جمال الغيطاني والنسيج.. خيوط الحكاية التي صنعت مشروعه الأدبي

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في ذكرى رحيل الأديب الكبير جمال الغيطاني (9 مايو 1945- 18 أكتوبر 2015)، أحد أبرز وجوه السرد العربي المعاصر، تتجدد الأسئلة حول منابع تجربته الفريدة التي صاغت مزيجًا خاصًا من التاريخ والروح والجمال.

وبينما يتذكره القراء روائيًا ومؤرخًا للوجدان المصري، تبرز علاقته العميقة بالنسيج كأحد المفاتيح لفهم عالمه الإبداعي، سواء في لغته التي تشبه خيوط السجاد اليدوي، أو في اهتمامه بالتراث المادي والرمزي لمصر.

5a10c61717.jpg

نشأ الغيطاني في حي الجمالية، بين الأزقة الضيقة التي تموج بالحرفيين والأنوال والملمس البصري للمنسوجات القديمة. هناك، تشرّب الكاتب حسّه البصري المرهف تجاه اللون والملمس والتفاصيل الدقيقة، كان يقول: “إنني أكتب كما ينسج النسّاج على نوله، خيطًا بخيط، حتى تكتمل الصورة”.

هذا الإحساس بـ"النسيج" لم يكن مجرد استعارة جمالية في كتاباته، بل تحوّل إلى منهج فني في بناء نصوصه، حيث تتشابك الأزمنة والأصوات والحكايات كما تتشابك الخيوط في قطعة من القماش المنقوشة بالرموز.

ارتبط الغيطاني بمتحف النسيج المصري في شارع المعز، وكان من أوائل المثقفين الذين نادوا بإحياء هذا التراث باعتباره ذاكرة حضارية لمصر، تعكس تنوع العصور الإسلامية والمملوكية والعثمانية، وتجسد المهارة اليدوية التي ميّزت الإنسان المصري.

الزيني بركات - دفتر الصوت - جمال الغيطانى - ISBN - ستوريتل

وقد كتب في إحدى مقالاته أن "النسيج هو سيرة الوطن بلغة الخيوط"، معتبرًا أن دراسة المنسوجات توازي قراءة المخطوطات القديمة، فكلاهما يوثقان الهوية المصرية المتجددة.

في أعماله الروائية الكبرى مثل: "الزيني بركات ووقائع حارة الزعفراني ومتون الأهرام"، نلمح حضور النسيج بوصفه رمزًا لفعل الكتابة ذاته. فكل رواية عند الغيطاني تُبنى على طبقات من النصوص، تنسج معًا التاريخي بالمعاصر، والأسطورة بالواقع، والوثيقة بالخيال.

هذه البنية “المنسوجة” جعلت النقاد يصفون أدبه بأنه نسيج سردي معقّد يستعير روح الحرفيين المصريين الذين يغزلون خيوط الحرير والصوف بخبرة وصبر.

متون الأهرام - جمال الغيطانى - مكتبات الشروق

لم يكن الغيطاني أسيرًا للماضي، بل كان يرى التراث “نسيجًا حيًا” يمكن إعادة توظيفه في الحاضر. كان يؤمن أن الهوية المصرية مثل قماش ملون تتجدد زخارفه عبر العصور دون أن يفقد جوهره. ومن هنا جاءت مبادرته في أخبار الأدب لتوثيق الحرف التراثية والموروث الشعبي، ومنها صناعة النسيج والسجاد والكليم، بوصفها جزءًا من روح الإبداع المصري التي لا تنفصل عن الأدب والفن.

يُقال إن جمال الغيطاني كان يكتب بالقلم كما يشتغل النسّاج على نوله، بخطة دقيقة وصبر طويل. لم يكن يؤمن بالعجلة، بل كان يرى أن الكتابة تحتاج إلى “نسيج من الزمن”، وأن النص الجيد لا يولد إلا كما تُولد قطعة نسيج متقنة، بعد جهدٍ طويل وتأملٍ عميق.

العسل».. الذى أفسد صداقة جمال الغيطانى ووحيد حامد فى «حارة الزعفرانى»

ربما رحل جمال الغيطاني عن عالمنا، لكن خيوطه ما زالت ممتدة في ذاكرة الأدب المصري والعربي، ترك وراءه نسيجًا أدبيًا متماسكًا من اللغة والرؤية، جعل من الكلمة خيطًا في نول الوجدان الجمعي.

وفي ذكراه، يبقى السؤال: هل كان الغيطاني أديبًا يكتب عن النسيج، أم نسّاجًا يكتب بالكلمات؟.

ربما كان الاثنان معًا.. فكل نص عنده قطعة فنية، محبوكة بخيوط الحكاية والروح، لا يبهت لونها مع الزمن.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق