الثلاثاء 11/نوفمبر/2025 - 05:10 م 11/11/2025 5:10:22 PM
عنوان واضح وصريح، مستقبل العلوم الإنسانية، يعني علوم وضعت لخدمة الإنسان، لتقوم له شؤون حياته المادية وإشباع تكوينه العضوي بما هو كذلك أي بما هو إنسان، وفي نفس الوقت إشباع الجانب الروحي والقيمي لديه، فهو بطبيعته يجمع بين جانبين، جانب مادي وجانب روحي، وحتى تتحقق الإنسانية في أبهى صورها فضرورة ملحة إحداث تعادلية وتوازنية بين الجانب فلا ينبغي أن يطغي أحدهما على الآخر.
ومن هذا المنطلقة كانت حاجتنا الماسة إلى للكتابة عند العلوم الإنسانية ومستقبلها.
مما لا شك فيه أن تقدم الأمم ونهضتها مرهون بما تحققه من تقدم وتكامل في كآفة العلوم الإنسانية، فيقاس رقي الأمم الحضاري بمنجزها في العلوم الانسانية، ليس هذا وحسب بل وفي الموائمة والموافقة بين كل العلوم الإنسانية.
عندما خلق الله تعالى الإنسان أودعه جانبين كلاهما من أجل بقاءه فعالا مؤثرا في المحيط الذي يحياه، هذان الجانبان، هما الجانب المادي، حتى يستطيع أن يمارس نشاطاته البيولوجية والفسيولوجية، بما يقوم حياته الكائنية، المطعم، المشرب، الملبس، التزواج والتكاثر، وجانب آخر معنوي، هذا الجانب هو الذي يحقق السمو الروحي بداخله والذي من خلاله يستطيع أن يحقق قيم الخير والحق والجمال مما ينعكس ذلك على واقعه الذي يعيشه، فبدون هذين الجانبين لا يمكن أن تتحقق إنسيته التي من خلالها سيتعامل مع بني جلدته.
لا يطغى جانب على آخر، فالإنسان بجانبه الروحي ينتمي إلى عالم الملكوت، وبجانبه المادي ينتمي إلى عالم الملك، لكن بالتوفيق بين الجانبين الروحي والمادي سيحقق ما يمكننا أن نطلق عليه التكاملية، وحتى تتحقق هذه التكاملية فلابد من ضرورة توافر عوامل مساعدة لترتقي بهذا المخلوق المكرم والمفضل عند الإله فهو أفضل من الملائكة، ومن هنا شرع الإله الأديان المنزلة لتنظيم حياة الإنسان في معاملاته، سلوكه، أخلاقه، مع بني جلدته فانتقل من خلال هذه الأديان من مرحلة الذئبية الهمجية إلى مرحلة الإنسية التي تتعامل مع الإنسانية ممثلة في شخصوها، فما لا يرتضيه لنفسه لا يرتضيه للآخرين والعكس صحيح ما يحبه لنفسه يحبه للآخرين.
هذه واحدة.
أما الثانية وهبه الإله عقلا وإرادة، عقلا ليفكر به ويميز بين الحق والباطل، الخير والشر، الرذيلة والفضيلة، الحب والكره، الحسن والقبح، الجميل والجليل.
وإرادة يختار من خلالها شريطة أن يكون مسؤولا عن جل اختياراته.
أما الثالثة فهي أن هدى الإله هذا الإنسان إلى منظومة العلوم بدءا من إقرأ إلى أن ينهض متعلما فيفيد نفسه ويفيد البشرية حوله فيصبح عنصرا فاعلًا مؤثرا، ولا يزال يطور نفسه فهو بعقله يدور مع العلم حيث دارت دورته الفلكية، بحاثا عنه، دأبه وديدنه العلم والتعلم مسترشدا بقوله تعالى (وقل رب زدني علما)
فالعلم سيال متدفق عبر عصور الإنسانية جمعاء، والإنسان المجتهد لا يمل ولا يكل في سعيه الحثيث نحو تحصيله فاثنتين لا يشبع منهما الإنسان تحصيل العلم والقرآن، بل وبتحصيلهما يزداد المرء جمالا على جماله.
أما الرابعة وهذه من عمل الإنسان، ترتيب العلوم حسب الضرورة وفقه الواقع، فلدينا سلسلة من العلوم ينبغي على المرء تحصيلها، لكن تحصيلها هنا من باب فروض الكفاية فليس الجميع متخصص في ما تخصص فيه الجميع، فهناك العلوم الشرعية ولها كلياتها ومعاهدها التي تدرسها ككليات جامعة الأزهر وبعض التخصصات في كليات الآداب ودار علوم أقسام اللغة العربية بما يعرف بشعبة الدراسات الإسلامية.
ومن أمثلة العلوم الشرعية، علوم القرآن والحديثة والفقه وأصوله. فليس الجميع مطالب بتحصيلها كدراسات متخصصة وإنما تحصيلها كنذر يسير يستطيع معه المرء معرفة أمور دينه.
ثم لدينا منظومة العلوم النظرية التي تدرس في الكليات النظرية في أقسام العلوم الإنسانية بكليات التربية والآداب ودار العلوم، وتلك علوم لها دور كبير وفعال في نهضة الأمم لكن متى، إذا ما لقيت اهتماما كبيرا من القائمين على منظومة التعليم، فلدينا التاريخ سواء التاريخ القديم، تدريس حضارات الأمم القديمة، ثم التاريخ الوسيط ويشمل التاريخ الإسلامي والتاريخ المسيحي، ثم التاريخ الحديث والمعاصر، فالتاريخ هو الذي يعلمنا تاريخ الأمم والشعوب والبلدان وسير القادة والفاتحين.
أيضا لدينا الجغرافيا بكل تخصصاتهم سواء الخرائط والمساحة والجغرافيا البشرية التي تهتم بمعرفة كثافة السكان وكيفية توزيعهم ولمعرفة الجبال والهضاب والسدود ولنا في الجغرافيين العرب المثل الأعلى فهذا هو المقدسي الذي رسم الكرة الأرضية، وهاهو جمال حمدان الذي وضع كتاب وصف مصر، هذا الرائد العملاق.
نعم أقسام الجغرافيا أصبحت الآن منتجة بمعنى أن مشروعات تخرج الطلاب يستفاد بها في مشاريع المحافظات وفي رسم خرائط البلاد، بل تحولت هذه الأقسام من دراساتها النظرية إلى دراساتها العملية
ولدينا من العلوم النظرية علم النفس والذي يهتم بتحليل النفس الإنسان وبالكشف عن الأمراض النفسية التي قد تصيب الإنسان ويوجد الآن في أقسام علم النفس دبلومات في الدراسات العليا في التحليل النفسي والتخاطب تؤهل لسوق العمل، فتحولت هذه الأقسام من مستهلكة إلى منتجة تفيد صاحبها وهو بدوره سيفيد واقعه الذي يحياه، وهذا يدحض بدوره فرية أن العلوم النظرية غير ذات فائدة.
أيضا لدينا علم الإجتماع بشعبه سواء الإجتماع العام أو الانثروبولوجيا، علم الاجتماع المتخصص في دراسة المجتمع عاداته، سلوكه، قيمه، دراسة الأنماط الإجتماعية المختلفة، أليس هذا العلم ذا فائدة.
لدينا أيضا علوم اللغات وآدابها، سواء علوم اللغة العربية وإذا ما ذكرت اللغة الغربية ذكرت الأصالة، ذكر القرآن الكريم، حقا إن من البيان لسحرا، ثم اللغات الأجنبية سواء اللغة الإنجليزية أو الفرنسية أو الإسبانية أو الصينية أو الألمانية أو الإيطالية، ولدينا اللغات الشرقية سواء اللغة التركية أو العبرية أو الفارسية، كل هذه العلوم تفيد الواقع المعيش، ليس هذا وحسب بل وتثري سوق العمل في مجال الترجمات( من وإلى) حتى نستطيع الموائمة والموافقة والتعامل مع الآخر الأجنبي، الغربي أو الأمريكي.
أيضا لدينا الفلسفة التي تدرس بكل فروعها في أقسام الفلسفة في كليات الآداب أو دار العلوم(الفلسفة الإسلامية)، أو أقسام العقيدة والفلسفة في كليات جامعة الأزهر الشريف ككليات الدراسات الإسلامية، وكليات الدعوة بما يعرف بقسم الثقافة الإسلامية، ففي الوقت الذي دعت فيه التربية والتعليم إلى قصر الفلسفة على الفرقة الأولي فقط، نجد جامعات بحالها لديها كليات تسمي كليات الفلسفة، راجعوا إن شئتم جامعات اليونان، وإيطاليا، وغيرهما، الفلسفة روح الفكر الإنساني وديناميكيته، الفلسفة بناء للعقل وغذاء للروح، فن التفكير الناقد، أم تريدوننا أن نقف محلك سر، العالم كل يوم في جديد، ونحن ما زلنا ننقاش كيفية دخول الخلاء، والاستبراء من الخبث، ما لكم كيف تحكمون. في الوقت الذي تتعالى فيه الأصوات بتجديد الفكر العربي، وتجديد الخطاب الديني تتعالى الأصوات بوأد الفلسفة، الفلسفة فن التفكير النقدي.
كيف تناقش، كيف تنقد، كيف تبحث، كيف تكون إنسان بما تحمله هذه الكلمه من معان.
إن هذا لهو العبث، إن هذا لهو البلاء المبين.
ثم لدينا منظومة العلوم العملية، الكيمياء، الفيزياء، الفلك، الطب، الصيدلة، الزراعة أو ما يمكننا أن نسميها بالعلوم العملية، أو العلوم الطبيعية، فما هو دور هذه العلوم في حياتنا، مادة هذه العلوم الطبيعة التي وهبها لنا الله تعالى، ومن ثم تمارس هذه العلوم عملها فى الطبيعة بغية خدمة كل كائن حي، نعم علوم الطب وانشاء البيمارستانات، وتعلم الطب بكافة فروعه، وتعلم الصيدلي وكيفية صناعة الدواء وتركيباته لضمان بقاء الإنسان وحفاظا على صحته، تعلم الفلك،وعلومه من أجل معروفة مواسم الزراعة والحصاد وفصول العام، والمد والجزر، ومعرفة الظواهر الطبيعية، الخسوف والكسوف، نعم لدينا علم الكيمياء الذي يدخل في كل شئ، في صناعة الأصباغ والألوان، في تركيب الدواء، لدينا الأحياء والفيزياء وعلم الضوء، لدينا علم النبات والهندسة الوراثية والزراعات الحديثة ووسائلها المتطورة وغيرها من العلوم.
عندما ألف أبو نصر الفارابي كتابه إحصاء العلوم صدره بمثابة سيخلدها التاريخ، (إن غرضنا من تأليف هذا الكتاب، إحصاء العلوم علما علما بغية الإستفادة منها)، فعلى الرغم من تقسيماته للعلوم إلى نظرة وعملية، لم يخص علما بعينه في مقدمة كتابه، وهذا دليل دامغ على اهتمامه بكآفة العلوم سواء النظرية أو العملية.
وكذلك الأمر بالنسبة للخوارزمي في كتابه مفاتيح العلوم وشمس الدين الاكفاني في رسالته عن تصنيف العلوم وفي كتابي تصنيف العلوم عند أبي الحسن العامري احصينا العلوم علما علما بغية الإستفادة منها في حياتنا المعيشة.
لعله من الأسباب المهمة التي عجلت بزوال خلافة بني أمية فضلا عن انشغالهم بالحروب مع فرق الخوارج، اهتماماتهم بالعلوم العملية فقط ومنعهم العلوم النظرية وخصوصا الفلسفة.
على العكس منهم ازدهار الدولة العباسية، لاهتمامهم بالعلوم النظرية والعملية، فقاموا بترجمة مؤلفات بني يونان سواء المؤلفات النظرية أو المؤلفات العملية خصوصا كتب طب أبو قراط وكتاب الايساغوجي المنطق الارسطي فبلغت حضارتها وازدهرت لدرجة أذهلت أحد المستشرقين وهو آدم ميتز القائل في كتابه الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري والذي ترجمه محمد عبد الهادي أبو ريده، إذا أردت أن تسأل عن العلوم النظرية والعملية وازدهارهما فاسأل القرآن الرابع الهجري.
إن القاسم المشترك بين العلوم جميعا هو البناء العقلي، فليس ثم علم قام على فاقدي العقل، وإنما العلوم جميعها مبانيها العقل
إن نهضة الأمم على مر التاريخ تقاس بمنجزاتها الحضارية التي تقوم على التكاملية بين العلوم سواء النظرية أو العملية.
فمن غير المعقول ونحن أبناء القرن الحادي والعشرين والذي انفرط منه عقدين أن نلغي علم من العلوم أو يخرج علينا أحدا مسفها من شأن هذه العلوم، نحن في عصر السموات المفتوحة والثورة المعلوماتية والتكنولوجية والميتافيرس والتقدم التقني والذكاء الاصطناعي أن ننغمس في المادية بالكلية، وإنما ثم جانب آخر يحييه فينا، العلوم الإنسانية، الجانب القيمي والأخلاقي، ومن ثم فضرورة ملحة إحداث هذه التكاملية حتى نساير هذه النهضة الحضارية الحادثة الآن شريطة ألا يطغى جانب على آخر.
أستاذ الفلسفة بآداب حلوان














0 تعليق