كيف يمكن ليوم أن يكون مختلفًا عن بقية أيامك؟
يحدث أحيانًا أن تفتح عينيك وأنت فى سريرك، فتداعب وجهك نسمة صباحية، تشعر بها فى التموجات الراقصة للستائر البيضاء قبل أن تلمس وجهك، وترى قمة شجرة «أكاسيا» وفروعها متوجة بزهور عنقودية وردية نابضة بالحياة، وأخرى بيضاء تصالح روحك على العالم، وتتأكد لحظتها من تمايل ذؤابات النخيل وسعفه أن نومك كان عميقًا دون أحلام.
وفجأة تتساءل: «ما الذى أتى بى إلى هذا المكان؟».
الحجرة الواسعة التى تطل بشرفتين على الحديقة، فأرى النيل من ناحية، والمقابر وبيت أبى من الناحية الأخرى، أى أشياء كنت أفتقدها؟ برج الحمام؟ البيت المعزول تحاصره أشباح وحدته وأرواح آلاف الغائبين؟
فى الظهيرة يعود أبى من جولته الصباحية، أجرى عليه، يمسك بيدى ويلف بى، أدور معه، تخايلنى أشعة الشمس، أغمض عينىّ، تتداخل الأشكال، البيت، الأشجار، المقابر، الهواء الذى أحلق فيه، الأرض التى أقاوم جاذبيتها، تنمحى التفاصيل، ولا يبقى غير أبى المتمركز فى وسط الوسعاية الممتدة لأبعد من ضحكاتى أو حتى صراخى.
رق جلدى وشف حتى أبان كل ما يحفظ من لمسات حانية لأصابعه الأربعة تُطمئننى وأنا شاردة فى دوافع السيد الكبير لطلب يدى، أستعيد ذبذبات صوته الدافئ التى تجمعت فى أطرافه:
- يا بنتى لن يغصبك أحد على أى شىء، لن يتم أمر دون رضاك.
ولما طال صمتى..
- لو ترغبين فى ترك البلد نتركها، أنا كل اللى يهمنى راحتك.
هل لا يزال شَعرى يحتفظ بقُبلته الوحيدة على رأسى أم أن ما كان يومًا قمة رأسى أصبح من الأطراف؟ لماذا حدثنى أبى بهذا الشكل؟ ولماذا ترددت؟ ربما لأن ما حدث فاق تصورى، حتى بعد الزواج ظل لدىّ سؤال كلما استيقظت: ماذا أفعل هنا؟ وينازعنى حنين دائم لبيتنا.
مع الغروب يثقل علىَّ إحساس الغربة، البيت الساكن الكامل حيث لا شىء يحتاجنى، الأثاث ثقيل، صامت، ملىء بحواديته التى لا أعرفها، دون شفرة أحاول فك رموزها.
من أين أبدأ؟
تجذبك الكنبة البندقية اللون المطعمة بالفضة، والتى ورثها «فؤاد» عن جدته، هو مشغول بعالمه، وأنت تتململين فى السرير انتظارًا لعودته، تنتقلين إليها، تفتحين الراديو، أم كلثوم تغنى من فيلمها الجديد «هقابله بكرة». ترفعين الخداديات الكتانية المشغولة بغرز وخيوط بدوية، يفاجئك غطاؤها الأملس تفتحينه فتتحول إلى سحّارة تسعك وتستوعب أسرارك، تتأملين الوحدات الزخرفية الفضية التى تشبه أذنًا كبيرة تتكرر بعرض السحارة تبدى استعدادًا دائمًا لالتقاط همساتك، وعلى قاعدة المسند تتجاوز زهرات عباد الشمس منحوتة فى الخشب، وقلوبها ممتلئة بالفضة، تتابعك أينما ذهبت وتبتسم فى وجهك. تبدى ترحيبًا دافئًا بفتاة غريبة.
كم من الوقت تحتاج لتتعرف على عالمك ويصير جزءًا منك ويصبح داخلك؟ حين يتم هذا تكتشف أن كل الأشياء صارت قديمة، وأن بالحياة أشياء أخرى لا تعرف عنها. فمتى اكتشفت أن عالمى صار قديمًا؟ لا أتذكر.. الكهرباء تأكل ظلى على الأشياء، تخفى الأبعاد، تسير وحدك فى أمان دون خوف من ظلك الممتد حتى السقف. الكهرباء تكشف كل شىء، كل الشقوق التى ملأت الجدران، البقع الصفراء، الرشح فى حوائط الحمام، الألوان الكالحة لصالونى القديم.. كل شىء.
يحتاج البيت إلى ترميم وتجديد. كل البيوت التى أدخلها لم يصبها تغيير، كل الأشياء الثقيلة علينا التخلص منها، توسيع النوافذ فى الصالة الكبيرة، ضوء قليل يدخل إليها فتبدو غائمة فى ضباب أبدى. نحتاج لشراء أدوات منزلية لم أكن أعرفها: حلل، أكواب، صوانى تقديم، أطباق فاكهة، راديو، قماش للستائر. مللت بيتى القديم، الأثاث، الأبواب، تعجبت من شجاعتى وقدرتى على الشراء وفتح دولاب الفضيات وتجديده. الفضة دائمًا معدنى المفضل. رغم بريق الذهب المبهرج الذى يبدو لى رخيصًا إلى درجة التقليد.
تبيع الزوجة مصاغها لتساعد زوجها وتشترى من إحدى العربات نفس شكل الغوايش، ولكن بجنيهات قليلة، وترتديها فى الأفراح: «يا ست أهُم منظر».
الذهب لا يحترق ولا يصدأ، لكنه يقوى القلب حتى يميته، تجلس زوجة «النحال» الكبير فى الصالون. تشخلل بأساورها الذهبية وهى تقول: «نريد ابنتكم راوية لابن ابنى عوض».
يترك «فؤاد» القرار لراوية. «منير» و«عاطف» على استعداد دائم للموافقة على ما تريده أختهما، وأنا مترددة لا يوجد فى الشاب ما يعيبه، يدير أعمال عائلته، قليل الكلام، لا يوجد ما يميزه غير خاتم كبير من الذهب يتباهى به. الفضة لا أحد يتباهى بها، لذا تحفظ مكانتها أبدًا بعيدًا عن الغش.