وسط واقع مسرحي يشهد ندرة في العروض الغنائية الاستعراضية على خشبات المسارح المصرية، يظل الحنين قائمًا إلى تلك التجارب الفنية المتكاملة التي جمعت بين الغناء والرقص والتمثيل في إطار درامي محكم ورؤية بصرية ناضجة.
ففي الأوبريتات الكلاسيكية وعروض المسرح الاستعراضي الذهبي، لم يكن الأداء الغنائي أو الحركي غاية في ذاته، بل جزءًا لا يتجزأ من نسيج درامي متماسك، توظف فيه الموسيقى والحركة لخدمة تطور الأحداث، لا للزينة أو الإبهار فقط.
وكان الغناء يكتب ليحرك الدراما لا ليعلق عليها، فيما جاء التكوين الحركي متماهيًا مع الحالة الشعورية للمشهد، ليشكل مع باقي العناصر صورة مسرحية تستدعي التأمل، وتستند إلى الذاكرة الفنية كأداة فاعلة في استحضار المعنى، لا مجرد وسيلة لاستهلاك النوستالجيا.
جاء عرض «نوستالجيا 80 / 90» الذي قدم على خشبة مسرح البالون بالقاهرة (من إعداد وإخراج تامر عبدالمنعم) ضمن فعاليات البيت الفني للفنون الشعبية والاستعراضية، حاملًا في ظاهره رغبة في استعادة روح زمن شكل وجدان جيل بأكمله.
عرض يلوح منذ عنوانه بحنينٍ واضح إلى ماضٍ يبدو أكثر دفئًا وأقل توترًا، في محاولة لتقديم مزيج غنائي استعراضي يمر على أبرز محطات الثمانينيات والتسعينيات في الأغنية، والدراما، والتلفزيون، وكأننا بصدد استرجاع شريط كاسيت مشحون بالعواطف، تعاد به صياغة الزمن المنفلت من أيدينا.
تبدأ الحكاية بشخصية رئيسة واحدة، «خالد محروس» يبدو أنها تمثل «الجيل»، وهو رجل يعيش لحظة انسحاب داخلي من زحمة العصر، فيلجأ إلى استدعاء ماضيه، مستغرقًا في الذكريات، مستعينًا على مرارتها بالأغاني القديمة، والمقاطع التمثيلية، والصور والمواقف التي حفرت نفسها في الذاكرة الجمعية، ومن هنا ينطلق العرض في تقديم فقرات متتابعة، ما بين لوحات راقصة وأغانٍ مأخوذة من أرشيف الفن المصري في الثمانينات والتسعينيات، بالإضافة إلى محاكاة لبعض مشاهد المسلسلات والأفلام والإعلانات والمواقف الساخرة التي ميزت تلك المرحلة، لكن ما إن ينغمس المتفرج في هذه اللعبة الزمنية حتى يكتشف أن ما يقدم أمامه ليس سوى شذرات، كولاج متعجل دون فكر، يفتقر إلى العمق أو الدهشة.
اعتمد العرض بشكل أساسي على لوحات استعراضية ترافق الأغاني والمشاهد القديمة، لكنها جاءت متشابهة في الشكل والإيقاع، دون تنوع حقيقي في التكوين أو الحركة، في أغلب اللوحات شاهدنا نفس التشكيلات ونفس الحركات الراقصة، حتى بدا وكأن كل مشهد يعيد ما سبقه، مع اختلاف بسيط في الأغنية أو الملابس.
غابت المفاجأة والروح التي تجعل كل استعراض يحمل بصمة مختلفة أو يعكس فكرة مرتبطة بمشهد أو زمن معين، كما أن التنسيق الحركي لم يكن محكمًا في بعض المشاهد، مما أفقد اللوحات انسجامها البصري، وظهر بعض الراقصين وكأنهم يتحركون بتلقائية غير منضبطة.
وكان يمكن للاستعراضات أن تكون نقطة قوة في عرض يعتمد على النوستالجيا والذاكرة، لكن افتقارها للابتكار جعلها أقرب إلى مجرد فواصل غنائية، لا تعبيرات مسرحية حقيقية، لم تكن هناك محاولة لتأويل الزمن الراحل بالحركة، ولا لصياغة مشهد يدهش العين أو يحرك الوجدان.
وتزداد المسافة بين العرض والمتلقي حين يلجأ المخرج إلى تقنية «التنكر في شخصيات الفنانين»، فيظهر على المسرح من يقلد عبد الحليم حافظ أو محمد فؤاد أو عادل إمام أو سمير غانم وغيرهم، في محاولات إحياء لا تنبض بأي روح، فالمقلدون لا يقدمون شخصية ولا رؤية، بل يقفون على الحافة بين التهريج والاستعطاف، مما يفقد العرض اتزانه، ويثقل الظل بدلًا من أن يضيء الذاكرة.
جاء الأداء التمثيلي في العرض أقرب إلى الاسترجاع الآلي لمشاهد مألوفة من أفلام ومسلسلات الثمانينيات والتسعينيات، حيث اكتفى الممثلون بإعادة إنتاج «الماستر سين» لكل عمل من خلال محاكاة شكلية لحركات الجسد ونبرات الصوت، دون أي اشتغال حقيقي على البنية الداخلية للشخصيات، ونتيجة لذلك أصبح التمثيل باهتًا، بلا روح أو حضور، وكأننا أمام استنساخ باهت لأصل غائب، يخلو من أي محاولة للتفسير أو التجديد.
افتقر الأداء إلى الإحساس، وجاءت أغلب المشاهد مفتعلة، محملة بمحاولات استظراف بل أثقلت روح العرض وأفقدته صدقه، بدأ الممثلون كما لو أنهم يؤدون واجبًا لا يعيشونه، فتسلل شعور بالتكرار والإرهاق.
في عمل يفترض به أن يحيي الذاكرة، كان على الأداء التمثيلي أن يلمس شيئًا من العمق الإنساني، أو يعيد تأمل تلك المشاهد الشهيرة بعين جديدة، لا أن يكررها كأننا نقلب في قناة قديمة بلا انفعال، لكن ما حدث هو العكس تمامًا استعراض هش للذكريات، بلا حياة.
كانت سطحية الفكرة من أبرز معضلات العرض، فاعتماد قصة نمطية عن شخص يهرب من ضغوط الحاضر إلى ذكريات الماضي لم يقدم أي جديد، فالصراع بين «الماضي الجميل» و«الحاضر المرهق» طرح بشكل ساذج ومباشر، خالٍ من أي تعقيد درامي أو مفارقات تثير التفكير أو تقدم رؤى جديدة حول علاقتنا بالزمن والذاكرة.
كما اعتمد العرض على ديكور إلكتروني قائم بالأساس على تكوينات بصرية من شاشات عرض متعددة، محاطة بألواح عمودية طبعت عليها وجوه شخصيات فنية مألوفة، صنعت معًا خلفية استرجاعية أشبه بـ«كولاج» بصري لذاكرة الشاشة المصرية، وعلى الرغم من هذا الجهد في إحياء الذاكرة، إلا أن التكوين العام ظهر مزدحمًا، يفتقر إلى التنفس المسرحي، كما لو أن الخشبة لم تصمم للعرض بل خضعت للعرض.
لم يسهم الديكور بهذا الشكل في إنتاج معنى بصري جديد، بقدر ما تحول إلى وسيلة تذكير أرشيفية، تغلب فيها حضور الصور على تفاعلية المشهد، بل أن الشاشات في بعض اللحظات حجبت التمثيل الحي خلفها، فغلب الطابع التوثيقي/ النوستالجي على الفعل المسرحي نفسه، وانكمش دور الفراغ المسرحي بوصفه فضاءً دراميًا تفاعليًا.
كانت هناك لحظات يحتاج فيها العرض إلى ديكور أكثر مرونة وتحولًا، يواكب انتقالاته الزمنية والحسية، لكن الثبات الهندسي واللوني لم يواكب طموح العرض الزمني الممتد من الأبيض والأسود حتى أواخر الألفية، وكأن الديكور ظل أسير لحظة واحدة، مهما تعددت الفصول.
على الرغم من كثافة الشاشات التي غطت خلفية المسرح، وما كان يمكن أن تضيفه من حيوية أو تكثيف بصري، فإن استخدامها ظل مجرد وسيلة لعرض صور أرشيفية ومقاطع مرئية، دون توظيف درامي حقيقي، كأن هذه العناصر البصرية وضعت لتأكيد الذكرى لا لإعادة تأويلها، ففقدت طاقتها المفترضة، وتحولت إلى زينة حنينية مغرقة في التصرف المباشر، لم تثري كثافة الشاشات التجربة البصرية، بل أثقلتها بالتكرار، محولة العرض إلى ما يشبه نشرة إخبارية مرئية عن الماضي، تفتقر إلى عنصر المفاجأة والتأويل.
استلهم العرض في تصميم الأزياء ملامح الذاكرة الجمعية، مسترجعًا بصريًا أزياء الشخصيات التي ميزت أعمال الثمانينيات والتسعينيات في السينما والتلفزيون والإعلانات، ليقدم توثيقًا بصريًا دقيقًا، لكنه مال إلى الاستنساخ الفوتوغرافي أكثر من كونه معالجة مسرحية ذات رؤية، فقد أعاد إنتاج الشكل بحرفية، دون أن يفعل هذه الأزياء كأداة تأويلية تحمل دلالات درامية، فبدت أقرب إلى وثائق أرشيفية صامتة منها إلى عناصر نابضة تغني نسيج العرض وتثري معناه.
لكن الإشكال الأعمق تمثل في الخامات المستخدمة، فقد افتقرت إلى الثراء المسرحي، وظهرت باهتة وضعيفة على الخشبة، لا تعكس الإيقاع الحركي ولا تلتقط ضوء الإضاءة بما يمنحها حياة بصرية، وهو ما أضر بالعرض على مستويين: أولًا، كسر وهم الانغماس الزمني الذي حاول العرض استدعاءه، ثانيًا، أضعف من جمالية الصورة الكلية، خاصة في المشاهد الجماعية التي أصبحت فقيرة التكوين، وهكذا، ظلت الأزياء حبيسة التوثيق الشكلي، تفتقر إلى خطاب مسرحي بصري، وتقصي الخشبة عن دورها الخلاق في إعادة إنتاج الزمن لا مجرد استنساخه.
لقد ظهرت الإضاءة في العرض أكثر انشغالًا بصناعة مشهدية احتفالية منها بصياغة طبقات درامية أو إيقاعية للمشاهد، فقد اعتمدت بدرجة كبيرة على الإضاءات المتحركة والليزرية ذات الطابع الاستعراضي، مما قرب العرض من مناخ الحفلات الغنائية أو العروض التلفزيونية المباشرة، وأبعده عن الإحساس المسرحي الحميم والمكثف.
وصارت الإضاءة في لحظات كثيرة مشعة إلى حد التوهج، تغرق الخشبة في بياض مبالغ، وتحجب تفاصيل التكوين أو تعزل الممثلين عن أدوارهم بتحويلهم إلى ظلال في مساحة ساطعة، دون ظلال توحي بالتوتر أو التداخل أو التعبير عن الزمن والمكان، كما أن تكرار نمط الإضاءة دون تنويع دلالي قلل من قدرة العرض على خلق تنقلات حسية بين مشهد وآخر.
بالرغم من الإمكانيات التقنية اللافتة، لم يحسن العرض توظيف هذه الطاقة البصرية في خلق لحظات درامية ضوئية مؤثرة — كاستخدام الإضاءة لتكثيف إحساس النوستالجيا أو إبراز التلاشي أو حتى تجسيد التناقض بين الحلم والواقع — واكتفى بدورٍ زخرفي للإضاءة، مما جعله أقرب إلى عرض ضوئي بصري ساكن منه إلى تجربة مسرحية نابضة بالتعبير الجمالي العميق.
أما الإخراج، فلا يبدو أنه قد مارس فعل «الإخراج» بالمعنى المفهوم، بل اقتصر دوره على تجميع فقرات مشتتة أو «لصق» متتالي لمشاهد مهترئة بعضها فوق بعض، دون خط سردي حقيقي أو تصاعد درامي يخلق توترًا أو يدفع المتلقي إلى الترقب، فالنتيجة كانت عرضًا يتحرك على سطح المعنى، يراوح في مكانه، ويعيد إنتاج العاطفة ذاتها دون أن يضيف لها أفقًا جديدًا.
إن الشخصية الوحيدة في العرض، التي يفترض بها أن تكون الضابط السردي والمحفز العاطفي، جاءت باهتة المعنى، لا تكشف عن صراع داخلي حقيقي، بل تكتفي بإعلان الرفض للمستقبل والحزن على الماضي، في حوار يبدو مألوفًا حتى التآكل، لا يحمل صدمة ولا حتى حنينًا حقيقيًا، بل تكرارًا بلا روح، لم يكن هناك تصعيد درامي، ولا بناء واضح لتلك الشخصية الوحيدة التي يفترض أنها «بطل العرض»، ولا حتى لحظات انتقال مدروسة بين الفقرات، كل مشهد ينتهي فجأة، ويبدأ الآخر وكأننا في «قائمة تشغيل» بلا سياق.
كما أن التعامل مع عناصر العرض الأخرى – الإضاءة، الديكور، الملابس، الشاشة الخلفية – اتسم بقدر من العشوائية، وكأن كل عنصر يعمل وحده، لا ضمن رؤية إخراجية موحدة، والنتيجة: عرض مشوش، لا يحمل مشروعًا فكريًا، ولا اقتراحًا بصريًا، ولا حتى إحساسًا صادقًا بالحزن أو الحنين.
وإذا كنا أمام عرض يفترض به أن يخاطب الذاكرة ويفعل طاقتها، فإن المشكلة الأعمق أنه تجاهل الحاضر تمامًا، لم يطرح العرض أي مقارنة حقيقية بين زمنين ولا رابطًا بينهما، ولم يحمل الذكريات بأسئلة أو مفارقات، بل جعل الماضي ملاذًا بديهيًا، والحاضر ظلًا باهتًا لا وجود له، لم يستطع الإخراج أن يطرح سؤالًا فنيًا أو فكريًا حول الزمن والحنين والهوية، وهذا يفرغ «النوستالجيا» من وظيفتها كوسيط تأملي، ويجعل منها خطابًا مجاورًا لثقافة التباكي، لا الاشتباك.
وإن كانت النوايا الطيبة قد دفعت صناع عرض «نوستالجيا 80 / 90» لاستحضار عبق الماضي الجميل، فجاء المنتج النهائي باهتًا، مثقلًا بعيوب جوهرية حولته من محاولة للاحتفاء بالذاكرة إلى مجرد استعراض سطحي ومكرر لمقتطفات زمنية مضت، العرض الذي قدم تحت مظلة البيت الفني للفنون الشعبية والاستعراضية، سقط في فخ النوستالجيا الاستهلاكية، مكتفيًا باستدرار عواطف الجمهور دون تقديم رؤية فنية متماسكة أو عمق درامي حقيقي.
يكمن العيب الأساسي في هذا العمل في افتقاره إلى العمود الفقري الدرامي، فبدلًا من بناء حبكة متينة وشخصيات نامية، اكتفى العرض بتجميع عشوائي لمشاهد تلفزيونية وأغانٍ ومسلسلات من حقبتي الثمانينيات والتسعينيات.
وبينما تتتابع اللوحات وتتشابه وتفتقد إلى التطور، يفقد العرض مع الوقت قدرته على الإدهاش أو حتى الاستمرار في جذب المتفرج، لتتحول الخشبة إلى مساحة آمنة للمألوف، لا مفاجآت فيها ولا انعطافات، نتابع العرض لا لأننا مأخوذون بما نراه، بل لأننا ننتظر لحظة استحضار ذكرى عزيزة أو نغمة مألوفة، في محاولة بصرية لعلاج غصة وجدانية.
وفي النهاية، لا يمكن إنكار أن جميع المشاركين في العرض قد بذلوا مجهودًا كبيرًا، سواء في الأداء الحركي أو الحضور المسرحي أو محاولات الإحياء الوجداني، إلا أن هذا المجهود، بكل طاقاته، وجد نفسه مبددًا في عرض لا يملك مشروعًا فنيًا حقيقيًا، ولا يقدم معالجة درامية أو بصرية ذات مغزى.
شكل يفتقر إلى الأصالة والعمق والقدرة على التفاعل الحقيقي مع الواقع، لقد أخفق العرض فرصة ثمينة لتقديم رؤية فنية حية قادرة على تحفيز الذاكرة والتساؤل حول علاقتنا بالماضي، واكتفى بدلًا من ذلك بتقديم وجبة عاطفية سريعة الزوال، وهو ما يجعل «نوستالجيا 80 / 90» حالة من الإهدار المحزن للطاقات الفنية المبذولة، التي كان يمكن لها أن تستثمر في عمل أكثر صدقًا، وأشد التصاقًا بما يمكن أن يقدمه المسرح الاستعراضي حين يتحول إلى فن حي، لا مجرد استدعاء وتباكي لذكرى.

