فى قلب القاهرة وبجوار الجامع الأزهر، وتحديدًا داخل ساحة مسجده العامر، تحتفل الطرق الصوفية ومحبو آل البيت، الثلاثاء، بالليلة الختامية لمولد الإمام الحسين، رضى الله عنه، الذى يعتبر من أضخم وأهم المناسبات الدينية الشعبية فى العالم الإسلامى. وتهيأ مسجد الإمام الحسين فى وسط القاهرة لاستقبال مئات الآلاف من المُحبين والعاشقين لـ«آل البيت»، الذين يأتون من كل حدب وصوب للمشاركة فى إحياء مولد الحسين، ذلك الاحتفال المهيب، الذى يجمع الطرق الصوفية وأحباب آل البيت ومريدى التصوف، إلى جانب الحضور اللافت لعلماء الأزهر الشريف، على أن يُختتم الاحتفال بصوت المنشد الكبير ياسين التهامى، ونجله «محمود»، إلى جانب منشدين آخرين على رأسهم أمين الدشناوى. ويحمل المصريون محبة خاصة لـ«ابن بنت رسول الله»، صلى الله عليه وسلم، ويحتفلون كل عام بذكرى استقرار رأسه الشريف فى مصر المحروسة، بعد قدومه من العراق على يد سيدة تسمى «أم الغلام»، فأصبح المصريون ينظمون مولدًا سنويًا كبيرًا احتفالًا بهذه الذكرى ومحبةً لـ«سيد شباب أهل الجنة».
ويختلف الاحتفال هذا العام عن الأعوام السابقة، ويحمل أهمية خاصة، بعد الهجوم الذى شنته التيارات المتطرفة على الاحتفال بمولد القطب الصوفى السيد أحمد البدوى، فى مدينة طنطا بمحافظة الغربية، بحضور ملايين المحبين من داخل وخارج مصر، وهو ما يدفع الطرق الصوفية لتنظيم مليونية فى حب أولياء الله الصالحين، الليلة.
وكيل المشيخة العامة للطرق الصوفية: جلسات علمية يعقدها كبار الشيوخ لشرح مكانة «الإمام»
لم يغب الأزهر الشريف عن هذا المشهد، بل حضر بقوة من خلال مشاركات علمائه ووعاظه فى الندوات والمحاضرات التى تنظمها المشيخة العامة للطرق الصوفية ومؤسسة «حى على الوداد»، التى يشرف عليها الشيخ جابر بغدادى، وكيل المشيخة.
وقال الدكتور جابر بغدادى، إن المشيخة ترفض التطاول على السيد أحمد البدوى هذا الولى الصالح والقطب الكبير، و«سنرد على الهجوم لا بالشتائم، بل بالمحبة والذكر، ومجالس العلم، وإظهار الوجه الحقيقى للتصوف الذى يدعو إلى السلام، وحب النبى، صلى الله عليه وسلم، وآل بيته الكرام».
وأضاف «بغدادى» أن احتفالات مولد الإمام الحسين هذا العام ستكون للتأكيد على أن حب الأولياء ليس بدعة، وإنما هو امتداد لحبنا لآل بيت النبى، صلى الله عليه وسلم، وأن الاحتفال بمولد سيدى أحمد البدوى هو تعبير عن هذا الحب الروحى الذى يجمع المصريين منذ قرون. ويشارك عدد من كبار علماء الأزهر فى هذه الندوات العلمية التى تنظم بمقر مؤسسة «حى على الوداد» بمنطقة الحسين، تحت اسم «مجالس النور»، وتتناول سيرة الإمام الحسين، ومكانته فى التاريخ الإسلامى، ودوره فى نصرة القيم والعدل، وتبين فضل مكانة آل البيت وأولياء الله الصالحين.
مريدون: نشارك بالملايين لنجدد إيماننا وعشقنا لـ«آل البيت»
وجه أتباع الطرق الصوفية وأحباب آل البيت العديد من الرسائل إلى الجماعات المتطرفة التى هاجمت مولد القطب السيد البدوى، مؤكدين أنهم يذوبون عشقًا فى آل بيت رسول الله والسادة الأولياء والصالحين.
وقال الشيخ حسن عبدالعزيز، من مريدى الطريقة البرهانية، أحد رواد المولد منذ أكثر من أربعين عامًا، إنه يجىء إلى الحسين كل عام، حيث يشعر بأنه أقرب إلى الله، ويجد فى المولد ساحة للسلام الداخلى، والوصال مع الروح النبوية، مضيفًا أن كل الأولياء الصالحين لهم مكانة خاصة عند الصوفية، الذين يذوبون فيهم عشقًا.
وأشار «عبدالعزيز» إلى أن آلاف المريدين يحتفلون حاليًا بمولد الإمام الحسين؛ لكى يقولوا للمتطرفين إن أهل التصوف يحبون آل البيت، و«مهما فعلتم فلن تجعلونا نخاف أو نتراجع عن الاحتفال بموالدهم التى ننتظرها بين الحين والآخر لنجدد إيماننا وعشقنا ومحبتنا لآل البيت الكرام».
فى السياق ذاته، قال محمد القادرى، أحد مريدى الطرق الصوفية بالحسين، إن هذه الفعاليات سيشارك فيها آلاف المريدين من مختلف محافظات الجمهورية من مختلف الطرق الصوفية مثل «الشاذلية، والرفاعية، والأحمدية، والشبراوية، والنقشبندية، والبيومية والصديقية والأكبرية والتجانية والخليلية والجعفرية والكركرية والبودشيشية»، معتبرًا المشاركة ردًا عمليًا على حملات التشوية التى طالت القطب النبوى السيد أحمد البدوى.
«الجعفرية»: نحيى الليل بالذكر والأوراد
أكد الشيخ محمد صالح الجعفرى، شيخ الطريقة الجعفرية الأحمدية، أكبر الطرق الصوفية فى مصر، أن الإمام الحسين هو مصباح الهدى وسفينة النجاة، لذا تحتفل الطريقة بمولده المبارك فى مقرها بمنطقة الدراسة، حيث يتوافد آلاف المريدين خلال أيام المولد.
وقال: «يأتى المريدون حاملين معهم رسالة سلام ومحبة لسبط رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مستذكرين قول النبى: (حسين منى وأنا من حسين)»، وتابع: «نأتى إلى مولده كأننا نزور روحه الطاهرة، نحيى الليل بالذكر ونقرأ دلائل الخيرات والأدعية والأوراد التى كتبها شيخنا الجليل مولانا الشيخ صالح الجعفرى».
باعة: مبيعات ورواج اقتصادى خلال المناسبة
على أطراف مسجد الحسين، تنتشر مئات البسطات التى تبيع كُتب الأدعية، والمسابح، والأعلام، والرايات الخضراء، والمأكولات الشعبية، والمشروبات وغير ذلك من الأمور التى يحتاجها المريدون والمشاركون فى فعاليات المولد.
وقال فوزى الخطيب، أحد الباعة، إن الرزق يزيد فى المولد، لكن الأهم هو الوجود فى رحاب الحسين، مضيفًا: «دى بركة ما تتعوضش، الاحتفال لا يقتصر على يوم المولد فقط، بل يمتد على مدار سبعة أيام، تتخللها ليال صوفية تُقام فيها الحضرات والإنشاد والذكر».
ولفت إلى أنه قبل المولد بـ٧ أيام يتوافد المحبون والمشاركون على المنطقة، ويستأجرون الشقق والفنادق حول مسجد الإمام للمشاركة فى المولد، وتكون هذه الأيام أيام بركة وفرحة وسعادة لجميع العاملين فى منطقة الأزهر، ويحدث رواج اقتصادى كبير.
«الجازولية»: «موسم تجلٍ» احتفالًا بـ«نور من أنوار النبوة»
وصف سالم الجازولى، شيخ الطريقة «الجازولية» عضو المجلس الأعلى للطرق الصوفية، مولد الإمام الحسين فى القاهرة بأنه «موسم تجلٍ وتطهير»، لذا يقيم أبناء الطريقة الحضرات الخاصة بهم، ويقرأون فيها «الأوراد الجازولية»، وتُفتَح الساحات للذكر والصلوات، فالإمام الحسين ليس مجرد رمز دينى، بل نور من أنوار النبوة.
وقال «الجازولى»: «مشاركتنا فى المولد تعنى السير على نهج الصفاء، والتمسك بحب آل البيت قولًا وعملًا، فالاحتفال ليس مجرد إحياء لذكرى فقط، بل تجديد للعهد الروحى والقيم التى جسّدها الحسين فى التضحية والحقّ والحُبّ الإلهى».
وأضاف شيخ الطريقة «الجازولية»: «الاحتفال يعكس رسالة التصوف فى المحبة والوسطية، وإظهار رسالة الطرق الصوفية فى مصر بأنها جامعة لا فِرق فيها، من خلال تواصل المريدين من مختلف محافظات الجمهورية، وتأكيد الانتماء الوطنى والشرعى فى آنٍ معًا».
ونبه كذلك إلى أهمية مولد الحسين والموالد بصفة عامة فى تعزيز حضور الطريقة داخليًا وخارجيًا، من خلال حلقات الذكر والإنشاد، ونشر التعاليم والجلسات الصوفية التى تربّى على الأخلاق والروحانية.
«العزمية»: رد عملى على الهجمة ضد الموالد
قال علاء الدين أبوالعزائم، شيخ الطريقة العزمية عضو المجلس الأعلى للطرق الصوفية، إن مولد الإمام الحسين هو مناسبة لترسيخ مفهوم المحبة النقية، وتوحيد الصف الوطنى، وإبراز سماحة الإسلام.
وأضاف «أبوالعزائم»: «نفتح الساحات والمقار فى كل محافظات الجمهورية احتفاءً بهذه الذكرى، التى تؤكد محبتنا لآل البيت والصالحين، وكذلك كرد على التطاول الذى طال السيد أحمد البدوى، من التيارات السلفية المتشددة التى تحارب أولياء الله». وواصل شيخ العزمية: «الطريقة تبرز فى احتفالاتها أن التصوّف ليس حالة انزواء، بل مشاركة إيجابية فى المجتمع، وأنه يلعب دورًا مهمًا وكبيرًا فى الحفاظ على الوطن من جماعات التطرف والإرهاب، كما أن الاحتفال يعزّز معانى الوحدة الوطنية والتعايش، والذِّكر والإنشاد وجلسات المحبة تعتبر من أدوات السلم الاجتماعى، فى مقابل الخطاب التطرفى الذى يستنكره الجميع».
لجان شبابية: هدفنا التنظيم ومنع التحرش
كشفت مصادر بالطرق الصوفية عن أن هناك تأمينًا كبيرًا للاحتفالات ولجميع الساحات والخدمات التى تنظمها الطرق الصوفية فى منطقة الأزهر والحسين، مشيرة إلى تشكيل لجان شبابية تطوعية لتأمين المشاركين وتنظيم الفعاليات، فى مشهد يعكس تضافر الجهد الروحى بالانضباط المجتمعى.
ويأتى هذا التحرك ضمن خطة أوسع تنتهجها الطرق الصوفية لتقديم نموذج حضارى وفعّال فى إدارة المناسبات الدينية الكبرى، بعيدًا عن العشوائية، ومنعًا لأى مظهر من مظاهر الفوضى أو الاستغلال.
وتعمل هذه اللجان تحت إشراف مباشر من شيوخ الطرق الصوفية، وبتنسيق مع الجهات المعنية، وتهدف إلى تنظيم حركة الزوار داخل الساحات والمقرات والمواكب وتأمين النساء والأطفال ومنع أى حالات تحرّش أو مضايقة.
وسيتم التنسيق مع الشرطة فى حال وجود حالات طارئة أو ازدحام مبالغ فيه، وتوجيه الزوّار إلى أماكن الذكر، ومجالس العلم، أو مناطق توزيع الطعام، وضبط السلوك العام ومنع أى شعارات سياسية أو مظاهر خارجة عن روح المناسبة، وتقديم المساعدة الإنسانية «إسعافات أولية، ومياه، ومساعدة كبار السن».
«الأكبرية»: فرصة لتجديد العهد مع «القيم النبوية الأصيلة»
اعتبر الدكتور أيمن حمدى الأكبرى، شيخ الطريقة الأكبرية الحاتمية، أن الاحتفال بمولد الإمام الحسين يعد «فرصة لتجديد العهد مع القيم النبوية الأصيلة من حب ورحمة وتسامح»، مشيرًا إلى أن «الإمام الحسين كان مدرسة فى الثبات على الحق، والتمسك بالمبادئ مهما كانت التضحيات».
وقال: «ينبغى أن نتذكّر أن منة الله تعالى على هذه الأمة تجلّت فى وجود آل بيت رسول الله، صلى الله عليه وسلّم، فهم ذخيرة لهذا الدين، ووسيلة للترابط الروحى والأخلاقى بين المسلمين، وأن حبّهم والتمسّك بهم ليس غلوًّا، بل اعتراف بمكانتهم، وتوجيه لقلوب المؤمنين نحو الفضائل التى جسّدوها».
وأضاف: «أما بالنسبة لمولد الإمام الحسين، فهو مظهر من مظاهر التعبد الجماعى التى ركّزت عليها الشريعة فى التشجيع على الذكر والتأكيد على القيم، والصبر على البلاء، والتصدّق على المحتاجين، والحفاظ على الأخوّة بين المسلمين، وما دامت هذه الاحتفالات تُنظّم فى إطار شرعى، وتتجنب الممارسات الغريبة أو الخارجة عن الشرع، فهى فرصة تذكير وتزكية للنفس بفضل الله ونعمه».
وأشار إلى أن التراث الإسلامى، ضمن إرشاد مؤسسة الأزهر الشريف، يرى أن الاعتراف بمكانة آل البيت والاحتفال بذكراهم ومناسباتهم يعتبر نوعًا من الاحترام والتعظيم الذى يحفّز المؤمن على الاقتداء بسيرتهم، والتمسّك بخُلقهم، لا إلى تجاوز ذلك. وتابع: «واجبُنا أن نُحيى ذكرهم بقلوب خاشعة، ونعيد صياغة ما كان يميزهم من إخلاص لله، خدمة للخلق، وإصلاح بين الناس، ولا يجب أن نخالف الشرع الشريف فى أى احتفال خاص بهم».
«الشبراوية»: مواكب المحبين تجوب الشوارع
شدد الشيخ عبدالخالق الشبراوى، شيخ الطريقة الشبراوية وعضو المجلس الأعلى للصوفية، على أن مولد الإمام الحسين ليس مجرد مناسبة دينية، بل هو تجلٍ لحب لا ينقطع لآل البيت، الذين قال فيهم النبى، صلى الله عليه وسلم: «أذكركم الله فى أهل بيتى».
وقال إن الطرق الصوفية تشارك فى هذه الذكرى الجليلة بإقامة الحضرات، وتلاوة الأوراد، وتنظيم مواكب المحبين التى تجوب الشوارع المحيطة بالحسين، وهى تحمل مشاعل النور، وتلهج بالأذكار والصلوات.
وأشار إلى أن الطريقة الشبراوية بدأت، مبكرًا، استعداداتها للاحتفال السنوى بمولد الإمام الحسين، الذى يُعد من أبرز المناسبات الدينية لدى الطرق الصوفية، بمقرها بشارع صلاح سالم، بحضور الآلاف من مريديها وأتباعها، حيث تنظم مجالس ذكر وقراءة قرآن ودروس علمية طوال أيام المولد، فى فضل محبة آل البيت والصالحين.
«السمانية»: الاحتفاء به تعبير عن المحبة وتذكر لنعم الله
رأى الدكتور سيد مندور، نائب الطريقة السمانية، إن الطرق الصوفية فى مصر وسائر العالم الإسلامى ستظل ثابتة على موقفها وطريقتها فى الاحتفاء بآل البيت، لأنها ليس بدعة، بل تعبير عن المحبة، معتبرًا أن ذلك «من صميم الشريعة قبل أن يكون من تقاليد التصوف».
وقال: «رغم محاولات التشويه المستمرة التى يمارسها بعض المتشددين تجاه موالد آل البيت، والهجوم على مولد السيد أحمد البدوى، فإن مشايخ وأتباع الطرق الصوفية يوجهون رسائل واضحة، ورصينة، وذات طابع فكرى وروحى، إلى من يهاجمون الموالد والاحتفالات الدينية، مفادها أن الفرح بآل البيت والأولياء ليس شركًا بل شُكرًا».
وأضاف: «نحتفل بآل البيت حبًا فيهم، لا عبادةً لهم، ونُعظِّم مَن عظَّمه الله، ونجعل من ذكراهم بابًا للتقرب لا للتقديس، وموالد آل البيت تُذكّر الناس بسير عطرة لأهل بيت النبى، صلى الله عليه وسلم، الذين عاشوا فى طاعة الله وجاهدوا فى سبيل الحق، والاحتفال بهم لا يخرج عن إطار ما فعله النبى نفسه، حين كان يصوم يوم الإثنين (لأنه يوم وُلد فيه)، فالاحتفال بمولد ولى من أولياء الله من هذا الباب تذكير بنعمة روحية، لا صنم يُعبد».
وتابع: «التوسّل بالأولياء والصالحين ليس عبادة، والدعاء عند القبور لا يعنى الشرك، والصوفيون يفرقون بوضوح بين التوسل والعبادة، فمن دعا الله عند مقام أحد الصالحين فهو لا يعبد المقبور، بل يستبشر بدعائه عند أهل الفضل، كما فعل الصحابة عند قبر النبى، صلى الله عليه وسلم، وقد أفتى بذلك عدد كبير من العلماء، ومنهم الإمام الشافعى الذى قال: «كنت أزور قبر أبى حنيفة وأدعو عنده، فيُستجاب لى».
0 تعليق