أسافر بعيدًا باحثًا عن شىء داخلى، كل ما حولى يلفظنى، حتى تلك الدماء التى تبحر فى عروقى تطرق جدران شرايينى وأوردتى محاولة الهروب من هذا الجسم الذى أمعن فى قيدها، أنفاسى المتصارعة تبحث عن لحظة سكون؛ كى تطفئ لهيبها، وقد ملّت حركة الزفير والشهيق، أرهقها هذا الماراثون الذى يظهر له خط نهاية، كيف أعلم نهايته وأنا غالبًا لا أسمع اسمى إلا قليلًا حتى كدت أنساه؟
فكل الرفاق فى المدرسة يتهامسون: الواد الغريب أو الصعيدى فى إشارة لى، زملائى فى الفصل يتجنبون الحديث معى إلا نادرًا، وغالبًا لا يلتفون حولى إلا إذا أخذوا بعضًا من طعامى اليومى، فكان طعامى مختلفًا عما يأتون هم.
كان أبى يأتى إلينا بأنواع من الجبن التى تحمل أسماء غريبة ولم يكن متعارفًا عليها فى بيوت الواحة، أو بعض المربات المصنعة من التوت أو الفراولة، «من صنع شركات قها أو إدفينا»، كانت هداياه لنا مع كل رحلة عودة من أسفارهم المتعددة خارج الواحة.
كان والدى دائم الترحال كفراشة أعياها التنقل بين جنبات بلاد الله، كنت لا أسمع اسمى إلا منه، كانت السعادة تغمرنى وكأننى عاد إلىّ اسمى بعد رحلة سفر طويلة، بل كانت رحلة قصيرة، فأخلع لقب الصعيدى أو الغريب، وأرتدى اسمى من جديد، وفى المساء أحتمى بأمى حتى أشعر بأننى ما زلت حيًا، لكنها أيضًا تخلع منى اسمى وتلبسنى اسمًا جديدًا محملًا بالحنان والعطف.
كنت أشتاق لنفسى كثيرًا، حينما أسمع القرناء يتحدثون عن أعمامهم أو أخوالهم، أو حتى حين يذهبون إليهم فى الأعياد كثيرًا، كنت أفرح جدًا عندما يمسكون حبات التمر وأبادلهم بقطع الجبن التى غالبًا كنت أزهدها، كنت أتقرب لهم حتى أكسر هذا الجفاء الذى يلفنى، وكانوا هم فرحين أيضًا بقطع الجبن وعبوات المربى أو قطع الحلوى التى يأمرنى أبى بأن أتقاسمها معهم، لكن كانوا ينادوننى بالصعيدى أو الغريب، خاصة عندما يتعثرون فى واجبات الحساب، يبدأون بالهمس، ومع الوقت يتحول همسهم إلى صوت خفيض أكاد أسمعه وهم يناجون بينهم «الواد الغريب شاطر وهيعرف حل المسائل دى».
كانت تمر لحظات أحس فيها بأننى نبت شيطانى فى أرض بور، وفى أى لحظة قد تطمسها تلك الرياح العاتية المحملة بالرمل وغضب الواحة وأهلها نحو الغرباء.
ومرت السنون وزاد عدد الرفقاء، كبرنا وتبدلت لهجة هؤلاء الأطفال بعد أن أصبح عدد الغرباء أكثر من القرناء من أهل الواحة، خاصة بعد أن أتت قوافل التعمير بثمارها، وكان الأمر واقعًا وربما حدث الامتزاج والألفة بيننا، ولو ظاهريًا، ولكن ما زال الحنين يقتلنى بنيرانه التى تأججت داخلى، ما يدفعنى أن أسأل والدى عن أعمامى وأخوالى، وهل لى جد مثل هؤلاء الذين فى شجار بيننا يرموننى بأنى مقطوع من شجرة؟ وبعض الكلمات قد تقتلنى، منها «أنت لاجئ»، لم أكن أعرف معنى لاجئ، وظللت أبحث عن معناها كثيرًا.
ذات مساء قلت لوالدى الأولاد يقولون إننا لاجئون، لحظة سقطت الدموع وتحشرج صوت أبى وأقسم بأننا فى الصباح سوف نسافر وترى أهلك كلهم، وظل يحدثنى عنهم وعن مكانتهم وعن أجدادى، وظل يسرد تاريخ الأجداد بعزة وفخر، وابتسم قائلًا: لا تحزن نحن من شجرة أصلها ثابت لكن قطوفها دانية، لا تبخل فى عطائها.
عندما استقرت أقدامنا فى بلدة أبى أحسست بأننى ما زلت غريبًا، وأننى نبت شيطانى غير مرغوب فيه، فالنسوة كتل سوداء تتحرك بحذر، وكأنّ هناك قيدًا فى أقدامهنّ وحزنًا عميقًا نائمًا فى أرواحهنّ، حتى الصبية يهربون من مواجهتى، ولكن هذه المرة توجسًا منى وليس نفورًا كأولاد الواحة.
مع مرور الوقت كانت ملامح البلدة تتضح أكثر فى عينى، ربما شعاع واهن من الألفة بدأ فى غزو أرواحهم، ما عادت النسوة تتحرج من وجودى وكذلك الأولاد اقتربوا منى كثيرًا، لم أتحايل عليهم كى أشاركهم اللعب، بل كان الكل يتبارى فى اللعب معى أو أصاحبهم فى أماكن كثيرة أجهلها بطبعى، بمرور الوقت أصبحت فردًا منهم، كنت أنصت جيدًا للهجتهم التى صارت مُحببة لى، كنت أستشعر الدفء أثناء حديثهم عن الماضى وعن معالم البلدة وأسرار العائلات.
دومًا كنت أبحث عما يخص جدى وأفعاله، لكن سردهم عنه لم يشفِ لهيب اشتياقى له، كنت مصممًا على الاستماع للمزيد عنه، لم تكن الروايات قريبة، فالبعض يعتبره قديسًا والآخرون يصفونه بالعربيد، لم يزد اشتياقى له سوى زوجة عمى التى كانت تغسل وجهها وتختفى ابتسامتها عندما يتحدثون عنه بسوء، دومًا كانت تقول خالى كان أكرم، وتترحم عليه كثيرًا، توسلت إليها إن كانت تملك صورة له، وعدتنى بأنها سوف تحضر لى صورة لكنها قديمة وباهتة، انتظرت كثيرًا، وكنت أنقش فى ذهنى صورًا كثيرة له، فى كل نقش كنت أستشعر صفة جديدة، حتى كدت أسمع صوته وهو يناجينى فى المساء وأنا وحيد، ويظل يقص لى ما لم أسمعه عنه من أحد.
وكان أبى يتركنى وهو يقوم بواجب الزيارات، فكان طيف جدى يداعب أجفانى، إلا أن أحد الأولاد ذات خلوة مع النفس سمعته يثرثر مع أقرانه عن جدى وعنى، وكان دومًا يطلق علىّ الواحاتى، لكنه يقول إننى شديد الشبه بجدى، كنت أنظر كثيرًا فى المرآة وأدقق النظر فى ملامحى حتى أستحضر جدى الذى لم أعرفه.
0 تعليق