في الآونة الأخيرة، شهدت إيران سلسلة من العمليات الدقيقة والمنسقة التي نُسبت لإسرائيل، تراوحت بين اغتيالات شخصيات بارزة، وتسريبات معلوماتية خطيرة، وعمليات اختراق أمني نوعية داخل العمق الإيراني. هذه التطورات ليست حوادث منفصلة، بل تعكس بنية متكاملة من العمل الاستخباراتي المتقن والدقيق الذي يُعدّ الأكبر من نوعه منذ سنوات.
ويُمكن تحليل هذا "الاختراق الواسع" من خلال عدة مستويات مترابطة:
1. ثغرات أمنية داخلية وضعف استخباراتي بنيوي:
عمليات مثل اغتيال محسن فخري زاده، وسرقة وثائق البرنامج النووي الإيراني من قلب العاصمة طهران، كشفت هشاشة في العمود الفقري للأمن الداخلي الإيراني. المؤشرات تشير إلى وجود عناصر مجندة داخل مؤسسات حساسة، بعضها ربما ينتمي إلى أجهزة أمنية أو وحدات علمية مرموقة، تعمل لصالح الموساد أو تنقل معلومات بالنيابة عن جهات خارجية.
الاختراق هنا ليس فقط في المعلومة، بل في الثقة والبنية المؤسسية، إذ لا تزال السلطات الإيرانية عاجزة عن إحكام السيطرة على التسريب البشري.
2. التعقيد الداخلي وكثرة الخصوم:
إيران ليست دولة موحدة عرقياً أو سياسياً، بل تضم فسيفساء من القوميات المهمشة (كالعرب والبلوش والأكراد والآذريين) الذين يشعرون بعدم الانتماء للنظام. إلى جانبهم، توجد جماعات سياسية معارضة مثل "مجاهدي خلق" الذين لعبوا دورًا في تسريب أولى معلومات البرنامج النووي في التسعينيات.
هذا التنوع غير المحتوى يتحول إلى بيئة خصبة لتجنيد العملاء وتغذية التمرّد، خصوصاً في ظل الاستبداد والقمع السياسي. بعض هذه المجموعات تتعاون مباشرة مع أجهزة استخبارات أجنبية لأسباب تتراوح بين الرغبة في الانتقام، أو الرفض العقائدي للنظام القائم.
3. تفوق استخباراتي إسرائيلي مدعوم غربياً:
الموساد الإسرائيلي يعد من أقوى أجهزة الاستخبارات عالمياً، ويتميز بقدرات فائقة في العمل السري والتكنولوجي والتجنيد البشري. سبق له أن وظف أدوات رقمية مثل فيروس “ستاكس نت” لتعطيل البنية التحتية النووية الإيرانية، ما شكّل سابقة نوعية في الحروب السيبرانية.
إضافة إلى ذلك، تتلقى إسرائيل دعماً تكنولوجياً واستخباراتياً مباشراً من الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، ما يعزز من قدرة الموساد على تنفيذ عمليات معقدة داخل الأراضي الإيرانية دون أن يُكشف.
4. شراكات وتنسيقات إقليمية لوجستية:
لا تعمل إسرائيل في عزلة. بل تستفيد من بيئة إقليمية تحتوي على دول لها مصالح متقاطعة مع تل أبيب ضد طهران. بعض هذه الدول، مثل أذربيجان، تؤمن جبهات حدودية رخوة تسمح بنقل معدات أو تسلل عناصر، إضافة إلى توفير منصات للاستشعار والمتابعة اللوجستية.
بعض دول الخليج، ضمن مصالحها في تحجيم النفوذ الإيراني، قد تكون جزءًا من حلقة تنسيق غير مباشر، عبر تبادل المعلومات أو تسهيل الممرات اللوجستية.
5. نزيف التوسع الإقليمي وانعكاساته الداخلية:
الانخراط الإيراني في صراعات الخارج عبر دعم ميليشيات مثل حزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن، والحشد الشعبي في العراق، يشكّل استنزافاً كبيراً لموارد الدولة الأمنية والاستخباراتية.
هذا التركيز المفرط على “حماية عمق استراتيجي خارجي” جاء على حساب الجبهة الداخلية، التي باتت مكشوفة أمام عمليات الاختراق. وفي وقتٍ تشتد فيه الضغوط الاقتصادية والعقوبات، تصبح مؤسسات الأمن الإيراني أقل كفاءة وأكثر عرضة للفشل.
6. الحدود الطويلة والتسلل البشري:
إيران تملك حدودًا شاسعة ومعقدة، بعضها مع دول مضطربة أو ذات علاقات متوترة مع طهران، مثل باكستان والعراق وأذربيجان. هذا الامتداد الحدودي الواسع يشكل ثغرة استراتيجية تمكّن من التسلل وتهريب الأجهزة والمتفجرات وتبديل الأفراد، وهو ما استغله الموساد في تنفيذ عملياته.
هل النظام الإيراني هش؟
ليس بالضرورة. النظام الإيراني ما يزال يحكم قبضته على السلطة ويملك أدوات ردع داخلي فعالة، ويُفكك بانتظام شبكات تجسس ويعتقل عملاء. لكن تعدد الجبهات، والضعف البنيوي في أجهزة الاستخبارات، والتآكل الشعبي والسياسي من الداخل، كلها عوامل تشير إلى أن النظام يواجه تحدياً استخباراتياً استثنائياً.
التفوق الإسرائيلي واضح في هذه الجولة من المواجهة، لكن طبيعة المعركة طويلة الأمد. إيران قد تتراجع مؤقتاً، لكنها تُعيد تشكيل منظومتها الأمنية، وتتعلم من كل ضربة.
ما يجري ليس مجرد حرب ظلّ بين الموساد والحرس الثوري، بل مواجهة استراتيجية حول النفوذ والاستقرار، وتحديد مَن يملك اليد الطولى في معركة الاستخبارات على أرضٍ تغلي بالمتغيرات.