجتمع وصموده أمام الأزمات.
واليوم يمكن للتصوف أن يكون مشروع بناء الإنسان في القرن الحادي والعشرين، لأنه يوازن الروح والفكر، ويقدم الصفاء بدل التشتت، والنية بدل الاستعراض، والإنسان قبل المؤسسة، والسلوك قبل الشعار، والروح قبل العولمة، وهو ليس هروبًا من الحياة بل تدريب على مواجهتها، والمتصوف الحق لا يدخل صراعًا مع أحد، لأن معركته في داخله ومع كل انتصار روحي تقل مساحة الظلام في العالم، والتصوف قوة حضارية ناعمة حافظت على وجدان الأمة وصنعت إنسانًا متصالحًا مع ذاته وخالقه وخلقه، ومن حاربوه إنما حاربوا انسجام الإنسان مع ذاته ومشروعًا أخلاقيًا يخيف الخطاب المتطرف والمادي والسلطوي، والأمة التي تفقد روحها تخسر كل شيء، والأمة التي تجد روحها تصنع حضارة، والتصوف حين يعود إلى أصله النقي العلمي والديني هو روح الأمة التي لا تنطفئ، ويؤكد الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}، فكل نفس متزكية بالتصوف يمكن أن تُنقذ جزءًا من العالم، والتصوف ليس ترفًا فكريًا بل ضرورة حضارية وروحية لإنقاذ الإنسان والمجتمع، ومن يهاجمه إنما يهاجم أعمق مكامن الوعي والرحمة في الأمة، والتصوف حين يُمارس كما أراده العلماء والمتصوفة الأوائل يجمع بين المعرفة الدينية الدقيقة والسلوك العملي والروحانية النقية، وهو مدرسة تعيد للإنسان وعيه بذاته، وتوازن بين الفرد والمجتمع، وبين الدين والدنيا، وبين العلم والأخلاق، وبين الحرية والتقوى، وهو مشروع حضاري يمكن لكل مجتمع عربي وإسلامي أن يستفيد منه في مواجهة تحديات العصر، من ضوضاء الإعلام وتفكك القيم والاضطرابات النفسية والاجتماعية، فالتصوف نداء دائم لتصحيح الداخل قبل إصلاح الخارج، وتربية الإنسان على القيم التي تجعل المجتمعات أمة متماسكة لا مجرد أفراد يبحثون عن متعة مؤقتة أو استعراض فارغ، وهو الطريق الذي يربط الإنسان بخالقه وبأخلاقه وبمجتمعه، ويعيد للأمة روحها وقيمها وحضارتها، ويجعلها قادرة على مواجهة تحديات العصر بثبات وحكمة.
وأخيرا... حين نحكم على التصوف من خلال تصرفات القصر والمستغلين، أو عبر ما تبثه أبواق أعدائه، نخسر الكثير من القيم الجوهرية التي يمثلها هذا الطريق النقي، فنفسر الزيف على أنه حقيقة، ونحكم على منهج عميق، قائم على العلم والروح والأخلاق، بما ليس فيه، ونغفل أن التصوف الصحيح هو مدرسة للتهذيب، وللنقد الذاتي، وللوعي الأخلاقي والاجتماعي، وأنه يربي الإنسان على الاتزان والعدل، بعيدًا عن التظاهر أو التسلط أو الاستغلال.
لا يجب أن نٌقيد المنهج بأفعال المشوهين، ولا أن نحمل الطريق مسؤولية اختلالات من استخدمه لأغراض شخصية أو دنيوية، فالدرس من هذا أن التفريق بين الجوهر والمظهر، وبين القصد النقي والاستخدام الفاسد، هو مفتاح فهم التصوف، وأن إعادة النظر بعين واعية تجعله مشروعًا حضاريًا قادرًا على إصلاح النفس والمجتمع، وأننا نخسر فرصة عظيمة إذا سلمنا الحكم للأصوات المغلوطة، فالتصوف الحقيقي يظل دائمًا منارة للمعرفة، والروح، والخلق، ومصدرًا للقيم التي تحمي الإنسان والأمة من الانحراف، وهذا الفهم الناضج هو ما يجب أن نبنيه وننقله للأجيال، ليظل التصوف طريقًا للسكينة والتوازن، لا مجرد ظاهرة أو مظهر يمكن أن يُساء فهمه أو يُستغل.

 

 

 

ads
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق