ننشر نص وثيقة "كايروس فلسطين – الإيمان في زمن الإبادة"

البوابة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

تنشر “البوابة نيوز” وثيقة “كايروس فلسطين – لحظة الحقيقة.. الإيمان في زمن الإبادة”، والتي جاءت في ظل الأزمة الإنسانية العميقة التي يشهدها الشعب الفلسطيني اليوم، حيث تبرز الحاجة الماسة إلى توثيق الأحداث وتقديم الرؤية الإيمانية والإنسانية التي تعكس حقيقة الواقع على الأرض، تقدّم صورة شاملة ودقيقة للمعاناة الفلسطينية، من غزة والضفة الغربية إلى القدس وداخل الخط الأخضر، مرورًا بقضية اللاجئين والأسرى، في وقت يشهد فيه العالم صمتًا دوليًا مريبًا.

استمرارًا لروح وثيقة كايروس الأولى

الوثيقة، التي تضم رجال دين ونساء من مختلف الكنائس الفلسطينية، تمثل استمرارًا لروح وثيقة كايروس الأولى لعام 2009، لكنها تأتي اليوم في سياق أكثر قسوة وخطورة، لتكشف عن الإبادة الجماعية، التهجير، التمييز العنصري، وعمليات التطهير العرقي الممنهجة، وتدعو الكنائس والمؤسسات الدولية إلى التحرك الفوري والدعم المستمر للشعب الفلسطيني، على الصعيدين الإنساني والأخلاقي، فإلي نص الوثيقة: 

 نرى يومًا نعيش فيه أحراراً في أرضنا، مع كلّ سكّان الأرض، في سلامٍ ومصالحة حقيقيّة، مبنيّة على قاعدة العدل والمساواة لكلّ خليقة الله "حيث الرحمة والحقّ يلتقيان، والبرّ والسلام يتلاثمان" (مزمور ١٠:٨٥). 

 نحن أطلقنا في العام ٢٠٠٩ وثيقة كايروس فلسطين، كلمة إيمان ورجاء ومحبّة من قلب المعاناة الفلسطينية، وقد سمع حينها رؤساء كنائس القدس هذه الصرخة وحيّوها وأيّدوها، كما لاقت تجاوبًا وصدىً محليًّا ودوليًّا، اجتمعنا إذَّاك رجالاً و نساءً، اكليروس وعلمانيين، من مختلف العائلات الكنسيّة في فلسطين، بعد الصلاة والتفكير في معاناة شعبنا الفلسطيني تحت الاحتلال، وأطلقنا صرخة رجاء في غيابِ الأمل، مؤكّدين إيماننا بالله وحبّنا لوطننا، جازمين أنّ القضية تتعلق بحياة الإنسان وكرامته. 

 نعيش اليوم زمن إبادة وتطهير عرقي وتهجير قسري، كل ذلك يجري أمام أعين العالم، ويتطلب منّا وقفةً جديدة تختلف عن كلّ ما سبق، إنها لحظة مصير، ولحظة حقيقة في آنٍ معًا لذلك، نجدّد اليوم وقفة الحق والتزامنا بالثوابت الإيمانية واللاهوتية والأخلاقية. 

نلقي اليوم نظرةً على الواقع، ونقف وقفة حق متجددة، نستجيب فيها لصوت الروح القدس في أعماقنا، ونصغي إلى دعوة الإيمان في زمن الإبادة، فنجدّد رسالتنا— رسالة الإيمان والرجاء والمحبة — وتقدّم رؤية إيمانية لزمن (ما بعد) الإبادة. 

القسم الأول: الواقع: إبادة واستعمار وتطهير عرقي 

١-١ نطلق هذه الصرخة من قلب واقع العدوان على غزة، الذي خلّف مئات آلاف الشهداء والجرحى، وقرابة المليوني مُهجّرٍ، العديد دُفنوا تحت الأنقاض، أو أحرِقُوا أحياء، أو عُذّبوا وقتلوا في سجون الموت، أو شُرّدوا قسراً أكثر من مرّة. أو عانوا من التجويع، واستهدفوا وهم يركضون للطعام. قُتل عشرات آلاف الأطفال بأبشع الطرق. وتمّ إبادة القطاع الصحّي والتعليمي والاقتصادي والبيئي وكلّ مكوّنات الحياة، ولن تكفي السنين للتعافي من هول المصاب والكارثة التي حلّت بنا كشعب.

 ١-٢ أجمعت تقارير منظمات حقوق الإنسان والمنظمات القانونية والحقوقيّة والخبراء الدوليين بشكلٍ لا لُبس فيه أن تصريحات السياسيين الإسرائيليين وممارسات إسرائيل في عدوانها على غزة هي إبادة جماعيّة. وتمّ توثيق العديد من جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وصدرت مذكّرات اعتقال بحقّ قيادات سياسيّة إسرائيليّة بناءً على أحكام محكمة العدل الدولية.

 ١-٣ يُراد لنا ألّا نبقى في أرضنا: فإما التهجير أو الموت أو الخنوع. إن حرب الإبادة في غزة هي امتداد للمخطّط الصهيوني الرامي إلى الاستيلاء على كامل أرض فلسطين، خاليةً من الفلسطينيين. إن التطهير العرقيّ، وحرمان المهجّرين قسرًا من حقّهم في العودة، هي سياساتٌ مستمرة تُمارس في القدس والضفة وغزة ومناطق ال 48. فنكبتُنا كفلسطينيين هي واقعٌ نعيشه حتى اليوم. لقد حصلت هذه الإبادة من قبل إسرائيل بعد سنوات من الفصل العنصري (الأبارتهايد)والاستعمار الاستيطاني، والاستبداد السياسيّ والسياسة المتعمّدة لقتل أيّ فرصة لحلّ سياسيّ، كحلّ الدولتين، وما يحصل اليوم هو الوجه الحقيقيّ للأيديولوجيّة الصهيونيّة، والتي رسّخت عبر السنين نظامَ فصلٍ عنصريّ ممنهجٍ ومُعقّدٍ ومدعومٍ بأحدث التقنيات والتكنولوجيا، وهو نظامٌ يُسيطر تعسّفيًّا سيطرةً تامةً على جميع نواحي حياة الإنسان الفلسطينيّ، مُجزّئًا فلسطين ومُقطّعًا أوصالها ومحوّلاً حياة الفلسطينيّ فيها إلى جحيمٍ لا يُطاق، وما سُمّيَ بقانون القومية الإسرائيلي الصادر سنة ٢٠١٨ جسّدَ العنصريّة الصهيونيّة والفوقية الاستعلائية اليهوديّة في فلسطين وجعل من نظام الفصل العنصري واقعًا معاشًا، وجاء القرار الإسرائيلي بضمّ الضفة الغربية ليؤكد النيّة الحقيقيّة لهذا الاستعمار. 

١-٤ في الوقت الذي وقفت فيه شعوب العالم إلى جانبنا، كشفت حرب الإبادة نفاق العالم الغربي وقِيَمِهِ المزعومة والحضارة التي يتباهى بها، ويدّعي فيها الالتزام بحقوق الإنسان والقوانين الدولية، وقد ضحّى بنا، فأظهر تجاهنا عنصرية وازدواجية في المعايير. بالطبع، لا بدّ من التمييز بين صُنّاع السياسات المدمّرة، وبين القيادات والمنظمات والحركات الشعبية الكثيرة التي أظهرت تعاطفًا صادقًا مع الفلسطينيين في غزة، وطالبت بإنهاء الظلم والقتل، وبمنح شعبنا كامل حقوقه المشروعة.

 ١-٥ كما أظهرت الحرب الوجه الحقيقي للصهيونية يهودية كانت أم مسيحية، فبرّرت العنف والقتل، وصُدمنا نحن المسيحيين الفلسطينيين من مواقف العديد من الكنائس الذين تبنّوا رواية المستعمر أو صمتوا امام ابادة شعبنا، فغلَبوا في بعض الأحيان حوار الأديان اليهودي المسيحي على الحق وكرامة الانسان وحياته متجاهلة السياق. وحكمت على طرف وتغاضت عن الطرف الآخر، أو ظلت صامتةً، بل ذهب بعضها الى تبني مواقف متواطئة وداعمة للإبادة أو داعية إليها. 

١-٦ تقترف إسرائيل هذه الجرائم مستندةً ومتذرعة بما حصل في السابع من تشرين الأول ٢٠٢٣، وتقول إن ما تقوم به هو دفاع عن النفس، متناسية أنّ هجوم حماس في السابع من أكتوبر ناجم عن سنوات من الظلم والقمع والتهجير منذ النكبة سنة ١٩٤٨، ثم الحصار الخانق غير الأخلاقيّ المفروض على غزة لأكثر من ستة عشر عامًا قبل السابع من تشرين الأول. 

هذه الإشارة إلى السياق، وإلى حقّ الشعب الواقع تحت الاحتلال في مقاومة المحتلّ والظالم، تبين أن هجوم يوم السابع من أكتوبر له سياق. ونحن نعلم أن ذكر السياق لا يبرر قتل المدنيين وأَسْرِهِم وكلّ انتهاك للقوانين والأعراف أو كل جرائم الحرب. لكن، في الوقت نفسه، لا يمكن قبول سرديّة الدفاع عن النفس، فكيف يُدافع المستعمر عن نفسه ممّن استعمرهم وطردهم من أرضهم؟ والقانون الدولي، إن كان لهذا القانون أيّ قيمة بعد الآن، يُفنّد هذا الادعاء.

١-٧ يقوم الاستعمار الاستيطاني، قديمًا وحديثًا على الإبادة والتطهير العرقي والتهجير القسري للسكان الأصليين من أجل نهب واستغلال الثروات والموارد الطبيعية وتعزيز الأرباح الاقتصادية للمستعمر، ونرى أن لحرب الإبادة في غزة ابعادًا اقتصادية عميقة ولا سيما حقول الغاز الطبيعي في المياه الإقليمية الفلسطينية، ثم إن السيطرة على قطاع غزة يعني السيطرة على أحد أهم الطرق الحيوية للتجارة الدولية وعلى ممرات خطوط امدادات الطاقة، وتمكين مشاريع اقتصادية وتجارية كبرى تخدم الهيمنة الاقتصادية للمستعمر على حساب الشعب الفلسطيني. إننا نرى أن السكوت الدولي على جرائم الإبادة في غزة ليس بريئًا، بل هو مرتبط بمصالح اقتصادية عظمى تُعلي الربح فوق حياة وحقوق الإنسان. 

١-٨ وفي القدس هناك ممارسات استعمارية استيطانية واضحة لها طابع ديني وديموغرافي تهدف إلى تهويدها على حساب تعدّديتها، واعتداءات مستمرة على المقدّسات الدينيّة الإسلاميّة والمسيحيّة ومحاولات حرق بعض الكنائس وتدمير وتدنيسٌ لبعض المقابر وكتابة شعارات عنصرية عليها.

 وازدياد الاعتداء على رجال الدين المسيحيين، وعرقلة الاحتفالات الدينية المسيحيّة مثل سبت النور وأحد الشعانين وغيرها، والابتزاز المالي عبر فرض ضرائب وتجميد حسابات الكنائس البنكيّة بشكلٍ يخالف "الوضع القائم"، في سياساتٍ وصفها رؤساء كنائس القدس بأنها تأتي ضمن سياسة ممنهجة لتفريغ الأراضي المقدسة من المسيحيين.

 ١-٩ تتعرض المدن والقرى والتجمعات البدوية في الضفة الغربية المحتلّة كلّها، من شمالها إلى جنوبها، لهجمات المستوطنين والمستوطنات، يعيثون في الأرض فسادًا، ويدمّرون الزرع ويسممون أو يستولون على موارد المياه ويعتدون على البشر، بحماية ومساندة ومشاركة الجيش الإسرائيلي في الاعتداء والقتل وتدمير البيوت وتهجير الناس من أراضيها. ويخضع المجتمع الفلسطيني لحصار خانق بفعل الحواجز والبوّابات وكل ما يحرم الفلسطينيين من حقهم في حرية الحركة. 

 ١-١٠ والفلسطينيّون في داخل دولة إسرائيل يعانون من عنصريّة واضحة وتمييز في الحقوق، وهناك استهدافٌ للمجتمعات الفلسطينيّة، من خلال ترهيب وتجريم حريّة التعبير وكل مسعى لمساندة الحقّ الفلسطينيّ، بالإضافة إلى تغاضي مقصود عن الجريمة المنظّمة المتفشّية في المجتمعات الفلسطينية في الداخل. وما زال أهلنا الذين هُجّروا في الداخل، وصودرت أراضيهم، محرومين حتى من حقّ العودة إلى قراهم وأملاكهم وإعادة بنائها. وما زالت المجتمعات البدوية ضحية التهجير الممنهج والتطهير العرقي خاصة في النقب. 

١-١١ اعتدت إسرائيل في السنوات الماضية ، بدعمٍ من الولايات المتحدة وقوىً عظمى أخرى، على الثوابت والحقوق الشرعيّة للفلسطينيين، فسَعَت لقتل قضيّة اللاجئين بتدميرها لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى (الأونروا)، واتهمتها بالإرهاب، وضغطت على الدول المانحة لوقف تمويلها. كما وتمّ تدمير ممنهج لعدد من المخيمات في الضفة الغربية وتشريد الآلاف من داخلها من جديد. 

١-١٢ وتتعرّض مؤسسات المجتمع المدنيّ الفلسطيني العاملة في مجال حقوق الإنسان لهجوم شديد يهدف إلى تشويه صورتها وتقويض عملها وحتى تصفيتها باتهامها بالإرهاب، والضغط على العديد من الحكومات لوقف تمويلها وملاحقتها قانونيا. 

١-١٣ منذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ وسّعت إسرائيل بشكل هائل سياسة الاختطاف والاعتقال لديها، وهناك اليوم الآلاف من المختطفين/ات والأسرى/والأسيرات الفلسطينيين يقبعون في المعتقلات الإسرائيلية، ثلثهم تقريبًا محتجزون/ات إداريًّا دون توجيه أي تهم أو محاكمة، ومنهم عددٌ كبير من الأطفال، وتمّ تسجيل العديد من حالات القتل في السجون منذ اندلاع الحرب. وتوثّق منظمات حقوق الإنسان ممارسات ممنهجة من التعذيب، والعنف الجنسي، وسياسات التجويع، وحرمان المختطفين والمعتقلين من الرعاية الطبية، إضافة إلى الاحتجاز الجماعي وعزلهم عن العالم الخارجي، خصوصًا لمعتقلي غزة، بموجب قانون إسرائيلي عسكري ، الأمر الذي أدى إلى حالات اختفاء قسري لأعداد كبيرة وغياب أي تمثيل قانوني لهم وفقدان الاتصال معهم.

١-١٤ وبات البيت الداخلي الفلسطيني بحاجة إلى إعادة ترتيب، أكثر من أيّ وقتٍ مضى. فقد تعمّق فيه الانقسام السياسيّ والتنافس وإقصاء الآخر، وباتت ثقة أغلبية الشعب بقياداته السياسيّة مفقودة. وأُجبرت القيادة الفلسطينية نتيجة لاتفاقيّات أوسلو وما تبعها على الوقوع في فخّ خدمة المستعمر، فأصبحت تدير حياة الفلسطينيّ الواقع تحت الاحتلال نيابة عن المحتّل الإسرائيليّ، وهي عاجزة عن حماية الفلسطيني من إرهاب الاستيطان والمنظومة الأمنيّة الإسرائيلية. 

١-١٥ وبدأت تنتشر بعض مظاهر الفوضى في داخل البيت الفلسطيني وأصبحت جزءًا من واقعنا، نتيجة لغياب سلطة القانون أو عدم تطبيق القانون بشكلٍ حازم. ومن نتائج هذا الواقع ظاهرة الاستقواء والاعتداءات المتكرّرة على الناس والأراضي وتعزيز القبليّة أو العشائريّة والمحسوبيّات والفساد على أشكاله وأمور كثيرة أخرى تحصل على حساب الحق العام، ما زاد من حالة الإحباط واليأس بين الناس. وفي ظلّ الدمار الهائل والإبادة في غزة، هناك اعتداءات وتصفيات وفوضى وسرقات زادت من معاناة الإنسان الفلسطيني.

 ١-١٦ وأصبحت الانشغالات اليوميّة للإنسان الفلسطيني تحت الاحتلال العسكريّ وجلّ اهتمامه يتعلّق بالقضايا الداخليّة، كوضع الحواجز، أو حالة وقيود السفر عبر الحواجز والحدود الدولية، أو رواتب الموظفين الحكوميين، وقضايا أخرى كثيرة والتي هي بأهميّتها الكبيرة أعراضٌ في القضيّة الرئيسية ومنظومة الهيمنة السياسية والعسكريّة التي تفرضها إسرائيل ككيان مُحتل على الإنسان الفلسطيني، والتي يجب أن تكون محور اهتمامنا. 

١-١٧ ويعاني مجتمعنا وثقافتنا السياسيّة من عدم تجديد القيادات والرؤى بانتخابات ديمقراطية وتغييب للقيادات الشابة. كما تعاني فلسطين اليوم من هجرة العقول والكفاءات والإمكانيّات الشابة. وهو تهجير قسري لا هجرة، نتيجة للقهر وغياب الفرص، بل انعدامها. ونؤكد نحن الفلسطينيين من كافة الأديان أننا السّكان الأصليون لهذه الأرض، وأن وجودنا اليوم مُهدّدٌ بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ. ونزيف هجرة المسيحييّن لم يتوقف، بل تشكّل هذه الهجرة خطرًا حقيقيًّا على الحضور المسيحي في فلسطين الذي أصبح مهدّدًا بالتطهير العرقي والزوال. 

١-١٨ المسيحيّون في فلسطين والمهجر هم جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني، وتحدّياتهم هي تحديات الشعب عامة. ويتأثر الواقع الكنسيّ مباشرة بفعل كلّ ما يحصل على الأرض. وتعمل الكنيسة جاهدة لمساندة أبنائها وبناتها وكلّ المجتمع لمواجهة هذه الضغوطات، وذلك بالعمل الرعويّ وعمل المؤسسات الكنسيّة. ويعمل رؤساء الكنائس معًا لمواجهة الاعتداءات المتكرّرة ويصدرون البيانات ويأخذون مواقف جريئة عندما تقتضي الضرورة بالرغم من الضغوطات والابتزازات التي يتعرضون لها، علّ العالم وكنائس العالم يلتفت إليهم. في الوقت عينه، تشعر فئة من المسيحيين الفلسطينيين بوجوب تقارب أكثر بين الاكليروس والمؤمنين وبدور أكبر للقيادات الكنسية في رفض الاحتلال و رموزه وإعلاء الاهوت المحلي وانتشاره بشكل أكبر في المنابر والمواقف الكنسيّة. 

١-١٩ تعرّض مشرقنا في السنوات الأخيرة لتغييرات سياسية إقليميّة كثيرة نتيجة لخطة ممنهجة سعت لفرض هيمنة عسكريّة لإسرائيل التي أصبحت تتحكّم بمصير كلّ المنطقة وبدعمٍ من القوى الغربيّة، ورسم خارطة سياسيّة ديموغرافيّة جديدة في منطقتنا. واعتدت إسرائيل، مدعومة من حلفائها، وبشكلٍ ممنهج، على الكثير من دول المشرق، منتهكة سيادتها وسيادة شعوبها وضربها القوانين الدولية بعرض الحائط، ومُرسّخةً نفسها كدولة متنمّرة عدوانية فوق كل القوانين والاتفاقيّات، وواضعة الشرق والعالم على شفير الهاوية. 

١-٢٠ نتيجة لهذه التدخلات الخارجية والنزاعات على الهيمنة، ظهرت جماعات دينية متطّرفة إرهابيّة نُدينها، وندين من دعمها ومن وفّر ويوفّر لها الأسلحة والمال. ورسّخت هذه الجماعات مبدأ الطائفية على حساب المواطنة، وقد دفعت الكثير من "الأقليات" ثمنًا أليمًا لهذا التطرّف، بما فيهم مسيحيّو المشرق، خاصة في سوريا والعراق. وإننا لنقف بجانبهم وجانب كلّ ضحيّة للإرهاب الطائفي والديني وقفة تضامن وصلاة. 

١-٢١ وفي الوقت نفسه، كان هناك اتفاقيات تطبيعيّة مع بعض الدول العربية تحت مسمى "اتفاقيات إبراهيم"، تمّ تسويقها على أنّها اتفاقيات سلام. جاءت هذه التسمية من باب استغلال الدين لصالح أجندات سياسية واقتصادية وتطبيعيّة. متجاهلة جوهر القضية وأولوية السلام العادل مع الفلسطينيين أنفسهم. بل جعلت هذه الاتفاقيّات من الاحتلال والفصل العنصريّ في فلسطين أمرًا طبيعيًّا مقبولاً. وهناك ظاهرة جديدة، الإسلام الصهيوني. وهو حركة حديثة بين بعض العرب والمسلمين الذين يدعمون الصهيونية لأسباب دينية واقتصادية وجيوسياسية ويرون في إسرائيل حليفًا محتملًا لهم.

 ١-٢٢بناءً على ما ورد، أصبح لازمًا تسمية الأمور بمسمّياتها: أنّ إسرائيل كيان استعماري استيطانيّ إقصائي تعمل على مبدأ تهجير السّكان الأصليين واستبدالهم بمهاجرين جُدد ولهذا نرفض مفهوم الصراع، فالواقع على الأرض هو استبداد ونظامٌ استعماريّ استيطاني وفصلٌ عُنصري (أبارتهايد)، وأيّ إنكار لهذا الواقع هو تجنّب للحقيقة الظاهرة وتمكين الظلم وترسيخه. 

١-٢٣ إنّا أصبحنا نعيش مرحلة جديدة هي مرحلة البقاء للأقوى أو السلام المفروض بالقوّة العسكريّة وضرب القوانين الدولية وأحكام المحاكم الدوليّة الشرعية بعرض الحائط. اننا نؤكد على احترام وسيادة القوانين الدولية التي تكفل حقوق الإنسان الفرد والسلم العالمي بين الدول والشعوب. هذه اللحظة من التاريخ البشريّ تتطلّب موقفًا إيمانيًّا يقول الحقّ أمام القوّة والاستبداد دون مساومة أو تمويه. وهذا يتخطى البعد الفلسطيني. إنها لحظة الحقيقة. 

القسم الثاني: لحظة الحقيقة لنا 

٢-١ أمام هذا الواقع الصعب، وفي هذه اللحظة الحاسمة، نوجّه هذه الصرخة لأنفسنا أولاً، ولأبناء وبنات كنائسنا ورعايانا، ولسائر شعبنا في الوطن والشتات. هي صرخة صمود ووقفة حقّ متجدّدة، ودعوة لسماع صوت الله فينا ولنا. إنه زمن التّضامن والتّكافل، وزمن نأخذُ فيه مواقف واضحةً وصريحة مبنيّة على قاعدة الحقّ والثوابت الإيمانيّة والوطنيّة. إنّها لحظة الحقيقة. وهنا نؤكد أنّ ما بُني على باطل وعلى ظلمٍ تاريخي لا يمكن أن يُثمر سلامًا واستدامة. تبدأ الحلول بتفكيك الأنظمة الاستبداديّة الظالمة والعنصريّة، حينها فقط يمكننا التكلّم عن أفقٍ جديد نحلمُ به ونترجّاه، فيه نبقى في أرضنا، مع كل الساكنين فيها، على قاعدة العدل والمساواة والحقوق المتساوية وغياب الفوقيّة والاستعلاء.

 ٢-٢ندعو إلى القيام بمراجعة وطنيّة شاملة للواقع، نستخلص منها الدروس والعبر، ثمّ نضع رؤية موحدة، جامعة لا منفردة، واستراتيجيّة عمل مبنية على استقلالية القرار الفلسطيني واضحة المعالم للمستقبل المنشود تقوم على مراجعة جميع الحلول المطروحة وجدواها، ضمن قاعدة تمثيليّة شرعيّة تضمن استقلاليّة القرار وحقّ تقرير المصير. ونحذّر من إعطاء نضالنا الوطنيّ صبغة دينية أو جعله مسألة دينية تخصّ دينًا دون غيره وتضع الأديان في تصادم. 

٢-٣ إنّه زمن الصمود والمقاومة حيث تتجسد مقاومتنا بصمودنا المكلف على أرضنا أمام كل محاولات التهجير ومخطّطات الضمّ والتهجير والإبادة، وبوحدتنا وتعاوننا وتمسكنا بثوابتنا الايمانية والوطنية وحقوقنا كافة. الحفاظ على الإيمان والرجاء مقاومة. صلاتنا مقاومة. الحفاظ على المقدّسات مقاومة. السلم الأهلي مقاومة.

 ٢-٤ في الوقت الذي تجرّم فيه المقاومة الفلسطينية وحركات التضامن العالمية، نؤكد على حق الشعوب المستعمرة في مقاومة المستعمر. ونؤكد كما جاء في الوثيقة الأولى على التزامنا بمبدأ المقاومة المبدعة والتي تتطلب موقفًا صلبًا ومكلفاً في وجه الظلم المستمر. ونحن نرى المقاومة المبدعة في الحراك الشعبي الفلسطيني المقاوم ضمن مبدأ اللاعنف للاحتلال وللاستيطان ولإرهاب المستوطنين وللفصل العنصري (الأبارتهايد)، بالإضافة الى حراك المجتمع المدني الحقوقي والقانوني والحراك الثقافي واللاهوتي والدبلوماسي والحركات الطلابيّة والنقابية الفلسطينية. نرى في جميعها وغيرها وسائل فعّالة مبنية على المحبة القادرة على صنع التغيير وتجديد الرجاء.

 ٢-٥ ونثمن حركات المقاومة والمناصرة والضغط الشعبي حول العالم التي تعمل من أجل الضغط على الحكومات والمجتمعات الدوليّة في سبيل عزل إسرائيل ومقاطعتها وفرض العقوبات عليها حتى تلتزم بالقانون الدوليّ. وإننا ننظر إلى ذلك من منظور أخلاقيّ، ونرى أن نماذج المقاطعة المجدية وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات هي كلها استراتيجية فعّالة للمقاومة المبدعة المبنيّة على منطق المحبة واللاعنف، كما أشرنا في الوثيقة الأساسيّة. 

٢-٦ وأمام الإبادة البيئية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، والاعتداءات المتكررة وتدمير البيئة في الضفة الغربية والتي تهدّد الأجيال القادمة، نجدد انتماءنا إلى هذه الأرض وتجذّرنا فيها، ونؤكد على إعلاء قيمة الحياة والاعتناء بالخليقة. فرسالتنا هي التعايش المتبادل مع الخليقة ، وهي مسؤولية ايمانية وأخلاقية جماعية، نشترك فيها كأفراد ومؤسسات خاصة وحكوميّة ومجتمعية ودينية. 

٢-٧ نشدد على ضرورة حماية كلّ المستضعفين في المجتمع - ضحايا الاحتلال والاستعمار- كذوي الاحتياجات الخاصة ولاسيّما من بُترت أعضاؤهم، والمكسورين والحزانى، وكلّ الفئات المستضعفة لأي سبب كان، بما فيهم ضحايا العنف المجتمعيّ والأسريّ والاستغلال الاقتصادي والاستقواء الجندري. 

٢-٨ ومن بين أوجه الصمود والأمل في مجتمعنا، تقف المرأة الفلسطينية - الجدّة والأمّ والأخت والابنة - عموداً فقرياً لا ينحني، شريكة في النضال، تمسك بالبيت والأرض والذاكرة والمستقبل في آنٍ واحد، حضورها أساس يقوم عليه المجتمع بأسره وإسهاماتها متعددة في الحياة الوطنية والاجتماعية والاقتصادية والروحية. ولا يمكن اختزال المرأة الفلسطينية الى "نساء وأطفال" – كضحية وفئة مجهولة الهوية مجردة من الفاعلية والإرادة. صوتها وإبداعها وقيادتها قوّة لا غنى عنها، ولا تحرّر حقيقي دون مشاركتها الكاملة في كلّ مستويات القرار والبناء. 

٢-٩ رسالتنا لأنفسنا كمسيحيين فلسطينيين: نحن نشعر بثقل التاريخ على أكتافنا، ونريد أن نحافظ على الشهادة المسيحيّة في هذه الأرض المقدسة. ونقول لكلّ الفلسطينيين، بأن الحفاظ على الحضور المسيحي هو قضية وأولويّة وطنيّة. لسنا عددًا ولسنا فقط تنوعًا في مجتمعنا، بل نحن مواطنون أصليون نحمل قيمنا الإنسانية ونسعى لنعمل ونبني وطننا مع كل شركائنا في الوطن . 

٢-١٠ نخاطب أنفسنا ونقول: نحن أبناء وبنات الكنيسة الأولى، أحفاد الرسل وقديسي العصور المسيحية الأولى، الذين زرعوا هذه الأرض، وبَنوا مُدنها وقراها، وشربوا من مياهها. نحن لا نعيش على هامش هذه الأرض، بل نحن من نسيجها، نحمل تاريخها وتراثها، وتعرفنا تربتها أننا أصحابها. عبرت على هذه الأرض ممالك كثيرة، اندثرت جميعها، ودُفنت في تراب التاريخ، وما زالت أجراس كنائسنا تقرع، تشهد للحق، وتعلن القيامة كل يوم. ٢-١١ وهذا ما نقوله اليوم لشبابنا وشاباتنا: أنتم الكنيسة الحيّة، أنتم كنز الرجاء، والمستقبل يولد من صمودكم وإيمانكم. إننا نؤمن بكم. نرى غضبكم، وحزنكم، وخوفكم، ونرى أيضًا قوّتكم. ونعلم أن قصتنا لم تنتهِ، وأن ظلمنا لا يزال قائمًا. نحن لا ندعوكم إلى تفاؤلٍ ساذج، بل إلى رجاءٍ متجذّر في العمل. الرجاء ليس استسلامًا، بل عمل حقيقيّ مقاوم، يصمد ويرفض الرضوخ لواقع الموت المفروض علينا، به نواجه ونقاوم كل ظلم واحتلال. سار يسوع المسيح مع الفقراء والضعفاء، ووقف إلى جانب المظلومين، ولم يتخلَّ يومًا عن المحبة أو يساوم على الحق والعدالة، ومن أجل خلاص الانسان قبل موت الصليب. وكانت قيامته انتصارًا على الموت والظلم، ورمزًا للرجاء المتجذر في الإيمان. وهو الرجاء الذي يحيينا اليوم.

 ٢-١٢ ونقول لكم أيضًا: أنتم لستم وحدكم. هناك من يقف معكم في فلسطين وفي أنحاء العالم. حتى وإن ساد الصمت الآن، سيأتي يوم تُسمَع فيه أصواتكم. أصواتكم مهمة. عبّروا. اكتبوا. غنّوا. اصنعوا. نظّموا. قاوموا بإنسانيتكم في عالمٍ يحاول أن يسلبكم إياها. تجرّؤوا وأحِبُّوا، واحلموا، لتصنعوا مستقبلًا حرًّا مشرقًا. إننا نحيّي مبادراتكم ونشاطاتكم ذات الطابع الكنسيّ والوطني، والكشفيّ والشبابيّ والرياضيّ والثقافيّ والفنيّ والسياسيّ والحقوقيّ، بانفتاحٍ على المجتمع، وبروح التطوّع، المشبعة بالإيمان والرجاء، والبعيدة عن الطائفية، ونستلهم صمودكم وحباتكم، ونرى فيكم الأمل لمستقبلٍ أفضل. 

٢-١٣ لأهلنا في المهجر، من هُجّروا قسرًا. أنتم بعيدون جغرافيًّا عن فلسطين، لكنّ فلسطين تسكن فيكم. ندعوكم إلى أن تتفاعلوا مع تجمّعات وحراكاتٍ وتحالفات تهدف إلى تعزيز صمودنا وتثبيت وجودنا. أنتم تلعبون دورًا هامًّا جدًّا، وصوتكم قادرٌ على أن يغيّر الموازين. ونقدّر حراككم، إذ سمعنا صوتكم، بل سمعه العالم كلّه. انقلوا معاناتنا، وقصص نجاحنا وصمودنا. اخلقوا مساحات للحوار وبناء الجسور بيننا وبين القيادات الدينية والسياسية في بلاد مهجركم. اعملوا بحكمة، وقدّموا للعالم الصورة الحقيقيّة لشعبنا. فيكم أنتم ـأيضًا الأمل لمستقبلٍ أفضل، ولن نفقد حُلْمنا بلمّ الشمل، ولن نتخلّى عن حقّ العودة.

 ٢-١٤ نشدّ على أيادي رؤسائنا الروحيين ومؤسساتنا الكنسيّة التي ما زالت تحمل رسالتها المسيحيّة حتى في أصعب الظروف وأحلكها، وتعزّز صمود بناتها وأبنائها. ونقدّرُ بصورة خاصة الجهد الجبّار الذي تقوم به كنائس غزة، التي استضافت المهجّرين. ونثمّن وقوف رؤساء كنائسنا مع أهلنا في غزة، وتعزيز صمودهم، وسط الإبادة، والتهجير. لقد سطّر المؤمنون في غزة بطولات في الصمود والشهادة، واستشهد البعض منهم، وجرح وثكل الكثيرون. صلاتنا وقلوبنا معهم. وندعو مسيحييّ العالم للوقوف معنا في سعينا، بعكس ما يوحيه الواقع، من أجل الحفاظ على الوجود المسيحيّ في غزة، الذي يعود إلى قرون المسيحية الأولى، والعمل والضغط من أجل السّماح لكلّ من هُجّروا بالعودة إلى أرضهم وبيوتهم وبنائها. 

٢-١٥ نحن شهود القيامة والقبر الفارغ، والذي منه فاض نور الحياة، ونؤمن أن الكلمة الأخيرة ليست للموت، بل للحياة، وليست للظلام، بل للنور، وليست للظلم، بل للحقّ. ونعلن مع الرسول بولس: "مُكْتَئِبِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لكِنْ غَيْرَ مُتَضَايِقِينَ. مُتَحَيِّرِينَ، لكِنْ غَيْرَ يَائِسِينَ. مُضْطَهَدِينَ، لكِنْ غَيْرَ مَتْرُوكِينَ. مَطْرُوحِينَ، لكِنْ غَيْرَ هَالِكِينَ" (٢ كور ٨:٤)

 القسم الثالث: نداء توبة وعمل 

٣-١ نوجّه نداءنا إلى المسيحيين حول العالم، نوجه نداءنا من القدس وبيت لحم والناصرة، من مهد المسيح، موطن تجسّد الكلمة ومعاني المحبة والرحمة والعدل، ومن أرض الآلام والموت والقيامة، أرض الفداء والرجاء. منها انطلقت دعوة الإنسان إلى التوبة والعودة إلى أساسيّات الإيمان ومنها انتشر الإيمان إلى العالم إنها دعوة لكي نتعلم فعل الخير ونطلب الحق وننصف المظلوم (إشعياء ١٧:١).

 ٣-٢ إنّ الإله الذي أظهر نفسه لنا في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، خالق الكون وجميع البشر، هو الذي تجسّد في الابن يسوع المسيح، وهو إله كلّ الشعوب. (أعمال الرسل ١٠: ٣٤-٣٥؛ رومية١٠: ١٢-١٣). الله، خالق الجمبع، وأبو الجميع، يتضامن وينحاز مع المقهورين والمظلومين وكل ضحايا الظلم وأنواع الاستبداد من كلّ أمّة بغضّ النظر عن العرق أو الدين أو القومية (لوقا ٤: ١٨-١٩). وتتجلّى رسالة الكنيسة في الانضمام لعمل الملكوت بالسعي للسلام ومناصرة المظلومين وفعل الخير. 

٣-٣ الإبادة هي عملية تراكميّة، بدأت في أذهان المستعمرين الأوروبيين الاستيطانيين، وبها أنكروا صورة الله في الآخرين، وشرّعوا الموت والاستبداد والعبودية. اننا نعتبر أن دولة إسرائيل التي أنشأت عام 1948 هي امتداد للحركة الاستعماريّة المبنيّة على العنصريّة ومبدأ التفوّق العرقي أو الديني، التي استوطنت فلسطين وعملت على تهجير شعبها الأصلي منذ النكبة حتى اليوم. ان واقعنا الفلسطيني اليوم هو نتيجة حتميّة للأيديولوجية الصهيونية والحركة الاستعمارية الاستيطانية الفوقية التي هي جزء من عقلية الإمبراطوريّة.

 ٣-٤إنّ الإبادة خطيئة بنيوية ضد الله والإنسان والخليقة. إنها تناقض وصية المحبّة الكبرى التي تلخّص كلّ الشريعة (غلاطية ١٤:٥). وإنّ من ينكر الإبادة الجماعية التي اقترفت بحقّ الفلسطينيين في غزة، رغم الواقع الجاري، والكمّ الهائل من الأدلّة والتقارير واعترافات الصهاينة أنفسهم، يعتدي على إنسانيّة الإنسان الفلسطيني وينكرها. ولنا الحقّ أن نتساءل هل بالإمكان الكلام عن تضامن مسيحي أو شركة مسيحيّة، مع إنكارٍ أو دعمٍ أو تبريرٍٍ أو صمتٍ أمام الإبادة، خاصة عندما تكون الإبادة باسم الله والكتاب المقدس؟ يجب أن يكون هناك مراجعة تامّة وتوبة، من قبل جميع المؤمنين بالله، ولا سيما المسؤولين في كنائس العالم. 

٣-٥ إنّا نشكر جميع الكنائس التي رأت الظلم الواقع علينا، وحرب الإبادة في غزة، ونحيّي كافة الأصوات التي أخذت موقفًا إيمانيًّا وأخلاقيًّا من الصهيونية وما يُسمّى بالصهيونية المسيحيّة، رافضة الإبادة والفصل العنصريّ، ونادت وطالبت بوقف توريد الأسلحة إلى إسرائيل ومحاسبة مجرمي الحرب. إننا نرى في هذه الأصوات داعمًا لرجائنا وعلامة على عمل الروح القدس ووجود ضمائر حيّة في الإنسانيّة. 

٣-٦ ندعو إلى حراك عالمي لاهوتي مبني على ركائز ملكوت الله ينطلق من سياقات وصراعات كانت و/أو ما زالت ضحيّة للاستعمار والعنصريّة والفصل العنصريّ والفقر البنيوي الناتج من أنظمة اقتصاديّة وسياسيّة فاسدة تخدم مصالح امبراطوريّات العالم. لا بد لنا من أن نتحدى منطق شعارات السلام الواهية أو الحياديّة أو بعض الدبلوماسيّة الكنسيّة التي لا تقول الحقّ أمام القوي وذلك في سبيل تبرئة النفس من المسؤوليّة الأخلاقيّة والإيمانيّة. وقد اجتهدنا مع شركائنا من حول العالم بمراجعة داخليّة لكي نتحرّر من كلّ رواسب أي لاهوت استعماري توارثناه من الغرب. 

٣-٧ نرفض الظلم والقهر الذي تسبّب به لاهوت العنصرية والاستعمار والتفوّق العرقي المتجسد في الصهيونية المسيحية، والذي أثمر فصلًا عنصريًّا وتطهيرًا عرقيًّّا وإبادة الشعب الأصلي. تنادي الصهيونية المسيحية بإله حربٍ و تطهير عرقيّ، قبليّ عنصريّ، وهي تعاليم بعيدة كلّ البعد عن المبادئ الأساسية للإيمان والأخلاقيّات المسيحية. ويجب تصنيف الصهيونية المسيحية على أنها فسادٌ لاهوتيٌّ وأخلاقيّ. وبعد استنفاد جميع السبل لدعوة الصهيونيين من المسيحيين للمراجعة والتوبة الحقيقية، يصبح من الضروري مساءلتهم ومقاطعتهم باعتبار ذلك ضرورةً أخلاقيّة وكنسيّة ولاهوتيّة. آن لكنائس العالم أن ترفض اللاهوت الصهيوني، وتُحدّد موقفها من قضية فلسطين: استعمار استيطانيّ، وتطهير عرقيّ بحقّ السّكان الأصليّين.

 ٣-٨ ندينُ كلّ مَن يستغلُّ تهمة معاداة الساميّة من أجل إسكات صوت الحقّ الفلسطيني ومن يسانده، ونرفض أي محاولة للربط بين معاداة السامية وبين مقاومة الفصل العنصريّ والضغط من أجل الزام إسرائيل بالقوانين الدولية، باستخدام تعريفات ووثائق تخدم الأيديولوجيات والمصالح الصهيونية تحت مُسمّى محاربة معاداة الساميّة. إن الاستغلال السيء لفكرة معاداة السامية يساهم بالتشويش والتضليل بخصوص معاداة الساميّة الحقيقيّة التي ما زالت موجودة في عالمنا، وندينها بشدّة مع كلّ أنواع العنصرية والإقصائية والتعميم السلبيّ بما فيها الإسلاموفوبيا. يزعم الفكر الصهيوني أنه يمثل اليهود ويحميهم ويختزلهم في مشروعه، لكنه خلق خلطًا بين "اليهودي" و"الصهيوني"، لأنه ليس كل يهودي صهيونيًا، ولا كل صهيوني يهوديًا، الأمر الذي أساء لليهودية وأضر بصورتها عالميًا.

 ٣-٩ ندعو إلى تكافل أصحاب الضمائر الحيّة من بين المؤمنين بالله من مختلف الأديان والمعتقدات، في سبيل تشكيل تحالفات تحمي البشريّة من المزيد من الانحدار إلى واقع الظلم والاستبداد والاستقواء، وندعوها إلى تطوير نظام عالمي إنساني عادل بديل، لأن النظام العالمي القائم قد أثبت فشله في أهم مسؤوليّاته وهي الدفاع عن الضعفاء وفي الحفاظ على السلم والأمن الدوليين. 

٣-١٠ نكرّر ونشدّد على كنائس العالم، ضمن تحالفات دينيّة وعلمانيّة، أن تقوم بالضغط على حكوماتها من أجل عزل إسرائيل، ومحاسبتها وفرض عقوبات عليها، ومقاطعتها، وحظر توريد الأسلحة إليها، إلى أن تلتزم بالقانون الدولي، وتنهي الظلم والاستبداد، وتلتزم بمبادئ العدل والسلام. وندعوهم أيضًا إلى الضغط من أجل محاسبة مجرمي الحرب، أيًّا كانوا، استنادًا على مرجعيّات محكمة العدل الدوليّة ومحكمة الجنايات الدولية، وإقرار تعويضات بحقّ الشعب الفلسطيني، في الأرض والمهجر، والعمل مباشرة على عودة النازحين، بإعادة إعمار غزة ودعم صمود سكانها. 

٣-١١ اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى، هو زمن التضامن المكلف. فالتضامن بتعريفه هو عمل مكلف وله ثمن، وهو موقف إيمانيّ إنساني ومسؤولية أخلاقيّة. وهو في الوقت نفسه تجسيد لإنسانيّتنا وأُخُوَّتِنا كبشر في هذا العالم. فإما أن نعيش معًا أو أن نهلك معًا. اليوم فلسطين وغدًا مُهمّشون آخرون وفئات مستضعفة أخرى.

 ٣-١٢ ونحيي في هذا السياق الأصوات اليهوديّة المتزايدة التي تناهض الحرب وتحارب الصهيونية من منطلق إيماني وإنساني أخلاقي. فيهم نجد شركاء في الإنسانيّة والنضال من أجل الحريّة والكرامة الإنسانيّة، وشركاء في الحوار الدينيّ والسياسي. هذا الحوار الذي كان حكرًا مدة سنوات عديدة على الصهاينة وأعوانهم، وكانت قاعدة الحوار ترسيخ الايديولوجيّة الصهيونية واضطهاد الفلسطينيين. إننا ندعو كنائس العالم الى التفريق بين الحوار مع اليهود والحوار مع الصهيونية، بل مقاطعة الحوار مع الأصوات الصهيونية التي أيّدت ولا تزال الاحتلال والفصل العنصريّ وإبادة الشعب الفلسطيني، والالتفاف حول ودعم الأصوات اليهوديّة النبويّة التي تنادي بالعدل والحقّ. 

٣-١٣ والتضامن المسيحيّ يعني المساندة والوقوف بجانب الكنيسة المحلّية في صمودها وتعزيزها صمود المؤمنين في الأرض، وتمكين ومساندة المؤسسات الكنسيّة والمسيحيّة صاحبة الرسالة الايمانية والإنسانيّة على الأرض. ونجدّد نداءنا اليوم لمسيحيي العالم بتحدي الحصار المفروض على مسيحيي الأراضي المقدسة وزيارة الحجارة الحيّة وتعزيز مقوّمات الصمود عند الفلسطينيين والمسيحيين الفلسطينيين. إنّه نداء "تعالوا وانظروا"، وأخبروا وتجاوبوا مع ما رأيتم، وساندوا الكنيسة الصامدة. 

القسم الرابع: الإيمان في زمن الإبادة 

٤-١ من أرض التجسّد والصلب والقيامة، نجدّد كلمة رجائنا بإله الفقراء والمظلومين والمقهورين. سعت حرب الإبادة لتخسرنا رجاءنا وإيماننا بصلاح الله والحياة على أرضنا. لكننا، نعلن تمسّكنا بايماننا باله قدوس وعادل وبالحقّ الذي وهبه لنا في أن نعيش بكرامة على أرضنا وأرض أجدادنا. هذا رجاؤنا، هذا صمودنا، هذه مقاومتنا.

 ٤-٢ سمعنا الكثير عن حلول سياسية وعن السلام، بينما الواقع على الأرض عكس ذلك. إن الكلام عن حلٍّ سياسيّ اليوم غيرُ مُجدٍ ما لم يكن هناك عمل جدّي أولاً للإقرار بأخطاء الماضي وتصحيحها. يعني هذا الإقرار بالظلم التاريخيّ الذي وقع بحقّ الفلسطينيين منذ نشأة الحركة الصهيونية ووعد بلفور. البداية تكون في تفكيك الاستعمار الاستيطاني ونظام الفصل العنصريّ، المبنيّ على التفوّق اليهودي كما ورد في قانون القوميّة العنصريّ، كما نرفض حلول الدولة المستضعفة والمشروطة من دون كامل السيادة على حدودها، ومياهها وهوائها وامنها. وهذا يتطلب تحرك وحماية دولية ومحاسبة مجرمي الحرب، وتعويض الناجين من الإبادة والنكبة والاستعمار الاستيطانيّ فالحلول الجذرية لا تقوم على منطق القوة، بل على قاعدة العدل والمساواة وحقّ تقرير المصير. 

٤-٣ ومسعانا هو العيش كأبناء وبنات الله في أرض خالية من الحواجز والجدران والاحتلال العسكريّ، والفصلٍ العنصريّ، وفي عالمٍ يسود فيه العدلٌ والإنصاف والمساواة، نرى مستقبلاً يكون فيه عالمنا عالمًا خاليًا من الحروب والموت والطائفيّة والقبلية، تعلو فيه كلمة الحقّ على كلمة القوّة، وتكون فيه الشرعيّة للسلام والعدالة. ونستقي رجاءنا، مُستلهمين كلمة الله، والإيمان في قلوبنا، ورافضين أن نترك مهمّة رسم المستقبل لأصوات التطرّف والاستعمار والاستعلاء. 

٤- ٤ نجدّد رفضنا لمبدأ الدولة الدينيّة من باب أنّها تخنق الدولة وتحصرها في حدود ضيّقة وتجعلها دولة تفضّل مواطنًا على مواطن وتستثني وتفرّق بين مواطنيها. رجاؤنا بدولة مدنية ديموقراطية تقوم على ثقافة التعددية - لا على التفوق العددي - التي ترى الخير والصلاح في كلّ انسان ينتمي إلى هذه الأرض. هذه الثقافة مبنية على وصية المحبة والتي تفرض علينا مواجهة أيّ تطرفّ وعنصريّة في ارضنا الغنية بتنوع الأعراق والثقافات والأديان وعلى قاعدة المساواة أمام القانون، والمواطنة الكاملة. 

٤-٥ من قلب الألم، والإبادة والتهجير، نطلق صرختنا هذه، صرخة الصمود النبويّة، نعلن فيها التزامنا بالعمل من أجل خير هذه الأرض والبشريّة على قاعدة الإنسانية المشتركة لنرى يومًا نعيش فيه أحراراً في أرضنا، مع كلّ سكّان الأرض، في سلامٍ ومصالحة حقيقيّة، مبنيّة على قاعدة العدل والمساواة لكلّ خليقة الله حيث الرحمة والحقّ يلتقيان، والبرّ والسلام يتلاثمان (مزمور ١٠:٨٥).

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق