في ذاكرة الفنّ اللبناني، أسماء لا تُقاس بعدد الأعمال ولا بعدد الأضواء، بل تُقاس بعمق الأثر… بصدق الحضور… وبالقدرة على أن تظلّ حقيقيًّا وسط كلّ ما تغيّر.
من بين تلك الأسماء، يجيء سمير معلوف كحارسٍ للأصالة، وكصوتٍ لم يُستهلك رغم السنين، بل بقي نقيًّا كما هو، يُشبه خشبة المسرح حين تخلو من الزيف، ويُشبه الميكروفون حين يتلقّف الصدق في نبرةٍ واحدة.
هو الفنّان الذي عبر العقود بخفّة الظلّ وعمق التجربة، من المسرح إلى التلفزيون، ومن الشاشة الكبيرة إلى الأستوديوهات المعتمة حيث تُصنع أصوات الطفولة وأبطال الحكايات. لم يكن يومًا نجمًا استعراضيًا، بل نجمًا داخليًا… يشعّ من الداخل إلى الداخل.
في زمنٍ كان فيه التلفزيون نافذة صغيرة على العالم، كان سمير معلوف من الأصوات والوجوه التي تسكن الشاشة لا لتعبرها، بل لتترك أثرًا في عمق القلب. ممثلٌ بصبر النحات، صوته أداة نحتٍ لا تنكسر، وأداؤه مسمار في جدار الذاكرة. لم يكن يبحث عن الضوء، بل كان الضوء يُفتّش عنه.
منذ ستينيات القرن العشرين، حمل معلوف شعلة الفن في يده ومشى بثبات على طريقٍ صعب، لا يستهويه البريق الزائف بقدر ما تشدّه التفاصيل الصادقة. أطلّ علينا في أعمال درامية كبرى، أبرزها “رسول الخليفة” و*“الشريد الصغير”*، وهما من المسلسلات التي صُوّرت خارج لبنان بمشاركة الراحلَين الأستاذ رشيد علامة والممثلة چلبهار ممتاز، وجالا بها في مواقع متعددة ليكونا بمثابة رسلٍ ثقافيين من لبنان إلى العالم العربي.
وفي بيروت، تألّق في برامج تلفزيونية ذات طابع اجتماعي وفلسفي كبرنامج “البخلاء” و*“علّمتني الحياة”*، إلى جانب الفنان إلياس رزق ونخبة من الممثلين، فشكّلوا معًا ذاكرةً حيّة لا تُنسى من الإنتاجات المحلية الراقية.
لكنّه، رغم حضوره الجسدي في التمثيل، خطف القلوب أكثر حين غاب خلف الميكروفون. في استوديوهات الدبلجة، كان ساحرًا. صوته يتسلل إلى اللاوعي، ويمنح الشخصيات حياة لا تموت. من “سنفور مفكر” و*“سنفور مغرور”، إلى “ماكس تنيسون” في بن 10، و“كوروزاكي”* و*“سينجي”* في سانشيرو، و*“إلمر فاد”* في لوني تونز، كان سمير معلوف يقدّم فنّ الدوبلاج بوصفه تمثيلًا من نوعٍ آخر، لا يقلّ شغفًا واحترافًا عن الوقوف على خشبة المسرح.
أما في السينما، فكان له حضورٌ لافت في أفلام جمعت بين الأسماء الكبيرة والطابع الجماهيري. شارك في “حكاية غرامي” إلى جانب محرم فؤاد ومهى صبري، و*“الحسناء والنمر”* مع النجمة نبيلة عبيد، و*“أبطال وحرامية”* مع الراحلة مديحة كامل، فضلًا عن “مغامرات شوشو” مع الفنان حسن علاء الدين (شوشو)، و*“أهلًا بالحبّ”* مع صباح، عبد السلام النابلسي وفريد شوقي، ما يجعل أرشيفه السينمائي غنيًا بالتنوّع والنجوم.
أما المسرح، فكان بيته الأوّل وعشقه السرمدي. تسع سنوات متتالية أمضاها مع مسرح شوشو في المسرح الوطني – ساحة البرج، حيث جسّد أدوارًا مفعمة بالصدق، وسط جمهورٍ اعتاد أن يشاهده لا كممثل فحسب، بل كرفيق وجدان.
ويظلّ من أبرز إنجازاته التلفزيونية على الإطلاق مشاركته في برنامج “الأمانة” الذي صُوّر في اليونان، واستمرّ تصويره على مدى ثلاث سنوات، منتجًا تسعين حلقة نالت صدى كبيرًا في الوطن العربي، لا سيما في ليبيا والمغرب العربي، وكان لهذا العمل بصمة مميّزة في مسيرته ومسيرة التلفزيون اللبناني.
وربما قليلون يعلمون أنه رفيق الحياة للفنانة الراقية مارسيل مارينا، شريك الروح والموهبة، ما يجعلهما من الثنائيات النادرة التي جمعت الفن بالوفاء، والعطاء بالهدوء.
سمير معلوف هو ذاكرة لا تشيخ، رجل من زمنٍ جميل لم ينقرض بل تسلّل إلينا بصوته، وجعلنا نصدق أن الفن، حين يُمارس بإخلاص، يتحوّل إلى دعاء غير منطوق.
هو الممثل الذي لا يحتاج إلى صخب ليُرى، ولا إلى مشهد بطولي ليُذكر. يكفي أن تمرّ صورته في ذاكرة الشاشة، أو ينساب صوته من خلف شخصيةٍ كرتونية، حتى تهمس الروح: هذا هو… هذا الذي رافقنا دون أن يفرض نفسه.
في زمن السرعة والنسيان، يبقى سمير معلوف أحد أولئك القلائل الذين تركوا خلفهم أثرًا لا يُمحى… لا لأنهم أرادوا المجد، بل لأنهم أحبّوا مهنتهم كما تُحبّ الصلاة الصامتة: بإيمانٍ ونقاء.