رواية "بعد القهوة" ليست مجرد عمل ينتمي إلى أدب السيرة أو التكوين، بل هي مرآة لرحلة عقل وروح وجسد عبر أربعة عقود، تقاطعت فيها الذاكرة الشخصية بالتاريخ الثقافي والاجتماعي لمصر.
في الرواية ثلاثية يُقدّمها الدكتور عبد الرشيد محمودي كعمل روائي ناضج، شديد الثراء، ينقل القارئ من أزقة قرية مصرية غارقة في الأسطورة، إلى مدن القناة النابضة بالتوتر والتحول، ثم إلى فيينا، العاصمة الأوروبية الهادئة، حيث تتجلى الأسئلة الكبرى عن الهوية والانتماء والحب والمعرفة.
وفي هذه الرواية، يتتبع المؤلف رحلة بطله "مدحت" عبر ثلاثة أجزاء مترابطة: الجزء الأول بعنوان "قاتلة الذئب"، والجزء الثاني "الخروف الضال"، والجزء الثالث "البرهان"، في سرد يمتد زمنيًا لما يزيد على أربعين عامًا.
في الجزء الأول، "قاتلة الذئب"، تتشكل الملامح الأولى لوعي "مدحت" في قرية "القواسمة"، وسط عالم تحكمه الخرافات الشعبية، والعلاقات الاجتماعية الصارمة، وسير الحياة الريفية بكل ما فيها من تناقضات. ويظهر الطفل في مرمى الأسئلة الأولى، حيث تتقاطع البراءة مع الخوف، والدهشة مع القهر، والمرأة مع الحكاية.
ثم يأتي الجزء الثاني، "الخروف الضال"، والذي أتوقف عنده، ليأخذنا إلى مدن القناة، حيث يبدأ البطل رحلته الفعلية في العالم، طالبًا للعلم، باحثًا عن معنى، وتائهًا في تفاصيل العلاقات الإنسانية. وهناك تبدأ الأسئلة الوجودية عن الحب، والجسد، والروح، والانتماء، والنظر إلى الوطن من منظور مختلف، أكثر وعيًا.
كتب في هذا الجزء عن لحظة أولى من الدهشة، عندما أصيب ذات ليلة بالأرق، ونهض عن فراشه، وألقى نظرة سريعة على محتويات الخزانتين المملوءتين بالكتب، ومسح بيده على بعضها، ثم تناول كتابًا صغير الحجم يحمل على غلافه كلمات: "تاييس – لأناتول فرانس".
فتح الكتاب، فقرأ الصفحة الأولى بسهولة، ولم يُطفئ النور إلا قُرب الفجر، بعد أن التهم الرواية. ومن ثم تبدأ مرحلة كمغامرة جديدة في حياته.
ألهبت رواية "تاييس" خياله، وأثارت في نفسه أفكارًا وأسئلة لم تخطر له من قبل.. تتبع باهتمام شديد قصة الراهب بافنوس – الناسك المتعبد الذي كاد يكون قديسًا – في رحلته، بدايةً من صومعته في الصحراء إلى الإسكندرية، من أجل هدف نبيل: أن يعيد إلى حظيرة الإيمان والفضيلة الغانية تاييس، غانية الإسكندرية التي فتنت الناس وأضلتهم عن سواء السبيل.
ورأى كيف تمكن الراهب في النهاية من انتزاع تاييس من حياة الشر والدنس، وأن يهديها، فتُكرّس حياتها من أجله وتصبح قديسة. إلا أن الرحلة، التي حققت الغرض النبيل، تنتهي بسقوط بافنوس، حيث ندم أشد الندم على أنه لم يفز بتاييس، كاتبًا:
"يا لي من مجنون معتوه لأني لم أحظَ بتاييس لما سمح الزمان! يا ويح الجنون! لقد فكرتُ في خلاص نفسي، وفي الحياة الأبدية، كأنما كل هذه الأشياء تعد شيئًا مذكورًا جنب رؤية تاييس! كيف لم أدرك أن السعادة الأبدية إنما هي في قبلة واحدة من قبلاتها، وأن الحياة بدونها لا معنى لها؟"
هنا، توقف الشاب الصغير بطل الرواية متسائلًا:"السعادة الأبدية في قبلة واحدة..؟! ما سر هذا الانقلاب؟!"
فقرّر أن يقرأ الرواية مرة ثانية، كلمة كلمة، حتى يتضح الجواب.. وللأسف، لم يتضح!
وعندئذ يتبيّن أن الرحلة، منذ بدايتها، كانت سيرًا نحو الشر، وأن بافنوس، في كل خطوة، كان يقع – بسبب غروره – ضحية لإغواء الشيطان، فيلتبس عليه الخير بالشر، والإيمان بالشهوة. بل يبدو أن بافنوس ما قام برحلته أصلًا إلا لأنه يشتهي غانية الإسكندرية، وإن خفي عليه ذلك لفترة طويلة.
لقد كانت رواية "بعد القهوة" ناقوسًا يدق ليحذّر الحالمين والواهمين، بأن الحياة ليست طريقًا مستقيمًا، بل دهاليز من الإدراك المتأخر، والحنين، والتساؤل، والدهشة.
فهي تهمس في أذن القارئ بأن الغربة قد تكون أداة كشف، وأن الوطن قد لا يُرى بوضوح إلا من مسافة، وأن الإنسان حين يعبر مسارات الزمن، يحمل معه مزيجًا متشابكًا من الحكاية، والوجع، والمعرفة.
ورغم أن أحداث الرواية تبدأ في قرية "القواسمة" بمحافظة الشرقية، حيث تنبض بالحياة الريفية بكل ما تحمله من بساطة وتعقيد، وتنتهي في فيينا، العاصمة الأوروبية الهادئة، إلا أنها مملوءة بالمواقف والأحداث، وفيض من المشاعر والعواطف المتشابكة والمتصارعة.
يبقى أن أحدثك عن الجزء الثالث من الرواية، وهو بعنوان "البرهان"، حيث تقع الأحداث في فيينا. وهي ليست مجرد رحلة فرد، بل مرآة لأسئلة أوسع تتعلق بالهوية، والانتماء، والثقافة، وموقع الإنسان بين الشرق والغرب ويناقش من خلاله ثنائية الجسد والروح، وعشق الموسيقى، وتنوع المذاقات، بل وطرق الطهو المختلفة، باعتبارها مداخل لفهم الذات والآخر..
الأسبوع القادم، بإذن الله، أُكمل قراءة الرواية الممتعة والشيقة "بعد القهوة" للدكتور عبد الرشيد محمودي