أنيس منصور.. الكاتب الذي طاف العالم ليكتشف الإنسان

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في اللحظة التي لامست فيها قدما أنيس منصور أرض مطار القاهرة، انحنى يقبل ترابها، وكأنما يطوي دائرة عمره التي بدأت من الشرق وانتهت في الغرب، بين الهند وإيطاليا، تلك القبلة كانت رمزًا لعودة الرحالة الذي جاب الأرض بحثًا عن المعنى، فدون رحلته في كتابه الأشهر «200 يوم حول العالم» الصادر عام 1963، والذي حظي بإشادة كبار المفكرين والأدباء مثل طه حسين ولويس عوض وكامل الشناوي، وحتى المشير عبد الحكيم عامر، لقد شكل هذا العمل علامة مضيئة في أدب الرحلات العربي الحديث، وامتدت رحلته الفعلية 228 يومًا لكنها خلدته إلى الأبد.

ffaba77da2.jpg

أنيس منصور لم يكن كاتبًا عابرًا، بل كان فيلسوفًا في هيئة صحفي، وأديبًا بلغات عدة، أتقن الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية، فغذى المكتبة العربية بترجمات وكتب تنوعت بين الفلسفة، والرحلات، والأدب، والخيال العلمي، وحتى ما وراء الطبيعة.

 

في مقدمة الطبعة الرابعة والعشرين من «200 يوم حول العالم»، يروي أن الوزارة عرضت عليه أن يكون الكتاب مقررًا دراسيًا مقابل مكافأة مالية ضخمة، لكنه رفض قائلًا:

 

«أفضل أن يختارني القارئ على أن أفرض عليه، أن أكون متعة لا واجبًا».

d85c01911c.jpg

ومن هذا الموقف تتجلى فلسفته في الكتابة: أن يكتب ليضيء لا ليرضي، وكان هذا العمل بداية لسلسلة كتب رحلاته مثل «اليمن ذلك المجهول»، و«أطيب تحياتي من موسكو»، و«بلاد الله خلق الله»، و«غريب في بلاد غريبة». وكان يؤمن أن الرحلة لا تكون فقط بالسفر، بل أيضًا بقراءة الكتب وقراءة كتب الرحلات.

 

ولد أنيس منصور في 18 أغسطس 1924 بمدينة شربين بالدقهلية، وحفظ القرآن كاملًا في التاسعة من عمره، فكانت اللغة العربية له وطنًا أول، والفلسفة وطنه الثاني، درسها في جامعة القاهرة ثم أصبح أستاذًا فيها، قبل أن يكرس حياته للكتابة الصحفية في أخبار اليوم والأهرام ودار المعارف.

205d6c0f29.jpg

بلغت شهرته ذروتها بعموده اليومي الشهير «مواقف» في الصفحة الأخيرة من الأهرام، الذي تحول مع الوقت إلى مساحة تأمل وسخرية فلسفية، تشبه تغريدات تويتر في زمن الورق.

 

كان أنيس منصور بسيط اللغة عميق الفكرة، قادرًا على تحويل أكثر المعاني تعقيدًا إلى جمل شفافة، قال في أحد حواراته:

 

«متعتي أن أعبر عن معاني صعبة بلغة سهلة، فالكتابة ليست استعراضًا بل كشف للإنسان».

1e50763f60.jpg

لم تقتصر مؤلفاته على الرحلات، بل تنوعت بين الرواية والمسرح واليوميات، مثل «من الذي لا يحب فاطمة»، و«غاضبون وغاضبات»، وكتب الظواهر الغامضة التي أسرت القارئ العربي مثل «أرواح وأشباح»، و«الذين هبطوا من السماء»، و«لعنة الفراعنة».

 

حصل أنيس منصور على جائزة الدولة التشجيعية عام 1963، وجائزة الدولة التقديرية في 1981، وجائزة مبارك عام 2001، وكرمته جامعة المنصورة بدرع الدكتوراه الفخرية، كما نصب له تمثال في مدينتها.

722.webp

كان أيضًا صديقًا مقربًا من الرئيس أنور السادات، شاركه كتابة خطاب الكنيست، ورافقه في زيارته التاريخية إلى القدس بعد أن استدعاه بطائرة خاصة من السعودية. حكى منصور عن تلك اللحظة قائلًا:

 

«كان شعورًا فريدًا أن تنتقل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في يوم واحد».

 

أما في الصحافة، فظل مؤمنًا أن الحرية الحقيقية لا تمنح بل تمارس، مؤكدًا أن السادات لم يتدخل يومًا في مقالاته، بينما كان مبارك يتصل به أحيانًا بصفته “مواطنًا مصريًا”.

723.webp

وفي 21 أكتوبر 2011، أُسدل الستار على رحلة أنيس منصور بعد إصابته بالتهاب رئوي حاد، تاركًا إرثًا أدبيًا وفكريًا جعل منه أحد أعمدة الثقافة العربية في القرن العشرين، ورحالة جاب العالم بالقلب والقلم، ليبقى صوته شاهدًا على زمن كان فيه الأدب مغامرة والفكر رحلة لا تنتهي.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق