في تاريخ السينما العربية والعالمية، يظل اسم مصطفى العقاد علامة فارقة، ليس لأنه قدم أفلامًا ناجحة فحسب، بل لأنه حول الفن السابع إلى جسر للتواصل بين الشرق والغرب، ووسيلة لتصحيح صورة الإسلام والعرب في العالم.
ولد العقاد في مدينة حلب السورية عام 1930، ونشأ في أسرة متوسطة تهتم بالتعليم والقيم الدينية منذ صغره، كان مولعًا بالتصوير والتمثيل، ويدرك أن الصورة يمكن أن تغير نظرة الناس إلى العالم وبعد إصرار طويل، سافر إلى الولايات المتحدة ليدرس الإخراج والإنتاج السينمائي في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس (UCLA)، وهناك اكتسب خبرة مهنية واسعة جعلته من أبرز العرب الذين نجحوا في هوليوود.

لكن حلم مصطفى العقاد لم يكن مجرد النجاح الشخصي، بل أن يصنع أفلامًا تُعرّف الغرب على الحضارة الإسلامية بصورة حضارية وإنسانية، وقد تحقق حلمه الكبير عام 1976 عندما أخرج فيلمه الأشهر «الرسالة»، الذي تناول سيرة النبي محمد ﷺ وبداية الدعوة الإسلامية من منظور إنساني عميق، واجه العقاد صعوبات هائلة أثناء إنتاج الفيلم، من اعتراضات دينية وتمويلات مهددة إلى رفض بعض الدول التصوير على أراضيها، لكنه تمسك بإيمانه بأن العمل الفني الصادق أقوى من كل القيود.

صور «الرسالة» في المغرب وليبيا، وقدم نسختين: إحداهما بالعربية من بطولة عبد الله غيث، والأخرى بالإنجليزية من بطولة أنتوني كوين، ليصل صوته إلى العالم كله، وقد حاز الفيلم إعجاب الملايين لما تميز به من دقة تاريخية وإخراج إنساني راقي، جعله من أعظم الأفلام التي تناولت التاريخ الإسلامي.
بعد نجاح «الرسالة»، قدم العقاد فيلمه الثاني «عمر المختار» عام 1981، الذي تناول فيه قصة مقاومة الليبيين للاستعمار الإيطالي، من خلال سيرة المجاهد الشيخ عمر المختار، ببطولة النجم ذاته أنتوني كوين، وقدم العقاد من خلاله ملحمة إنسانية عن البطولة والكرامة، فكان الفيلم تحية خالدة لنضال الشعوب العربية ضد الاستعمار.

كان العقاد يحلم باستكمال مشروعه الفني بفيلم ثالث عن صلاح الدين الأيوبي، يبرز فيه قيم التسامح والعدل في الإسلام، لكن القدر لم يمهله، ففي 9 نوفمبر 2005، اغتيل في تفجير إرهابي بمدينة عمان أثناء حضوره حفل زفاف، وفقد في الحادث أيضًا ابنته ريما، كانت وفاته صدمة للعالم العربي، إذ رحل وهو يحمل في قلبه حلمًا لم يكتمل.
ترك مصطفى العقاد إرثًا فنيًا وإنسانيًا خالدًا، فقد أثبت أن السينما يمكن أن تكون أداة للتنوير والدفاع عن الهوية، وليست مجرد وسيلة ترفيه واليوم، بعد مرور عقود على رحيله، ما زالت أفلامه تعرض في المتحف السينمائي والمهرجانات العالمية، وتدرس في كليات السينما بوصفها نماذج للتوازن بين الفن والرسالة.

لقد كان مصطفى العقاد مخرجًا بحجم أمة، حمل على عاتقه مهمة الدفاع عن الصورة الحقيقية للعرب والمسلمين، ونجح في أن يجعل من السينما خطابًا حضاريًا يربط بين الشعوب، ورسالة خالدة تذكرنا بأن الفن العظيم لا يموت.
















0 تعليق