وسط تصعيد عسكري غير مسبوق بين إسرائيل وإيران، قاد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حملة عسكرية ودبلوماسية حادة، موجهًا رسالة مباشرة إلى الشعب الإيراني يدعوهم فيها إلى الوقوف ضد "نظام شرير وقمعي"، حسب تعبيره.
الخطاب الذي ألقاه باللغة الإنجليزية عقب سلسلة من الغارات الإسرائيلية، فتح الباب أمام تساؤلات متعددة حول النوايا الحقيقية لإسرائيل: هل تسعى فقط لشلّ البرنامج النووي الإيراني؟ أم أن نتنياهو يسعى لتحقيق هدف أكبر يتمثل في الإطاحة بنظام الجمهورية الإسلامية؟
بين استهداف النووي وتغيير النظام
منذ توليه السلطة، لطالما قدّم نتنياهو إيران على أنها الخطر الأكبر على الأمن الإقليمي والعالمي. وقد واصل خلال الحرب الإقليمية الأخيرة تكرار التحذيرات بشأن البرنامج النووي الإيراني، معتبراً أن طهران على وشك إنتاج قنبلة نووية. هذا التصور مثّل حجر الزاوية في تبرير الهجمات التي استهدفت منشآت نووية رئيسية كـ"نطنز" و"فوردو" و"أصفهان". وفق تقرير لـ ،"بي بي سي"
وفي حين شدد نتنياهو على أن العملية تهدف إلى "تدمير تهديد وجودي"، أشار مراقبون إلى أن تصريحات رئيس الوزراء تحمل مؤشرات تتجاوز مجرد عرقلة التقدم النووي، وصولاً إلى السعي وراء تقويض نظام الحكم في إيران. فقد تحدث عن "تمهيد الطريق لتحقيق الحرية" للشعب الإيراني، وهو ما فسّره بعض المحللين كإشارة ضمنية إلى دعم تغيير النظام.
المؤسسة الإسرائيلية.. حسابات مختلفة
رغم أن نتنياهو يبدو مؤمناً بأن الصراع الحالي قد يُفضي إلى إسقاط النظام الإيراني، إلا أن المؤسسة العسكرية والسياسية الإسرائيلية تركز، بحسب الباحثة سنام وكيل من مركز تشاتام هاوس، على إعاقة البرنامج النووي فقط. وتضيف: "ربما يكون الطموح إلى إسقاط النظام حلماً بعيد المنال في هذا الصراع القصير والمتزايد الحدة".
وحسب "بي بي سي": بينما تتوالى الضربات على المنشآت النووية، تؤكد إسرائيل أن الأضرار جسيمة، فيما تقول طهران إنها محدودة. لكن التصعيد لا يقتصر على البنية التحتية؛ فقد امتدت الضربات إلى العلماء النوويين والقادة العسكريين الإيرانيين، في نهج يستهدف "مصادر المعرفة"، كما تصفه إسرائيل. هذا التوسّع في الأهداف يعكس نهجاً أكثر شمولية من مجرد توجيه ضربات وقائية.
نتنياهو وترامب.. محور القرار
في خلفية هذا المشهد العسكري، تلعب العلاقة الشخصية بين نتنياهو والرئيس الأمريكي دونالد ترامب دوراً محورياً. ترامب، الذي طالما تبنّى موقفاً متشدداً تجاه إيران، تردد في إعطاء الضوء الأخضر لشن الهجوم، إلا أنه في الوقت ذاته، لم يمنعه بشكل حاسم. وأفاد مسؤولون أمريكيون بأن "الإشارة الصفراء" التي صدرت عنه كانت كافية لنتنياهو للمضي قدماً.
غير أن مسار العلاقة لم يكن خالياً من التناقضات؛ فقد حذّر ترامب في البداية من أن الضربات قد تعرقل المفاوضات النووية، قبل أن يشيد بها لاحقاً، بل وتنبأ بـ"سلام قريب" بين إيران وإسرائيل، في منشور غامض على منصته "تروث سوشيال".
ومع تأكيدات بأن مفاوضات سرية كانت جارية في مسقط، بدا أن إسرائيل باغتت الإيرانيين في لحظة كانوا يعتقدون أنها فرصة دبلوماسية. ويرى محللون، من بينهم إيلي غرانميه من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، أن الغارات صُممت عمداً لإفشال جهود ترامب في التوصل إلى اتفاق نووي جديد مع إيران.
التوقيت والدوافع.. هل هو استغلال للفرصة أم تهور استراتيجي؟
يبدو أن إسرائيل اختارت توقيتاً دقيقاً للضربة: بعد انقضاء المهلة الأمريكية التي منحها ترامب لطهران بـ60 يوماً لإبرام اتفاق. فبينما كانت إيران تعارض مطلب واشنطن بوقف كافة التخصيب، حتى في المستويات المنخفضة، كانت الصفقة "قريبة المنال" بحسب مصادر مطلعة، قبل أن تنقلب الطاولة.
ويفسّر بعض المراقبين ذلك بأن نتنياهو قرأ اللحظة السياسية والدولية جيداً، واعتبر أن إغلاق نافذة الاتفاق سيعيد رسم قواعد الاشتباك مع إيران على نحو دائم، خاصة وأنه يرى أن النظام الإيراني بات في أضعف حالاته منذ عقود، سياسياً واقتصادياً.
من خطاب تحرير إلى واقع مقاومة
ورغم محاولات نتنياهو لإيصال رسائل "تحريرية" للشعب الإيراني، فإن الحسابات على الأرض مختلفة. فبحسب الأستاذ فاليري نصر، مؤلف كتاب الاستراتيجية الكبرى لإيران، فإن الشعب الذي يئن تحت وطأة العقوبات والفساد الداخلي، قد يكون ضاق ذرعاً بحكم رجال الدين، لكنه في ذات الوقت لا يرى في القصف الأجنبي وسيلة للتحرر. ويضيف: "عندما تبدأ البنية التحتية للطاقة والكهرباء في الانهيار، ويُقتل المدنيون، فإن الناس لا يرون المعتدي كمحرر".
هذا التحليل يتقاطع مع تقييمات الأجهزة الأمنية الإسرائيلية نفسها، التي ترى أن المراهنة على إسقاط النظام الإيراني من الخارج هي مقامرة خاسرة. ومع ذلك، يبدو أن نتنياهو، وفقاً لأنشيل فايفر، يعيش لحظة "تشرشلية"، ويتصرف باعتباره قائد مهمة تاريخية، مؤمناً أن الضغط المستمر قد يؤدي إلى انهيار النظام في طهران.
سيناريوهات النهاية..واشنطن تملك مفتاح الحسم
وسط كل هذه الاحتمالات، يظل العامل الأمريكي هو الأكثر حسماً في تحديد مآلات الأزمة. فكما يوضح دانيال ليفي، رئيس مشروع الشرق الأوسط الأمريكي، "لن تُحسم هذه المواجهة نهائياً دون تدخل أمريكي مباشر يرسم ملامح النهاية". فهل ستبقى الولايات المتحدة في دور المراقب الحذر، أم أنها ستتدخل لرسم خطوط النهاية؟ هذا ما ستكشفه الأيام المقبلة في صراع تتصاعد حدته، وتتشابك أهدافه، ويقوده رئيس إسرائيلي يراهن على التاريخ.