حين تُصبح الجغرافيا خصمًا للثقافة

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الإثنين 20/أكتوبر/2025 - 06:22 م 10/20/2025 6:22:09 PM

فى الوقت الذى تزدحم فيه قاعات القاهرة بالندوات وحفلات التوقيع والأمسيات الشعرية، يجلس أديب فى العريش أو طور سيناء أو الخارجة أمام شاشة حاسوبه أو هاتفه، يتابع من بعيد أخبار الفعاليات الثقافية، وكأنه يشاهد وطنًا آخر لا ينتمى إليه إلا وجدانيًا. فالمسافة بينه وبين العاصمة ليست مجرد كيلومترات، بل مسافة رمزية من التهميش والعزلة والغياب القسرى عن المشهد.
تبدو القاهرة، بحكم التاريخ والمركزية، قلب الثقافة المصرية وملتقى المبدعين، إذ تحتضن المؤسسات الكبرى: الهيئة العامة لقصور الثقافة، والمجلس الأعلى للثقافة، واتحاد الكتّاب، والمكتبات العامة التى تُعد منصّات للحضور والتأثير. غير أن هذا التمركز الشديد جعل المحافظات البعيدة– الوادى الجديد، شمال وجنوب سيناء، مرسى مطروح– كأنها تقف على هامش الخارطة الثقافية؛ يكتب أدباؤها فى عزلة، وينشرون بإمكانات محدودة، وينتظرون دعوة قد لا تأتى أبدًا.
يعانى المبدع فى الأطراف من صعوبات تبدأ بالمواصلات ولا تنتهى عند حدود التهميش. فالمسافة الطويلة، وتكاليف السفر، والأوضاع الأمنية فى بعض المناطق- كما هو الحال فى سيناء- كلها عوامل تعوق مشاركة الأدباء فى الندوات والملتقيات والمؤتمرات الثقافية التى تُقام فى العاصمة أو المدن الكبرى.
ولا توجد آلية ثابتة لدعم سفر المبدعين من المحافظات النائية، ولا ميزانيات تُخصّص لهم للمشاركة فى الحياة الثقافية العامة، وكأنما كُتب عليهم أن يكونوا «أدباءً عن بُعد» فى زمن لا يعترف إلا بالحضور المباشر.
هذه العزلة الجغرافية تُترجم إلى عزلة إبداعية. فالأعمال الأدبية التى تصدر فى الأطراف تصل بصعوبة إلى النقاد أو دور النشر المركزية، ما يُضعف فرص الانتشار والتداول.
ومع ذلك، فإن هذه المناطق تنتج أدبًا ذا نكهة مختلفة، يحمل خصوصية المكان وصدق التجربة. ففى سيناء مثلًا، تتقاطع الجغرافيا مع التاريخ والسياسة لتُنتج سردًا مليئًا بالأسئلة والرموز. وفى الوادى الجديد، تنبثق الحكايات من عمق الصحراء، كأنها صدى لحياة بعيدة عن الصخب لكنها غنية بالمعنى. غير أن معظم هذه التجارب تظل- للأسف- حبيسة حدودها المحلية، لا لضعفها الفنى، بل لعزلة أصحابها عن دوائر الضوء والنقد.
مشكلة المركز والأطراف ليست جديدة فى الثقافة المصرية، لكنها تزداد وضوحًا مع التحولات الرقمية الراهنة. فحتى مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعى والمنصّات الإلكترونية، يظل الفارق كبيرًا بين من يكتب فى قلب العاصمة، محاطًا بشبكة من العلاقات والتفاعلات، وبين من يكتب فى أطراف البلاد، معتمدًا على حوارات عابرة فى الفضاء الافتراضى.
فالأدب يحتاج إلى اللمسة الإنسانية، إلى النقاش الحى، إلى اللقاء الذى يُلهم ويُطوّر، وكل هذا لا يتحقق إلا بالحضور والمشاركة.
ولكى نستعيد العدالة الثقافية، لا بد من إعادة التفكير فى سياسات الانتشار الثقافى. فالثقافة ليست حكرًا على العاصمة، بل هى حق لكل مدينة وقرية فى هذا الوطن.
يجب أن تنتقل الفعاليات بين المحافظات، وأن تُنشأ منصّات رقمية رسمية لعرض أعمال المبدعين فى الأطراف، وأن تُخصَّص منح أو دعم مالى لتسهيل مشاركتهم فى المؤتمرات الأدبية. كما ينبغى على الإعلام الثقافى أن يقوم بدوره فى تسليط الضوء على هذه التجارب المحلية التى تستحق أن ترى النور.
إن ما تحتاجه مصر الثقافية اليوم هو رؤية لا مركزية تُنصف الأطراف وتمنحها صوتها الكامل. فالمبدع فى العريش أو قرى الصعيد أو الخارجة أو سانت كاترين لا يقل موهبة عن نظيره فى القاهرة، لكنه يحتاج فقط إلى جسر يصل صوته بالآخرين، جسر من العدل الثقافى لا من المجاملة.
فى النهاية، ليست المسافة التى تفصلنا عن العاصمة هى التى تُقصينا، بل غياب الوعى بأن الثقافة لا تتنفس من مركز واحد.
فالأدب الحقيقى يولد من كل شبر فى هذا الوطن؛ من المدن الكبرى إلى القرى النائية، من الصحراء إلى البحر، ومن الهامش إلى المتن.
وحين ندرك أن لكل مكان لغته وذاكرته وروحه سندرك أن العدالة الثقافية ليست حلمًا، بل مسئولية وطنية.
 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق