“الجنجويد” تستعيد تاريخ جرائم الحرب فى دارفور بعد السيطرة على الفاشر السودانية

البوابة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

يبدو أن ميليشيات الجنجويد التى تكونت فى بداية القرن الحالى لمحاربة التمرد فى إقليم دارفور السودان، وتحول اسمها إلى قوات الدعم السريع بدأت فى إعادة كافة الجرائم التى ارتكبتها من قبل ضد سكان دارفور، وهو ما ظهر جليا بعد سيطرتها على مدينة الفاشر قبل حوالى أسبوع، وانتشرت مقاطع فيديو تفضح إعدامات الشوارع وانتشار الجثث التى تحللت إلى عظام وجرائم يندى لها الجبين بعد أكثر من عام ونصف من الحصار المفروض على الفاشر، ما يفتح باب التساؤلات حول أصل هذه الميليشيات التى تعيث فسادا فى السودان.

ميليشيا الجنجويد

072d4da604.jpg
الدعم السريع

تُعد ميليشيا الجنجويد واحدة من أكثر الظواهر دمويةً وإثارةً للجدل فى التاريخ الحديث للسودان، إذ لعبت دورًا محوريًا فى الصراع المسلح الذى اجتاح إقليم دارفور منذ عام ٢٠٠٣، وما نتج عنه من جرائم إبادة جماعية وتهجير قسرى واغتصابات موثقة على نطاق واسع. 

وتحولت هذه الميليشيا من مجموعات قبلية مسلحة إلى قوة منظمة تابعة للدولة تحت مسمى قوات الدعم السريع، لتصبح لاحقًا فاعلًا سياسيًا وعسكريًا رئيسيًا فى السودان بعد سقوط نظام عمر البشير عام ٢٠١٩، واندلاع الحرب ضد الجيش فى منتصف أبريل ٢٠٢٣.

أصل مصطلح الجنجويد

مصطلح الجنجويد هو كلمة دارجة فى إقليم دارفور غربى السودان، واختلفت التفسيرات حول معناها الدقيق وارتبط اسم الجنجويد منذ بداية الألفية الجديدة بمجموعات شبه عسكرية تنتمى فى أغلبها إلى قبائل عربية رعوية، جُنّدت وسُلّحت من قبل الحكومة السودانية لمواجهة الحركات المتمردة فى دارفور، مثل حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة. 

وبمرور الوقت، أصبحت الكلمة مرادفًا للانتهاكات والعنف المنفلت فى الإقليم.

الجنجويد والحرب الأهلية فى دارفور

اندلع الصراع فى دارفور عام ٢٠٠٣ عندما حملت مجموعتان متمردتان — هما حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة — السلاح ضد الحكومة المركزية فى الخرطوم، متهمتين إياها بتهميش الإقليم سياسيًا واقتصاديًا وإثنيًا. 

وردّت الحكومة السودانية بقيادة عمر البشير بحملة عسكرية مضادة، لكنها لجأت إلى أسلوب غير تقليدي: تسليح ميليشيات محلية من القبائل العربية لمهاجمة القرى التى يُعتقد أنها تؤوى المتمردين أو تتعاطف معهم.

بهذا القرار، وُلدت ميليشيا الجنجويد بوصفها ذراعًا غير رسمية للجيش السودانى وبدلًا من الاقتصار على محاربة المتمردين، شنّت الميليشيا حملات إبادة وتهجير ممنهجة ضد المدنيين من القبائل غير العربية مثل الفور والمساليت والزغاوة.

أفادت تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان بأن الجنجويد ارتكبت جرائم واسعة النطاق، شملت القتل الجماعى للمدنيين وحرق القرى بالكامل، والاغتصاب المنهجى للنساء والفتيات كسلاح حرب، والنهب والسلب لممتلكات السكان المحليين ومواشيهم، وتدمير البنية التحتية مثل الآبار والمزارع لمنع عودة السكان المهجرين.

وقدّرت الأمم المتحدة أن أكثر من ٣٠٠ ألف شخص قُتلوا فى الصراع خلال عقد واحد، فيما تجاوز عدد النازحين داخليًا واللاجئين إلى تشاد ومناطق أخرى ٢.٥ مليون شخص. واعتُبر سلوك الجنجويد مثالًا صارخًا على التطهير العرقي، إذ استُهدفت مجموعات إثنية محددة بناءً على خلفيتها غير العربية.

علاقة الجنجويد بعمر البشير

لعب الرئيس السودانى السابق عمر البشير دورًا رئيسيًا فى ظهور الجنجويد وتوسّع نفوذهم فقد رأى فيهم وسيلة فعّالة لمواجهة التمرد فى دارفور من دون أن يورّط الجيش السودانى النظامى فى حرب عصابات مكلفة أو يُحمّله مسئولية مباشرة عن الانتهاكات.

عمل البشير ووزير دفاعه آنذاك عبد الرحيم محمد حسين، ورئيس جهاز الأمن والمخابرات صلاح قوش، على تسليح الميليشيات وتمويلها وتوفير الغطاء السياسى لها. 

كما أُدمج العديد من قادة الجنجويد ضمن أجهزة الأمن، ومنح بعضهم رتبًا عسكرية ومناصب تنفيذية.

وفى عام ٢٠٠٨، وجّه المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية اتهامات للبشير بارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب فى دارفور، مستندًا إلى أدلة تُشير إلى أن الحكومة السودانية استخدمت الجنجويد كأداة لتنفيذ سياسة الأرض المحروقة. 

وأُدرج أيضًا عدد من قادة الجنجويد، مثل على محمد على عبد الرحمن (على كوشيب)، ضمن قائمة المطلوبين للعدالة الدولية، وقد سُلّم لاحقًا إلى المحكمة الجنائية فى لاهاي.

على الرغم من الانتقادات الدولية، واصل البشير رعايته للجنجويد، معتبرًا إياهم درعًا واقية ضد التمرد وضمانة لبقاء نظامه فى السلطة. 

ومع مرور السنوات، أدرك النظام أن هذه القوة يمكن توظيفها على نطاق أوسع من دارفور، فبدأ مشروع تحويلها إلى كيان رسمي.

من الجنجويد إلى قوات الدعم السريع

892f6f5922.jpg

فى عام ٢٠١٣، قرّر النظام السودانى إعادة هيكلة ميليشيات الجنجويد ودمجها رسميًا ضمن الأجهزة الأمنية تحت اسم قوات الدعم السريع (RSF)، بقيادة محمد حمدان دقلو الشهير بـ«حميدتي». 

وقد تم تجنيد عشرات الآلاف من المقاتلين السابقين فى الجنجويد ضمن هذه القوة الجديدة، لتتحول إلى جيش موازٍ يمتلك تسليحًا وتمويلًا ضخمًا وصلاحيات واسعة.

ورغم الطابع الرسمي، ظلّت قوات الدعم السريع تحمل سمات الجنجويد من حيث التركيبة القبلية والانضباط المحدود والسمعة السيئة فى مجال حقوق الإنسان. 

ومع ذلك، أصبحت هذه القوات أداة رئيسية فى يد البشير، استخدمها لقمع التظاهرات فى الخرطوم، وتأمين الحدود، والمشاركة فى الحرب فى اليمن إلى جانب التحالف العربى بقيادة السعودية.

تدريجيًا، ازدادت قوة حميدتى ونفوذ قواته لدرجة باتت تُنافس الجيش السودانى نفسه، خصوصًا بعد سقوط نظام البشير فى أبريل ٢٠١٩.

على الرغم من تغيير الاسم والهيكل، فإن إرث الجنجويد لم يتلاشَ ففى الحرب التى اندلعت فى أبريل ٢٠٢٣ بين الجيش السودانى بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، أعادت مشاهد دارفور نفسها، لكن هذه المرة فى قلب العاصمة الخرطوم ومدن أخرى.

اتهمت الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية قوات الدعم السريع — التى تشكل الامتداد المباشر للجنجويد — بارتكاب انتهاكات جسيمة ضد المدنيين، من قتل واغتصاب ونهب واحتلال منازل، إضافة إلى هجمات عرقية ضد جماعات محددة فى إقليم غرب دارفور عامى ٢٠٢٣ و٢٠٢٤، وخصوصًا ضد قبيلة المساليت. 

ووصفت بعثة الأمم المتحدة هذه الأحداث بأنها «إبادة جماعية جديدة»، مؤكدة أن أنماط العنف تشبه تمامًا ما ارتكبته الجنجويد فى العقد الأول من الألفية.

رغم صدور أوامر توقيف دولية ضد بعض قادة الجنجويد، فإن معظمهم ما زال يتمتع بالإفلات من العقاب، سواء لوجودهم ضمن قوات الدعم السريع أو لتحالفاتهم السياسية والقبلية. 

ومع استمرار الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، يبدو أن إرث الجنجويد ما زال يُلقى بظلاله الثقيلة على السودان، وتمثل قصة الجنجويد تجسيدًا حيًا لكيفية تحوّل ميليشيا محلية صغيرة إلى قوة عسكرية ذات نفوذ سياسى واقتصادى هائل فهى ليست مجرد ظاهرة أمنية، بل مرآة تعكس فشل الدولة السودانية فى إدارة التنوع العرقى والإقليمي، وسقوطها فى فخ استخدام العنف الأهلى كأداة للحكم.

مستقبل الصراع في السودان

6875c0f598.jpg
الدكتور طارق فهمي

وبعدما تحدثنا عن التاريخ، نسعى لاستشراق المستقبل بمعطيات الحاضر، وفى هذا الإطار يؤكد الدكتور طارق فهمي، أستاذ العلوم السياسية والمستشار الأكاديمى للمركز القومى لدراسات الشرق الأوسط، أن المشهد السودانى الحالى يوحى بأن الحرب مرشحة للاستمرار ما لم يحدث تدخل إقليمى ودولى جاد لفرض تسوية سياسية، وتدمج المكونات المسلحة فى عملية شاملة وتعيد تعريف الدولة على اسس المواطنة واللامركزية الفاعلة.

وقال "فهمي" فى مقاله المنشور بمجلة السياسة الدولية عدد أكتوبر ٢٠٢٥ إنه إذا تم ذلك فى إطار فيدرالى متوافق عليه، فقد يتحول السودان من ساحة صراع دائم إلى نموذج للتعايش السياسى والإدارى، أما إذا فرضت الفيدرالية كحل مؤقت دون إصلاح جذرى، فسيبقى خطر الانقسام قائما خاصة بعد أن أدى محمد حمدان دقلو، قائد قوات الدعم السريع السودانية اليمين رئيسا لحكومة سودانية موازية وذلك فى تطور يدفع البلاد خطوة أخرى نحو التقسيم الفعلى.

وأضاف الدكتور طارق فهمى أن الصراع الحالى يتجاوز مجرد التنافس بين قائدين، إنه صراع بين مشروعين للهيمنة: الجيش السوداني الذى يسعى إلى استعادة السلطة المركزية وإخضاع الميليشيات، مستندا إلى شرعية الدولة والاعتراف الدولى، وقوات الدعم السريع التى تمثل مزيجا من القوة العسكرية الميدانية والامتداد القبلى، وتحظى بدعم مالى وعسكرى من أطراف خارجية تسعى لتامين نفوذها فى السودان.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق