السودان: قوات الدعم السريع وخطر تفكك الدولة

تحيا مصر 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

منذ اندلاع المواجهات المفتوحة بين قوات الدعم السريع (RSF) والقوات المسلحة السودانية (SAF) في أبريل 2023، بدا السودان وكأنه يقف على حافة انهيار الدولة المركزية بعد ان  تحوّل الصراع، الذي بدأ كسباق للسيطرة على النفوذ داخل العاصمة الخرطوم إلى حرب إقليمية شاملة امتدت إلى دارفور، كردفان، وجنوب البلاد، ما أفرز واقعًا ميدانيًا جديدًا يهدد وحدة الدولة ويفتح الباب أمام احتمالات تقسيمها أو تفتيتها فعليًا. ويظهر هذا التحوّل بوضوح في خريطة توزيع السيطرة الحالية، حيث تشير وكالة الاتحاد الأوروبي لشؤون اللجوء (European Union Agency for Asylum – EUAA) إلى أن البلاد مقسمة عمليًا بين مناطق خاضعة لسيطرة الجيش تشمل الشمال والشرق وأجزاء كبيرة من الجنوب والوسط، ومناطق تحت نفوذ RSF أو جماعات محلية داعمة لها، لا سيما في دارفور وشمال وغرب كردفان. هذا الواقع يجعل فكرة “دولة داخل الدولة”  أكثر من مجرد سيناريو نظري، إذ أصبح ملموسًا على الأرض.

وتعد السيطرة الأخيرة لقوات الدعم السريع على مدينة الفاشر، آخر معاقل الجيش في دارفور الغربي، علامة فارقة في هذا السياق. فقد تحوّلت الفاشر إلى قاعدة نفوذ شبه مستقلة تمكن تلك القوات من إدارة الموارد، والتحكم في الممرات الحدودية مع ليبيا وتشاد، إضافة إلى السيطرة على الموارد المعدنية والذهب في المنطقة ، ويمنح هذا التطور قوات ال RSF قدرة غير مسبوقة على ممارسة حكم فعلي في الإقليم، ما يجعل فكرة تقسيم  للبلاد أكثر واقعية من أي وقت مضى. وأكدت تقارير غربية مثل The Washington Post أن السيطرة على المدن الرئيسية والتحكم في الموارد والممرات الحيوية يرفع احتمال انفصال فعلي للأراضي الواقعة تحت نفوذ RSF، في وقت تغذي احتمالات التقسيم عوامل متعددة، أبرزها استمرار العنف العرقي وموجات النزوح في دارفور، إذ تُوجَّه الاتهامات إلى RSF بارتكاب جرائم واسعة ضد مجموعات الفور والزغاوة والمساليت، بينما يتم التلاعب بممرات المساعدات الإنسانية ومنع وصولها إلى المتضررين. كما يمنح النشاط الاقتصادي العسكري في مناطق نفوذ RSF — من خلال إتاوات التهريب والذهب والموارد المحلية — هذه القوات استقلالية مالية جزئية عن الحكومة المركزية، ما يعزز قدرتها على ممارسة حكم شبه مستقل.

في الوقت نفسه، تشهد البلاد أزمة إنسانية كارثيه وغير مسبوقة ، فالسودان يشهد أكبر أزمة إنسانية ونزوح على مستوى العالم، مع تجاوز عدد النازحين 12 مليون شخص وأكثر من نصف السكان بحاجة إلى المساعدات. وقد تم تأكيد حالات المجاعة رسميًا في أجزاء من دارفور  تتسع عبر البلاد، مع معاناة أكثر من 635 ألف شخص من انعدام الأمن الغذائي الشديد ويتحمل المدنيون العبء الأكبر من الفظائع والعنف، بما في ذلك العنف العرقي، القتل الجماعي، الاعتداءات الجنسية، واستهداف البنية التحتية المدنية الحيوية، بما فيها المستشفيات. وقد أدى انهيار النظام الصحي في البلاد إلى توقف أكثر من 80% من المستشفيات في مناطق النزاع عن العمل، ما أسهم في تفشي الأمراض مثل الكوليرا، في وقت أبدى المجتمع الدولي إدانات قوية ودعوات لوقف إطلاق النار الفوري، لكنها ظلت محدودة الفاعلية، وسط اتهامات بالإهمال الدولي وفشل الفاعلين الدبلوماسيين في الاستجابة بشكل فعّال.

ويزداد نفوذ RSF بفعل الدعم الإقليمي والدولي غير المباشر، حيث يتردد انها تحظى بدعم سياسي ولوجستي من دول مثل الإمارات العربية المتحدة، وبعض الدول المجاورة مثل تشاد، بالإضافة إلى ليبيا تحت تأثير قوات خليفة حفتر. في الوقت نفسه، تتقاطع مصالح إثيوبيا في شرق السودان مع مسار الصراع،. هذا المشهد المعقد يجعل أي تدخل دولي شامل لإعادة توحيد البلاد عمليه بالغه الصعوبة في ظل تعاظم  قدرة RSF على تثبيت نفوذها في دارفور وغرب السودان. ومع ذلك، تواجه RSF تحديات داخلية، تشمل صراعات قبلية وصعوبة توسيع قاعدة الدعم الاجتماعي خارج دارفور، واحتفاظ الحكومة المركزية ببعض القدرات علي استعاده زمام المبادرة في مناطق محددة، ما يمنع السيطرة الكاملة للقوات شبه العسكرية على البلاد.

