
ألحق الهجوم الإسرائيلى المفاجئ على إيران أضرارًا جسيمة؛ إذ أسفر عن مقتل قادة عسكريين وتدمير البنية التحتية ومقتل مئات المدنيين، لكن ما لم تفعله إسرائيل وربما لا تستطيع تنفيذه دون مساعدة الولايات المتحدة هو تدمير العناصر الرئيسية للبرنامج النووى الإيراني، بما فى ذلك المنشآت النووية تحت الأرض، مثل منشأة فوردو.
ومع تعزيز الولايات المتحدة موقعها وترسانتها فى المنطقة ورغم دعمها الاستخباراتى والعسكرى المقدم لإسرائيل، تنفى واشنطن مشاركتها بشكل مباشر فى العمليات ضد إيران لكن الرئيس ترامب هدد إيران بـ"الاستسلام غير المشروط"، وألمح إلى خيارات أمريكية ضد المنشآت النووية، لكنه لديه تردد حول استهداف قيادة إيران.
وضمن السياق ذاته ولكى تتمكن إسرائيل من تعطيل برنامج إيران النووي، ستحتاج إلى قنابل خارقة للتحصينات من الولايات المتحدة. إضافةً إلى ذلك، ولتنفيذ حملة قصف متواصلة، قد تحتاج إسرائيل إلى مساعدة أمريكية فى التزود بالوقود والخدمات اللوجستية. وبما أن جميع طائرات إسرائيل المقاتلة أنظمة أمريكية الصنع، فقد يحتاج سلاح الجو الإسرائيلى أيضًا إلى مساعدة أمريكية فييما يتعلق بقطع الغيار وأعمال الصيانة.
مقاربات مختلفة
تشن إسرائيل حاليًا حملة قصف وتخريب فى إيران، على أمل تدمير قدراتها العسكرية. وقد ألمح بعض المسئولون الإسرائيليون إلى أن هجماتهم قد تؤدى إلى تغيير النظام فى إيران، على الرغم من الأثر المدمر والمزعزع للاستقرار لمثل هذه الجهود السابقة فى المنطقة. وبالنظر إلى خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو حول استمرار صراع طويل الأمد، فإنه لا يمكن استبعاد احتمال نشوب حرب إقليمية أوسع نطاقًا.
وفى ضوء ذلك، تتحمل الولايات المتحدة مسئولية كبيرة عن الحرب الأخيرة فى الشرق الأوسط. فهى ليست فقط المورد الرئيسى لإسرائيل بالقنابل والصواريخ والطائرات العسكرية، بل تُزوّدها بهذه المعدات بتكلفة زهيدة أو معدومة، كما تدخلت واشنطن فى شئون إسرائيل فى الأمم المتحدة، وسمحت باستخدام الأسلحة التى زوّدتها بها فى القيام بمجازر جماعية فى غزة.
ولعل الاتجاه الأكثر خطورة فى العلاقات الأمريكية الإسرائيلية فى هذه اللحظة هو أن واشنطن تعهدت مرارًا وتكرارًا بدعم إسرائيل كلما وسعت أهدافها العسكرية، حتى عندما نصح المسئولون الأمريكيون إسرائيل بعدم اختيار توسيع نطاق الحرب. لقد عملت إدارة ترامب بشكل أساسى على تمكين التصعيد الإسرائيلى من خلال السماح لحكومة بنيامين نتنياهو بفعل ما تريد فعله فى غزة، دون أى محاسبة أو رد فعل ذى معنى يتجاوز الرفض الشكلي.

كما تم تجاهل النداءات الموجهة إلى إسرائيل بضرورة الحرص على عدم استهداف المدنيين بصورة مباشرة، حيث لقى عشرات الآلاف حتفهم نتيجة للضربات الجوية الإسرائيلية والعمليات البرية فى غزة، بما فى ذلك الهجمات على المستشفيات، وعمال الإغاثة، والنازحين الذين يسعون إلى الحصول على المساعدات الغذائية.
ومن ثم ترى بعض الاتجاهات داخل الولايات المتحدة أنه حان الوقت لواشنطن لوضع مسار جديد فى الشرق الأوسط من خلال منع تقديم المساعدات من الولايات المتحدة إلى إسرائيل حتى تتوقف الحكومة عن توسيع نطاق عملياتها العسكرية الخطيرة فى المنطقة. لكن من غير المرجح أن يتخذ الرئيس ترامب أى إجراء دون ضغط شعبى كبير ومتزايد.
من ناحية أخرى، ترى هذه الاتجاهات أنه يجب أن تتوقف التصريحات الرسمية لواشنطن حول دعم إسرائيل، حتى مع تصاعد حكومة نتنياهو إلى مستويات جديدة من التهور والاندفاع وأنه حان الوقت لصياغة سياسة تقلل من احتمالية نشوب حرب فى الشرق الأوسط بدلًا من تأجيج الصراع من خلال الوقوف فى وجه حكومة نتنياهو بدلًا من تركه يُقرر التدخل العسكرى الأمريكى فى المنطقة.
حرب إيران وتحطيم إرث ترامب
يريد الرئيس ترامب أن يكون قائدًا مُغيّرًا، ولن يكون كذلك فى حال أنه خاض حربًا مع إيران، كما رأت بعض الاتجاهات أن القضاء على إيران قد يعزز فى حظوظ الرئيس السياسية، فى حين رأى البعض أنها قد تُسبب له دمارًا سياسيًا. وقد طرحت هذه الاتجاهات للنظر إلى أبعد من تجربتى جورج بوش الأب وجورج بوش الابن لنرى تأثير الحرب على المصائر السياسية للرؤساء الأمريكيين الذين خاضا حربًا مع العراق واحتله ورأى واحد وسبعون بالمائة من الناخبين أن هذه الحرب كانت ضرورية، إلا أنها تحولت إلى مستنقع للجيش الأمريكى وانخفضت نسبة تأييد الرئيس الأمريكى جورج بوش إلى ٥٠٪ بعد أشهر قليلة من ولايته الثانية وخسر حزبه مجلسى الكونجرس فى انتخابات التجديد النصفى لعام ٢٠٠٦ التى ركزت على الحرب ثم خسر الانتخابات الرئاسية التالية، وقد وجد بوش الابن هزيمة سياسية فى العمليات العسكرية.
خيارات وسيناريوهات
تمثل هذه التجربة معيارًا ومؤشرًا مهمًا فى ظل اتجاه ترامب نحو تُقييم خياراته بشأن التعامل مع إيران، خاصة أن لا أحد يدعى أن الرسوم الجمركية الوقائية قادرة على إعادة إحياء الصناعة الأمريكية فى غضون سنوات قليلة. فاستعادة حدود أمريكا، وجعل سياسة الهجرة فى خدمة المواطن العادى تمثل مشروعات طويلة الأجل أيضًا. ولن يتحقق أى من ذلك فى حال خسر الجمهوريون انتخابات التجديد النصفى لعام ٢٠٢٦، ثم تعثروا فى الانتخابات الرئاسية فى عام ٢٠٢٨.

وفى ضوء ذلك برزت مجموعة من الاتجاهات التى توضح لن تُسهم الحرب مع إيران فى مشروع ترامب، بل قد تُدمره. ويتمثل السيناريو المتشائم فى أن تتسبب الضربات الأمريكية المحدودة فى إحداث حرب شاملة، وتُوسّع إيران نطاق الصراع الآن وهى تواجه تهديدها الوجودى الخارجى الوحيد، والقائم على قصف إيران قواعد أمريكية فى أنحاء الشرق الأوسط. فى حين تقصف الولايات المتحدة منصات وقواعد الصواريخ الإيرانية ومقراتها العسكرية وبنيتها التحتية، وعلى الرغم من هذا التصعيد فإن ذلك لن يساهم فى إقناع طهران بوقف إطلاق النار.
وامتدادًا لذلك، يمكن للولايات المتحدة، من بين أمور أخرى، استخدام قنابل خارقة للتحصينات لاستهداف منشآت نووية تحت الأرض فى إيران. وللقضاء على المجمع النووى تحت الأرض فى فوردو الذى يُفترض أنه الهدف الأهم للجيش الإسرائيلى فى دعم الجيش الأمريكى لامتلاكه القنابل الخارقة للتحصينات ودقيقة التوجيه لتدمير منشأة تخصيب فوردو اليورانيوم فى أعماق الجبل. كما يقوم هذا المسار فى نتائجه على ارتفاع أسعار النفط نتيجة مهاجمة السفن واحتراق ناقلات النفط فى مضيق هرمز أو إغلاقه بما يساهم فى تقليل الاستهلاك ودخول العالم فى حالة ركود، كما أنه من المحتمل مهاجمة الأمريكيين والإسرائيليين ومصالحهم حول العالم.
على الجانب الآخر، هناك اتجاه متفائل يرتكز على أن حملة عسكرية محدودة ستقضى على آخر ما تبقى من البرنامج النووى الإيرانى فالتهديدات المتراكمة تُقنع طهران بأن الردّ الشامل لن يُعرّض النظام إلا لخسائر أكبر. والأفضل من ذلك، أن قادة إيران، وهم يقفون على أنقاض قاعات تخصيب اليورانيوم، يتخلّون عن برنامجهم النووي، ومن شأن هذا المسار أن تلحق هزيمة عسكرية بتغير فى نظام الحكم بعد تصاعد الاحتجاجات الشعبية، وهذا سيناريو متفائل؛ إذ تسير الأمور فى اتجاه مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل.
وضمن هذا السياق، لا يبدو التدخل الأمريكى مرجحًا فى الوقت الحالي. بعدما أبلغ فريق ترامب العديد من شركائه فى الشرق الأوسط بعدم نيته التدخل بشكل فاعل فى الحرب طالما لم تُهاجم أى أهداف أمريكية. ومع ذلك، ثمة مؤشرات على أن الولايات المتحدة تُبقى خياراتها مفتوحة؛ حيث نشر الجيش الأمريكى عشرات الطائرات الناقلة للوقود فى أوروبا، لتسهيل نشرها بسرعة فى الشرق الأوسط عند الحاجة. وتُعدّ طائرات الناقلات مهمةً للوجستيات فى المهام القتالية واسعة النطاق، فهى تُمكّن الطائرات المقاتلة، على سبيل المثال، من البقاء فى الجو لفترات أطول بكثير أو قطع مسافات أطول للوصول إلى الأهداف.
فى حين برز اتجاه آخر يستند على عدم التدخل الأمريكى خاصة بعدما أوضح ترامب أنه لا يريد جرّ الولايات المتحدة إلى حروب جديدة. فالصراعات العسكرية فى أى مكان من العالم لا تتوافق مع سياسته أمريكا أولًا. وبينما يعتمد ترامب على خطاب عدائى وحشد عسكري، يزعم أن هذا الهدف هو الردع؛ حيث لا يرغب فى رؤية الشرق الأوسط مشتعلًا، أو أن يكون سبب فى اندلاع حروب إقليمية أو ارتفاع أسعار الطاقة عالميا بشكل جنوني، وهو ما سيؤثر فى نهاية المطاف على ناخبيه فى الداخل. لذلك، بينما يُعدّ الامتناع عن التدخل العسكرى خيارًا واردًا، فإنّ الانخراط السياسى ليس كذلك، فالحرب وفق أجندة ترامب لابد أن تنعكس بصورة إيجابية على تعديل السلوك الإيرانى من المفاوضات النووية وتعديل سلوكها الإقليمي.
ووفق هذا التصور، قد يبحث ترامب عن إيجاد طريقة لضرب أهداف رئيسية للبرنامج النووى الإيرانى دون الانجرار إلى حرب شاملة وتجنب الصراعات المفتوحة مثل تلك التى شهدها العراق وأفغانستان، التى تعهد بتجنبها.