منذ اندلاع المواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل، بدا المشهد كصراع تتداخل فيه الاستراتيجيات العسكرية بالضغوط النفسية، في وقت كشفت فيه التصريحات الحماسية من الطرفين عن فجوة بين الخطاب السياسي والواقع الميداني.
فعلى الرغم من تعهد الطرفين بالاستمرار في الحرب لأسابيع، فإن ما يتحكم فعليًا في إيقاع المعركة هو عامل الذخائر، وبالأخص ترسانة الصواريخ الباليستية والهجومية، ومخزون أنظمة الدفاع الاعتراضية.
نزيف متبادل في الذخيرة
تشير التقديرات الأولية إلى أن إيران بدأت الحرب بمخزون يناهز ألفي صاروخ قادر على الوصول إلى إسرائيل. إلا أن وتيرة إطلاق الصواريخ تراجعت سريعًا؛ من مئة صاروخ في اليوم الأول إلى أقل من عشرة في اليوم الخامس. ووفقاً للخبير العسكري البريطاني أندرو فوكس، فإن إيران استهلكت ما يقارب ربع مخزونها القابل للاستخدام في الأيام الأولى وحدها.
في المقابل، تواجه إسرائيل استنزافًا متسارعًا في منظوماتها الدفاعية، خاصة في صواريخ "Arrow" الاعتراضية، ما أثار مخاوف لدى حلفائها الغربيين، وخصوصاً الولايات المتحدة، التي سارعت لتفعيل جسر جوي لتعزيز المخزونات.
الاستراتيجية الإيرانية.. تصعيد تدريجي وتكتيك الموجات
وفقًا للخبيرة الأمنية الأمريكية إيرينا تسوكرمان، فإن العقيدة الإيرانية لا تستهدف الحسم الفوري بل تقوم على التصعيد التدريجي لتآكل منظومات الدفاع الإسرائيلي عبر موجات متقطعة. لكن هذه المقاربة تعثرت سريعًا بسبب الضربات الاستباقية الإسرائيلية، التي أدت إلى تدمير ثلث منصات الإطلاق في الأيام الأولى.
إيران أطلقت أكثر من 370 صاروخًا حتى 16 يونيو، وهو رقم يقل كثيرًا عن وعودها السابقة بإطلاق ألف صاروخ، ما يعكس إما صعوبات لوجستية، أو نجاحًا إسرائيليًا في تقويض قدراتها الهجومية، أو كلاهما.
تحول في نوعية الأهداف.. من القواعد إلى المدن
في تحول استراتيجي لافت، بدأت إيران في استهداف مناطق حضرية مكتظة مثل تل أبيب وحيفا، بعد أن كانت تركّز سابقاً على منشآت عسكرية بعيدة. هذا التغير يُفسر كمسعى لإيقاع خسائر بشرية مباشرة وزعزعة الجبهة الداخلية الإسرائيلية، بعد إدراك محدودية فاعلية الصواريخ الإيرانية ضد المنشآت المحصنة.
وفي المقابل، اختارت إسرائيل أولوية حماية المنشآت الاستراتيجية على حساب الحماية الشاملة للمدن، ما جعل بعض المناطق عرضة أكبر للخطر.
صراع القدرات
ورغم ضخامة الترسانة الإيرانية، إلا أن التقارير تشير إلى أن نصفها لم يُستخدم بعد، وربما يُخزن في مستودعات تحت الأرض. لكن تآكل قدرات الإطلاق ومنشآت التصنيع، بفعل الضربات الجوية الإسرائيلية، حدّ من القدرة على شن ضربات كثيفة مستمرة.
في المقابل، تمتلك إسرائيل ميزة تكنولوجية وصناعية واضحة، لكنها تواجه حدودًا في عدد الصواريخ الاعتراضية، وارتفاع تكلفة الدفاع: مليار شيكل في الليلة الواحدة فقط. ويخشى بعض المحللين من أن يُصبح ترشيد استخدام الصواريخ أمراً حتمياً، ما يفتح ثغرات في شبكة الدفاع الجوي.
غياب الحسم
فيما راهنت إيران على استراتيجية الردع من خلال العقاب، يتعرض هذا الرهان للتآكل مع ضعف نتائج الضربات، وغياب غطاء جوي فعّال، وانكشاف حدود التحالف مع "حزب الله" والحوثيين. فقد أظهرت عمليات العام الماضي، والضربات الأخيرة، أن وابل الصواريخ الإيراني قد لا يكون كافيًا لكسر الردع الإسرائيلي أو تحقيق مكاسب استراتيجية.
كما أن استخدام صواريخ بعيدة المدى مثل "سجيل-1" للمرة الأولى يعكس حاجة إيران لإطلاق صواريخ من عمق أراضيها بعد تضرر مواقعها الغربية.
نقص في الدفاع الإسرائيلي
وأكدت تقارير استخباراتية أن إسرائيل بدأت في ترشيد استخدام صواريخها الاعتراضية، مما يعكس إدراكها لاحتمالية نفاد الذخائر إذا استمر النزاع بالحدة نفسها. وتعتمد إسرائيل على شبكة دفاع متعددة المستويات (Arrow، وDavid’s Sling، والقبة الحديدية)، إلا أن أنظمة مثل Arrow تُعد باهظة الكلفة وغير قابلة للإنتاج الكثيف، ما يضع تحديًا على قدرة التحمل.
يلعب الدعم الأمريكي دورًا حاسمًا في إطالة أمد قدرة إسرائيل على المواجهة، سواء من خلال الجسر الجوي أو مخزون الذخائر الأميركي داخل إسرائيل. لكن هذه الإمدادات ليست غير محدودة، وقد تؤدي إلى استنزاف الجانب الأميركي نفسه، وفقًا لبعض التقارير.
إضافة إلى ذلك، يلوّح بعض المحللين الأميركيين بخيار التدخل المباشر لتغيير قواعد اللعبة، خصوصاً في حال استهدفت إسرائيل البرنامج النووي الإيراني بضربات جوية مباشرة.
حرب المنصات.. الأهم من الصواريخ
بحسب القائد الاستخباراتي الإسرائيلي السابق آساف كوهين، فإن التحدي الأكبر يكمن في عدد منصات الإطلاق لا عدد الصواريخ. ومع تزايد الضربات الإسرائيلية على تلك المنصات، تصبح قدرة إيران على شن وابل صاروخي فعّال موضع شك. وهذا يدفع طهران إلى تكتيك جديد بإطلاق صاروخين أو ثلاثة في كل مرة، على جبهات مختلفة، لتشتيت الدفاعات الإسرائيلية.
نحو معادلة الردع الجديدة
في ظل تآكل قدرات إيران، واستنزاف الدفاعات الإسرائيلية، قد تتجه الحرب إلى نقطة "الإنهاك المتبادل"، حيث لا يستطيع أي طرف تحقيق نصر حاسم دون تحمل تكلفة باهظة. وبينما تراهن إسرائيل على تفوقها الجوي والدعم الأمريكي، تراهن إيران على استنزاف الإرادة السياسية والاقتصادية لخصومها.
لكن بغياب طرف ثالث قادر على فرض وقف لإطلاق النار، تبقى كل الاحتمالات مفتوحة: من تصعيد قد يطال المنشآت النووية، إلى تهدئة مفروضة بضغط الواقع العسكري والاقتصادي.