وتشير بعض التقديرات إلى ثلاثة مسارات محتملة للمستقبل: الأول هو تقسيم فعلي، حيث تسيطر RSF على دارفور و أجزاء من غرب السودان، بينما تحافظ الحكومة المركزية على الخرطوم والشرق، ما يؤدي إلى وجود دولتين فعليتين؛ الثاني يتمثل في إدارة فيدرالية موسّعة عبر حكم ذاتي واسع لمناطق مثل دارفور وبقية الغرب ضمن إطار الدولة السودانية، مع اعتماد علاقات شراكة مع المركز؛ والثالث يتعلق بعودة لوحدة مركزية مشروطة، عبر تدخل دولي فعّال، لتطبيق هدنة، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، ما يقلّل من فرص الانقسام ولكنه يحتاج إلى وقت وجهد دولي كبير.

وترجح العديد من التقديرات الأمريكية والبريطانية السيناريو الأول، حيث أشار European Council on Foreign Relations (ECFR) إلى أن “التقسيم الفعلي للسودان بات على الطاولة”، فيما أكّد Royal United Services Institute (RUSI) أن غياب الحل السياسي وتفكك مؤسسات الدولة يزيدان من احتمال حدوث انقسام فعلي. كما ذكرت The Washington Post أن التحركات الأخيرة لـ RSF توحي بأن الانفصال أو التقسيم لم يعد احتمالًا بل خيارًا شبه مكتمل. وتشير تقديرات ACAPS (Assessment Capacities Project) إلى أن احتمال حدوث “التقسيم” أو “التفتت الإقليمي” مرتفع ما لم تتمكن الحكومة المركزية والمجتمع الدولي من فرض هدنة فعّالة أو إدارة مسار السلام بشكل حاسم، حيث يظهر في مناطق النفوذ الموازية «حكم ذاتي منظم» لم يعد مقتصرًا على كونه قوة متمردة فقط، ما يزيد من فرص قيام كيانات شبه مستقلة على الأرض.

ان ما يحدث في دارفور لا يعتبر مجرد نزاع عسكري، بل له أبعاد وجودية لدولة تاريخية، وتتلخص الخيارات المتاحة اليوم في مسارين: إما تحرك دولي وإقليمي حاسم للحفاظ على وحدة السودان، أو تفكك فعلي لبنية الدولة وانقسامها.وفي ظل هذا الوضع الخطير ، برزت الخطة التي أعلنتها  في 12 سبتمبر المجموعة الرباعية — المكوّنة من مصر، والإمارات، والسعودية، والولايات المتحدة — باعتبارها أحد المسارات الواقعية لإنقاذ السودان من الانهيار الكامل، إذ يري  مراقبون أن تنفيذ هذه الخطة قد يشكل الفرصة الأخيرة لتجنّب تفكك الدولة ووقف دوامة العنف، مؤكدين أنها السبيل الوحيد لإنهاء معاناة السودانيين، سواء في الفاشر أو في سائر أنحاء البلاد، حيث تنص الخطة على، هدنة إنسانية لمدة 3 أشهر، لتمكين دخول المساعدات الانسانيه الي مختلف أنحاء البلاد، ثم وقف دائم لإطلاق النار، مع إطلاق عملية انتقال شاملة وشفافة خلال 9 أشهر من بدء وقف إطلاق النار وتحظى خطة المجموعة الرباعية بدعم واسع من الاتحاد الأوروبي، والجامعة العربية، والاتحاد الإفريقي — وهي تكتلات تضم مجتمعة 114 دولة — فضلًا عن الأمم المتحدة وكندا والولايات المتحدة، ما يمنحها زخمًا سياسيًا يجعلها الإطار الأكثر واقعية لإعادة السودان إلى مسار الحكم المدني وإنهاء معاناته المتفاقمة

ورغم كل المخاطر والتهديدات التي تواجه السودان اليوم، يظل الأمل معقودًا على الخطة الرباعية كخيار واقعي لتجاوز الأزمة. فإذا ما قبلت الأطراف السودانية هذه الخطة وتعاملت معها بإيجابية، فإنها قد تمثل فرصة حقيقية لإنقاذ البلاد من الانقسام والانهيار، وإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس أكثر صلابة واستقرارًا،  فالسودان حاليا عند مفترق طرق حاسم: إما الانزلاق نحو التفكك والفوضى، أو الاستفادة من هذه المبادرة الدولية لتثبيت الهدنة، وتمهيد الطريق لعودة الدولة إلى مسارها المدني، وضمان مستقبل أكثر أمانًا وازدهارًا لشعبه.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق