الهوية المصرية وحضارة لا تنتهي

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

 

افتتاح المتحف المصري الكبير اليوم حدث لا يتكرر كثيرًا في حياة الأمم، وهي فرصة ذهبية أظهر فيها المصرييون بكل طبقاتهم وثقافاتهم وانتماءاتهم حبهم واعتزازهم واهتمامهم بتاريخ بلدهم وعظمة تاريخهم، ولأول مرة يرتدي المصرييون زي أجدادهم، ويتغنون بلغتهم القديمة وينتشرون في المواقع الالكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي في مظاهرة حب واعتزاز وفخر  بلغتهم القديمة، وتخرج الصور والأغاني معبرةً عن هذا الحب والشغف والاعتزاز مما يدل على وحدة وتناغم وتماسك شعب مصر العظيم، مهما تعرض من تحديات ومؤامرات وحروب نفسية وإعلامية، ومهما كان حجم العدو المعلن أو الخفي، الشقيق أو الصديق، القريب أو البعيد، يظل الشعب المصري الأصيل متماسكًا منصهرًا في بوتقة واحدة من الوطنية والتمسك بأرضه وحدوده وجذوره إلا فئة ضيئلة مستهجنة  ضالة ومضلة ممن غسلت عقولهم وفسدت فطرتهم فاختاروا تكفير الوطن وتحقير ترابه وأرضه.

تنتشر تلك الظاهرة المحبة لمصر والشغوفة بتاريخها سواء من المصريين أو شعوب العالم كله   في أجواء حروب متعددة تدور رحاها حول مصر في كل الاتجاهات الأربعة،  في الجنوب تهدد بانقسام السودان الظهير الجنوبي الهام استراتيجيًا لمصر ومجازر أهلية انتقامية في الفاشر في دارفور تذكرنا بما حدث  شمالًا في سوريا في عصر الجولاني من مجازر ضد العلويين، وتذكرنا بما فعلته بعض الفصائل الفلسطينية في بعضها البعض انتقامًا وحقدًا وتناحرًا وقتلًا على الهوية بلا رحمة ولا وطنية، وهي مجازر داخلية تبلغ من العنف والكراهية والتناحر الداخلي بما ينبأ عن انقسامات داخلية خطيرة ومقلقة، كما لا يخلو الأمر في ليبيا  غربًا واليمن جنوبًا  والعراق وحتى لبنان الذي اتصف دائمًا بالفن والجمال والإقبال على الحياة.

يذكرنا هذا  الافتتاح العظيم بتاريخ اكتشاف مقبرة مقبرة توت عنخ آمون في ٤ نوفمبر ١٩٢٦م حين وصل عالِم الآثار الإنجليزي هيوارد كارتر إلى بداية السرداب الذي يفضي إلى المقبرة. كانت أول مقبرة فرعونية يُعثَر عليها دون أن تتعرض للعبث أو السرقة. ( وهي حاليًا أهم ما يعرض في المتحف الكبير) وتابع العالم كله، والرأي العام المثقف المصري أنباء تلك الكشوف الحديثة في حفريات الآثار. سرت حمى توت عنخ آمون في دول الغرب: الأزياء، التسريحات، اللعب، السلع الغذائية. حتى الحانوتية أعلنوا عن الدفن بطريقة توت عنخ آمون، وقالت صحيفة «فيلادلفيا لبدجر» الأمريكية: «لقد حقق توت عنخ آمون لمصر الحديثة ما لم يحقق في حياته وزمانه.» وعكست الضجة العالمية تأثيرًا مباشرًا على المصريين؛ نبَّهتهم إلى قيمة تراثهم الفرعوني، وحفزتهم لدراسة تاريخهم القديم، انبرى المثقفون والمفكرون سواء كانوا أدباء أو فنانين تشكليين أو رجال مسرح وسينما أو موسيقيين أو صحفيين  للتعبير عن هويتهم المصرية كل بأسلوبه وأدواته وإمكانياته.ولهذا حديث تفصيلي ربما يحتاج كتبًا وليست مقالات فقط .

وكان أعلى دعاة الاتجاه إلى الفرعونية صوتًا محمد حسين هيكل وأحمد لطفي السيد  وطه حسين وسلامة موسى ومرقص سميكة وحسن صبحي ومحمد عبد الله عنان وتوفيق الحكيم، وغيرهم نذكر إنتاج بعضهم الذي يطرح قضية جذور مصر القديمة.

فمثلًا أكد طه حسين على أن جذور الحضارة المصرية تمتد إلى مصر القديمة، وأن المصريين ينتمون للحضارة المتوسطية وليس الشرقية وأن العقل المصري نشأ مصريًا خالصًا، وأن هذا الميراث القديم هو أساس الهوية الوطنية المصرية وطرح فكرة أن مصر تنتمي ثقافيًا لشعوب حوض البحر المتوسط (التي سماها "بحر الروم") أكثر من انتمائها للشرق، وذلك بعد تحليل تاريخي لعلاقات مصر القديمة مع اليونان واليونانيين، وكتب في أحد أشهر مقالاته التي كتبها عام 1933 في مجلة كوكب الشرق يقول: الفرعونية متجذرة بعمق في أرواح المصريين. وستبقى كذلك، ويجب أن تستمر وتصبح أقوى. كما أكد على أن تبني الثقافة المصرية القديمة لا يعني إنكار الإسلام أو اللغة العربية، بل هو إضافة تعزز الشخصية المصرية. 

كذلك سلامة موسى الذي كتب  "هذا الوطن المصري" دافع فيه عن الدعوة إلى الثقافة الفرعونية. وكان موسى من أشد الداعين إلى فرعونية مصر، نافيًا أن تكون دعوته رجعيةً بل دعوة حضارية، وانتقد الذين يظنون أن الدعوة إلى الفرعونية تعنى الجحود للعرب أو الرجوع إلى ديانة الفراعنة وأنظمتهم، ورأى أن هذا سخف يتم التوسل به للطعن فى الفرعونية.  الف كتابًا بعنوان ( مصر أصل الحضارة) دعا فيه إلى عودة المصريين إلى الهوية الفرعونية. وتحدث عن مفاهيم تؤكد فكرة الاستمرارية البيولوجية كأساس لتحديد الهوية، من حيث (السحنة المصرية، والدم المصري، والسلالة المصرية).

وعندما كتب توفيق الحكيم «عودة الروح» كانت أصداء النداء قائمة في نفسه: (انهض، انهض يا أوزوريس، أنا ولدك حورس، جئت أعيد إليك الحياة، لم يزل لك قلبك الحقيقي، قلبك الماضي.)

وبالإضافة إلى رواية الحكيم «عودة الروح» التي تُعَد تأكيدًا على أن الروح المناضلة قد عادت إلى جسد الأمة المصرية، مستوحية في ذلك أسطورة الرباعي: أوزوريس، إيزيس، حورس، ست، ومسرحية «أهل الكهف» التي كانت في بعض زواياها تأكيدًا لفكرة البعث، استلهامًا لتراث مصر القديمة، وكانت تعبيرًا عن الرغبة في كتابة مأساة مصرية على أساس مصري، كتب توفيق الحكيم  أيضًا في «تحت شمس الفكر» — ١٩٣٨م — يقول: «إني دائمًا أومن بأن مصر لا يمكن أن تموت؛ لأن مصر منذ الأزل ظلت تعمل وتكد آلاف السنين، لهدف واحد: مكافحة الموت. ولقد فازت مصر ببغيتها، وكلما ظن الموت أنه انتصر، قام حورس من أبنائها يصيح: انهض انهض أيها الوطن، إن لك قلبك، قلبك الحقيقي دائمًا، قلبك الماضي، وإذا الموت يتراجع أمام صوت مدوٍّ من أعماق الوطن: إني حي إني حي. 

كذلك تقف محاولات نجيب محفوظ الثلاث الأولى «عبث الأقدار» — ١٩٣٩م، و«كفاح طيبة» — ١٩٤٣م، «ورادوبيس» — ١٩٤٤م، فهي تأثرٌ بالغٌ بحركة إحياء  القومية المصرية، حتى إنه خطط لكتابة تاريخ مصر الفرعونية في أربعين رواية تاريخية، مثلما فعل الكاتب الإنجليزي وولتر سكوت في تاريخ بلاده، فضلًا عن الروايات الثلاث التي تعد محاولة مخلصة لإعادة الثقة بمصر، التي كانت قد فقدت نفسها، أو فقدت الروح، كما تقول رواية الحكيم، والفنان بذلك الطرح قد زاوج بين حقب التاريخ، وبتعبيرٍ أدق ربط بين الماضي والحاضر بمعانٍ ودلالات ورموز يلتمس فيها منفذًا ليقول بعض ما يريد مسلطًا الضوء على الحاضر، ومناقشة مشكلاته وأزماته عن طريق رواية أحداث الماضي، بما يتيح له أن يقول كلماته، ارتكازًا إلى نظرية وحدة التاريخ التي تقول إن التاريخ يعيد نفسه.

 كذلك يكتب علي أحمد باكثير الحضرمي الأصل العروبي النزعة (إخناتون ونفرتيتي) 1934 معتزًا بالحضارة المصرية القديمة وعلو شأنها لكونها  الحضارة التي صارت تراثًا إنسانيًّا مشتركًا، يعنى به العلماء من جميع الشعوب، ويُدرَس في كل جامعات العالم.

ويؤكد حسين فوزي أن حركة الدعوة إلى الفرعونية كانت تحاول أن تمحو عن المصريين سُبة وعارًا، سبة جهلهم بتاريخهم، وعار ازدرائهم بأمجد حقبة من أحقاب هذا التاريخ.

 

أما إسماعيل أدهم فقد أشار إلى عدم وجود تناقض في أن تكون مصر الحديثة عربية إسلامية فرعونية؛ فهي «عربية إسلامية في مظهرها، فرعونية في خلجاتها ووجدانها. 

كذلك الجغرافي العظيم جمال حمدان ورباعيته الرائعة عن شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان"،  حيث حلل الشخصية المصرية المركبة، مؤكدًا على أهمية الجغرافيا والتاريخ في تشكيلها،كما ربط بين الهوية المصرية "الفرعونية بالجد" والانتماء العربي "بالأب"، كان يرى أن شخصية مصر تتشكل من تفاعلات تاريخية وجغرافية مختلفة، لكنه حافظ على مفهوم "شخصية مصر" الذي يجمع في طياته الهوية الفرعونية والعربية معًا. كما درس حمدان علاقة مصر بأبعادها الأربعة (الأفريقي والآسيوي والمتوسطي والأطلسي)، وكيف تداخلت هذه الأبعاد في تشكيل شخصيتها.

وهناك الكثير مما يضيق به المجال أمثال المؤرخ شفيق غبريال ورسالته بعنوان(بداية المسألة المصرية وظهور محمد علي)، والمفكرة والأديبة نعمات أحمد فؤاد وكتابها (شخصية مصر)، وميلاد حنا وكتابه (أعمدة الحضارة المصرية السبعة) ، ومحمد حسين يونس وكتابه (طلسمات مصرية )، وغيرهم الكثير من المتخصصين البارزين في كل ألمجالات الإبداعية والقوى الناعمة المصرية.

يعود السؤال المتكرر عن الهوية المصرية ولماذا تظهر جلية واضحة وقت المحن والأزمات ؟ أو وقت التحديات والصراعات، إن أعلى تجليات إعلان المصريين عن هويتهم وقمة التعبيرعن تمسك الشعب المصري كله بهويته ومصريته في العصر الحديث  هي ثورة 30 يونيو 2013 عندما خرج الشعب كله رافضًا تغيير هويته تحت أي مسمى ديني أو عقائدي أو مذهبي أو سياسي رغم ما تعرض له من إعلام  مدلس ومدسوس ومأجور عربي أودولي أوداخلي، حفظ الله مصر مقرًا للأمن والأمان، واحةً للا ستقرار والسلام، بلدًا مضيافًا لكل الشعوب المحبة للسلام  ينشر الخير والحب والجمال.

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق