مع قرب حلول الذكرى الثانية عشرة لثورة ٣٠ يونيو، التى شكلت منعطفًا حاسمًا فى تاريخ مصر الحديث، تكشف دراسة بحثية عميقة أعدها القاضى الدكتور محمد عبدالوهاب خفاجى، نائب رئيس مجلس الدولة، تحت عنوان: «جماعة الإخوان: التاريخ السرى لتنظيم استخدم الدين لهدم الدولة»، عن المسار المعقد لهذه الجماعة التى تأسست عام ١٩٢٨ على يد حسن البنا.
تتناول الدراسة بالتحليل الدقيق الأساليب التى اتبعتها الجماعة فى توظيف الدين لتحقيق مكاسب سياسية، مستعرضة جرائمها المحلية والعالمية التى ارتكبتها تحت شعار «المشروع الإسلامى».
كما تبحث فى تأثيرها المدمر على المجتمعات والدول، مع التركيز على بنية التنظيم وتمويله العابر للحدود، وأيديولوجيا العنف التى تبناها، فضلًا عن استراتيجيات الاختراق العالمى التى انتهجها.
فى الجزء الثالث من هذه الدراسة المهمة، التى تنشرها «الدستور» فى السطور التالية، يتعمق الباحث فى تحليل بنية التنظيم وكيفية انتشاره فى أوروبا، مقدمًا رؤية شاملة تستند إلى وثائق وحقائق تاريخية، فى توقيت يتزامن مع ذكرى ثورة شعبية أعادت مصر إلى مسارها الوطنى، وكشفت عن الزيف الكامن وراء شعارات الجماعة البراقة.
انتشرت فى الولايات الأمريكية ودول أوروبا تحت غطاء العمل الخيرى والدينى
قال الدكتور محمد خفاجى إنه منذ خمسينيات القرن الماضى، انتقلت جماعة الإخوان من مجرد تنظيم محلى فى مصر إلى حركة عالمية لها فروع وواجهات فى أكثر من ٧٠ دولة، بما فيها الدول الأوروبية والولايات المتحدة وكندا، واستفادت من البيئة الديمقراطية والليبرالية الغربية لتوسيع نشاطها تحت غطاء العمل الخيرى والدينى.
وأضاف «خفاجى» أن جماعة الإخوان الإرهابية أسست شبكات فى عواصم أوروبا، ففى ألمانيا، كان سعيد رمضان، صهر حسن البنا، من أوائل من أسسوا مراكز إسلامية كبرى مثل «المركز الإسلامى فى ميونخ»، الذى تحوّل إلى منصة لتوسيع نفوذ الجماعة.
وفى بريطانيا، استقر العديد من قادة الإخوان بعد ٢٠١٣، وأنشأوا منظمات مثل «منتدى التفكير الإسلامى»، و«رابطة مسلمى بريطانيا»، وهى منظمات وُجهت إليها تهم الترويج لأجندة سياسية إخوانية.
وفى فرنسا والنمسا وبلجيكا، أسست جماعة الإخوان جمعيات إسلامية كبيرة بإدارة أشخاص مرتبطين بالجماعة، وبعضها حظى بتمويل خليجى- قطرى تحديدًا- معتمدين على فكرة الواجهة الدعوية والمجتمعية، واستخدمت الجماعة المساجد، والمدارس، والمراكز الثقافية كمنصات للتأثير المجتمعى، وقدمت نفسها ممثلًا شرعيًا للمجتمعات المسلمة فى الغرب. وفى الولايات المتحدة الأمريكية، تعمل الجماعة من خلال منظمات مثل: مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية (CAIR)، والجمعية الإسلامية لأمريكا الشمالية (ISNA)، وهى منظمات واجهت اتهامات بدعم أجندات إسلامية سياسية، خاصة بعد أحداث ١١ سبتمبر، ولكن لم تُصنف الجماعة رسميًا منها كمنظمة إرهابية، لكن العديد من السياسيين طالبوا بذلك، ووصفت بعض التقارير الجماعة بأنها «الوجه المقبول للتطرف».
وروجت الجماعة لخطاب مزدوج، الأول داخلى تعبوى وتكتيكى قائم على فكرة «التمكين المرحلى»، وخارجى معتدل يتحدث عن التعايش وحقوق الإنسان.
سوّقت نفسها كبديل معتدل عن الحركات الجهادية وانتهجت خطاب «المظلومية»
شدد الدكتور محمد خفاجى على أن جماعة الإخوان استطاعت بناء علاقات مع بعض الأحزاب اليسارية والليبرالية فى أوروبا عبر خطاب «المظلومية الإسلامية» والدفاع عن «الحريات الدينية»، كما نشطت فى وسائل الإعلام الدولية، حيث تم تقديم كوادرها كـ«خبراء فى شئون الإسلام»، ما منحهم مصداقية مزيفة.
وأضاف «خفاجى» أن هناك العديد من التحذيرات الغربية من المشروع الإخوانى فى عدة دول أوروبية، منها على سبيل المثال تقرير الحكومة البريطانية ٢٠١٥، حيث وصف الجماعة بأنها «تنظيم أيديولوجى يهدف إلى فرض تغيير سياسى واجتماعى يتعارض مع القيم الغربية»، مبينًا أنه فى ألمانيا والنمسا تم حظر عدد من المنظمات التابعة للجماعة، واتهامها بنشر التطرف والتخطيط لخلق مجتمع موازٍ.
وتابع أنه فى فرنسا شُددت الرقابة على الجمعيات الإسلامية بعد مقتل المدرس صامويل باتى، وتم الربط بين الإخوان وبعض مرتكبى الجريمة عبر خطاب تحريض غير مباشر.
وخلُص إلى أن انتشار الإخوان فى الغرب لم يكن محض صدفة، بل هو جزء من مشروع استراتيجى طويل المدى لتقديم الجماعة كبديل «معتدل» عن الحركات الجهادية، مع الاحتفاظ بجوهر أيديولوجى لا يقل خطورة، ومع تصاعد وعى الدول الغربية بخطرهم، بدأت موجة حظر وتضييق غير مسبوقة، تنذر بانحسار نفوذ الجماعة فى فضائها الأهم عالميًا. وكشف عن أنه منذ ستينيات القرن الماضى، بدأت جماعة الإخوان ببناء وجودها فى أوروبا وأمريكا الشمالية، عبر تأسيس منظمات واجهة مثل «اتحاد المنظمات الإسلامية فى أوروبا»، و«مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية (CAIR)، وهذه الكيانات قدمت نفسها كمدافعة عن حقوق المسلمين، لكنها عملت على نشر الأيديولوجيا الإخوانية، وخلق بيئة فكرية تعزز العزلة الثقافية والانفصال عن المجتمع الغربى، ووثّقت تقارير استخباراتية أوروبية هذا التغلغل، محذّرة من استخدام الدين كأداة سياسية لبناء «مجتمعات موازية». وأضاف أن بعض المنظمات الدولية تحولت لأذرع مالية للإخوان، منها «المنظمة الإسلامية للإغاثة» فى أوروبا، التى واجهت اتهامات متعددة بتحويل التبرعات إلى أنشطة تابعة للإخوان، كما أن العديد من الجمعيات الخيرية فى لندن وجنيف تم تصنيفها فى تقارير أمنية كواجهات تمويل غير مباشر.
بنت نظامًا ماليًا يعتمد على شركات الصرافة والتبادل غير الرسمى للتملص من الرقابة البنكية
أوضح الدكتور خفاجى أن حزب النهضة، الجناح الإخوانى فى تونس، وصل إلى السلطة، واتبع نفس الأساليب القديمة مثل اختراق الدولة تحت غطاء ديمقراطى، مع المحافظة على بنية تنظيمية عقائدية مغلقة.
وأضاف أنه فى ليبيا، دعمت الجماعة حكومة فايز السراج، وارتبطت بفصائل مسلحة فى طرابلس ومصراتة، وفى اليمن، كان حزب «الإصلاح» إحدى الأذرع الأساسية للإخوان، واتهم بالتنسيق مع جهات خارجية لتقويض الدولة اليمنية.
وتابع أنه فى سوريا اندمجت جماعة الإخوان فى الحراك الشعبى عام ٢٠١١، ومع اندلاع الاحتجاجات حاولت القفز على الثورة وشكلت واجهات سياسية مثل «إعلان دمشق»، و«المجلس الوطنى السورى» الذى سيطر عليه الإسلاميون، وحصلوا على تمويل قطرى وتركى مكثف لتوجيه الحراك نحو أجندة إخوانية.
وأكمل أن الجماعة تحالفت مع تنظيمات مثل «أحرار الشام» و«فيلق الشام»، والتى ضمّت مقاتلين إخوانيين سابقين أو موالين وتعاونت مع الجماعات الجهادية فى سوريا مثل «النصرة، وداعش، وأحرار الشام»، وأبرمت تحالفات خفية مع أطراف دولية كانت تسعى لإسقاط النظام السورى بأى وسيلة، حتى لو أدى ذلك إلى الفوضى الكاملة، ومارست سياسة «التمكين داخل الثورة» وكانت النتيجة كارثية على الشعب السورى.
وقال إنه مع ازدياد الأدلة على دعم الجماعة للعنف، بدأت عدة دول تصنّفها كتنظيم إرهابى، منها مصر، والسعودية، والإمارات، والبحرين، وسوريا، وفى أوروبا ورغم عدم حظر الجماعة رسميًّا، إلا أن تقارير مثل تقرير البرلمانين الألمانى والنمساوى، حذّرت من أن الإخوان أخطر على المدى البعيد من السلفيين الجهاديين، بسبب قدرتهم على التخفى والتمدد الثقافى والسياسى.
وبين أنه منذ تأسيسها، أدركت جماعة الإخوان أن المشروع الأيديولوجى لا يمكن أن يُبنى إلا على قاعدة مالية متينة، لذا سعت مبكرًا إلى بناء منظومة مالية خاصة بها، تغذى التنظيم داخليًا وتدعمه خارجيًا فى توسّعه العالمى.
وأضاف: «عن مصادر التمويل الداخلى، فإن الاشتراكات الشهرية تلزم كل عضو بدفع نسبة من دخله للتنظيم (تُعرف بالركن المالى)، وهناك أيضًا الجمعيات الخيرية: مثل (رابطة الطلاب المسلمين)، و(جمعية الدعوة)، التى تحصل على تبرعات من عامة الناس تحت غطاء العمل الخيرى، وتضاف إليها المشاريع الاقتصادية المتمثلة فى شركات مقاولات، ومطابع، ومكتبات، ومدارس خاصة تدر دخلًا مستمرًا لصالح التنظيم».
وأكمل: «الجماعة استخدمت نظامًا ماليًا يعتمد على شركات صرافة وتبادل مالى غير رسمى عبر دول مثل: السودان واليمن وماليزيا وإندونيسيا، وهذا مكّنها من التملص من الرقابة البنكية، وتمويل أنشطتها فى مناطق النزاع كـغزة وسوريا، وبعض الوقت سابقًا فى سيناء».
وتابع: «بعد ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣، تم تمويل مظاهرات وأعمال تخريب ممنهج، عبر ضخّ أموال لمجموعات مسلحة صغيرة تنفّذ عمليات نوعية، وهناك تقارير أمنية كشفت عن دعم مباشر لخلايا فى الصعيد والدلتا، وكذلك تهريب أسلحة باستخدام الأموال المقدّمة من الخارج».
وقال إن عدة دول أجرت تحقيقات فى نشاط الجماعة المالى، مثل: بريطانيا، وتحديدًا تقرير عام ٢٠١٥ الذى خلص إلى أن الجماعة تشكّل تهديدًا أيديولوجيًا، وكذلك فى ألمانيا والنمسا، حيث تم حظر جمعيات إخوانية بتمويل خارجى، مردفًا أنه فى مصر وبعد سلسلة من القوانين لقطع جذور الإرهاب صادرت الدولة أموال وممتلكات نحو ١٢٠٠ شخص ومؤسسة مرتبطة بالتنظيم لضلوعهم فى تمويل العمليات الإرهابية.
وواصل: «هكذا يمثّل التمويل الخارجى حجر الزاوية فى بقاء جماعة الإخوان واستمرار نفوذها الإقليمى والدولى، وبما أن مصادر التمويل ظلت محجوبة عبر قنوات معقدة، فإن خطر الجماعة لم يكن فى سلاحها فقط، بل فى قدرتها على تمويل الصراع طويل الأمد ضد الدول والمجتمعات».