الثلاثاء 17/يونيو/2025 - 11:10 ص 6/17/2025 11:10:48 AM
فيما عدا سوريا، التي شهدت سماؤها مواجهات، حيث اعترض الجيش الإسرائيلي مسيرات إيرانية فوقها، والتزمت الصمت، ولم تصدر أي بيان تعلق فيها على الأحداث بين إيران وإسرائيل حتى اللحظة.. دانت عدة دول عربية الهجوم الإسرائيلي على إيران، وسط إجماع على أنه يشكل انتهاكًا للسيادة الإيرانية والقانون الدولي.. وكانت مصر الأعلى صوتًا في ذلك، بوصف الخارجية المصرية الهجمات العسكرية الإسرائيلية ضد إيران، بأنها (تمثل تصعيدًا اقليميًا بالغ الخطورة، وانتهاكًا فاضحا للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وتهديدًا مباشرًا للأمن والسلم الإقليمي والدولي).. وحتى لا تأخد طهران دول الخليج بذنب اعتداءات إسرائيل عليها، دانت المملكة العربية السعودية، الهجمات، مؤكدة أنها انتهاك لسيادة الجمهورية الإسلامية والقانون الدولي، وأعربت سلطنة عمان عن إدانتها الشديدة (للعدوان العسكري الغاشم) الذي شنته إسرائيل، وشددت الإمارات العربية المتحدة على (ضرورة حل الخلافات عبر الوسائل الدبلوماسية، بعيدًا عن لغة المواجهة والتصعيد).. وكذلك فعلت قطر والكويت والأردن ولبنان، الذي رأى أن رئيسه، جوزيف عون، أن الاعتداءات الإسرائيلية على إيران استهدفت الجهود الرامية للحفاظ على الاستقرار بالمنطقة.. فيما ذهبت وزارة الخارجية العراقية إلى القول بأن (بيانات التنديد لم تعد كافية، بل يتعين أن يُترجم الموقف الدولي إلى خطوات رادعة وعملية).
ورغم (ادعاء) إيران وإسرائيل عدم سعيهما لحرب شاملة، فإن خطر سوء التقدير أو دورة انتقامية لا يمكن السيطرة عليها، بات مرتفعًا للغاية، ةباتت الحرب بينها تشكّل منعطفًا خطيرًا بالمنطقة، وسط مؤشرات على اتساع رقعتها وتهديدها المباشر لحياة الناس واستقرار دول الإقليم، لأن تطورها قد يعني دخول أطراف دولية كبرى واندلاع مواجهة إقليمية شاملة، خصوصًا وأن الرد الإيراني غير المسبوق، والذي استهدف العمق الإسرائيلي بعشرات الصواريخ، أظهر تحول المواجهة، من مجرد عمليات محدودة إلى ما يبدو أنه بداية لحرب فعلية، وقد بدأت الانعكاسات الفورية لهذا الصراع تظهر في غلق أجواء خمس دول وتعطيل النشاط الاقتصادي.. وقد يشمل اتساع رقعة القصف مدنًا وعواصم في المنطقة، مع احتمالية دخول الولايات المتحدة على خط المواجهة قائمة، رغم محاولاتها التحفظ على المشاركة المباشرة.. وفي حال تحقق ذلك، فإن قواعدها ومصالحها في المنطقة ستكون عرضة للاستهداف، سواء من إيران نفسها أو من حلفائها الإقليميين.
إن قدرات الطرفين على الصمود والتصعيد، تجعل من الصعب التنبؤ بنهاية قريبة للصراع، فهذه المواجهات قد تستمر ما لم يُمارس ضغط دولي وإقليمي حاسم على الطرفين.. إيران تسعى لتحقيق ردع واضح ومؤثر، إذ إن مجرد إطلاق الصواريخ لا يكفي في حسابات صورتها أمام شعبها والعالم.. ولا يمكننا فهم المعركة بين إيران وإسرائيل فقط من منطلق الرد والردع، بل هي صراع على مستقبل الدور الإقليمي، إذ تسعى إسرائيل لتكريس وجودها كقوة مهيمنة لا تُردَع، وإذا نجحت في تحقيق نصر مباشر على إيران ـ بدعم غربي ـ فستصبح لها اليد الطولى في المنطقة، وهو أمر خطير.. وسيعرّض فشل إسرائيل في كبح جماح طموحاتها في المنطقة، وامتلاكها القدرة على استخدام القوة دون ضوابط، دولًا أخرى في الإقليم إلى مصير مشابه لما يُراد لإيران، في ظل خطاب سياسي إسرائيلي، يعتبر بعض دول المنطقة كيانات قابلة للتفتيت والإزاحة.. قد تكون طهران مضطرة للانكفاء مؤقتًا، خصوصًا مع ضغوط الساحة السورية واللبنانية، إلا أن هذه الضربات المتتالية ستدفعها للرد مجددًا قبل التوقف، حفاظًا على هيبتها، وتعكس تصريحات وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، الرافضة للدعوات لضبط النفس، إصرارًا على الرد بقوة قبل أي تهدئة.
●●●
جاءت الضربة الإسرائيلية المفاجئة على إيران، في وقت بالغ الحساسية، قبل أقل من ثمانية وأربعين ساعة من موعد الجولة السادسة من المفاوضات النووية بين طهران وواشنطن، والتي كان من المقرر أن تُعقد الأحد بالعاصمة العُمانية مسقط، ضمن مساعٍ دولية حثيثة لإحياء الاتفاق النووي المتعثر.. وقد ترك هذا التصعيد أثرًا فوريًا على المشهد الدبلوماسي، إذ أعلنت إيران إنهاء مصير المفاوضات، وسط تساؤلات عن مدى جدوى استمرارها في ظل هذه الأجواء المتوترة.. ورغم إعلان السلطات في طهران عدم تسجيل أي تسرّب إشعاعي من المنشآت المستهدفة خارج محيطها، فإن الغارات الإسرائيلية طالت أيضًا أحياء سكنية قريبة من المواقع العسكرية، مما أدى إلى سقوط ضحايا في صفوف المدنيين، وهو ما يضيف بُعدًا إنسانيًا إلى الكارثة، ويزيد من تأجج المشاعر الشعبية داخل إيران.. وفي ضوء هذا التصعيد الخطير والخسائر النوعية التي تكبدتها إيران، ومع استمرار حالة التأهب العسكري في إسرائيل وإيران على حد سواء، تتزايد المخاوف من انزلاق المنطقة نحو مواجهة مباشرة شاملة بين الجانبين، تتجاوز حدود الضربات الموضعية إلى حرب مفتوحة، قد لا تبقى داخل حدودهما الجغرافية فقط.
والمتابع لتطورات المشهد الإقليمي بعد عملية (طوفان الأقصى) الفلسطينية، يمكن أن يلحظ أن المعادلات بالمنطقة دخلت مرحلة جديدة، ومع مرور الوقت أصبحت الأوضاع أكثر تعقيدًا، وكان احتمال التصعيد بين إيران وإسرائيل مطروحا منذ شهور، قبل أن تتجلى مؤشراته بوضوح في الآونة الأخيرة.. فقد تميز الهجوم ضد (السيادة الإيرانية من جانب الكيان الصهيوني) بمستوى غير مسبوق من العدوان، سواء من حيث استهداف المدنيين، بمن فيهم النساء والأطفال، أو من خلال الضربات الموجهة إلى القواعد العسكرية، وعمليات الاغتيال الدقيقة لقادة عسكريين بارزين وعلماء نوويين.. هذا النمط من الهجمات تجاوز الخطوط الحمراء لإيران، ولم يعد بالإمكان التزام ما يُسمى بـ (الصبر الإستراتيجي).. وعليه، فإن (ردًا متكافئًا ـ بل وأكثر قوة ـ بات حتميًا، ومن المرجح أن يكون غير محدود بإطار رد تقليدي).. لذلك، فإن المستوى الحالي من التصعيد الإسرائيلي، يعني عمليًا دخول المنطقة في أجواء حرب شاملة، وإيران ـ على الأرجح ـ ستقدم ردودًا تتجاوز بكثير عمليات (الوعد الصادق 1 و2)، سواء في طبيعته أو مداه، إذ من غير المتوقع أن تكتفي برد محدود أو مواجهات محسوبة.. فهذا التصعيد يتميز عن سابقيه، باحتمال اتساع رقعة المواجهة واستمرارها، بخلاف جولات التوتر السابقة التي كانت سرعان ما تُطوَّق أو (تُفرمل) دبلوماسيًا.
يرى خبراء العلاقات الدولية، أن الهجوم الإسرائيلي على إيران، (لا يُعد فقط جريمة حرب موصوفة، بل يعكس مدى اليأس الذي يعيشه الاحتلال الإسرائيلي بعدما لجأ إلى تنفيذ هجمات إرهابية داخل الأراضي الإيرانية، في محاولة للهروب من هزيمة باتت وشيكة في غزة).. ويُبرز اغتيال إسرائيل للقادة العسكريين والكوادر العلمية البارزة في إيران خلال الأشهر الأخيرة، بوضوح، أن إسرائيل تمارس سياسة اغتيالات منظمة، تنتهك القانون الدولي وتهدد الأمن الإقليمي والدولي.. بينما تعيين المرشد الإيراني للقيادات الجديدة في طهران، يعكس استجابة مدروسة وسريعة من القيادة العليا، ويُرسل رسالة واضحة بأن طهران تتهيأ لأي سيناريو محتمل.. لذلك، فإنه في ظروف يقوم فيها العدو بانتهاك صارخ للقواعد الدولية، فإن الحفاظ على الجاهزية، وإعادة بناء هيكل القيادة بسرعة، وتعزيز قوة الردع، يُعد ضرورة حيوية.. وعلى الرغم من أنه لا يمكن القول بشكل قاطع، إن حربُا شاملة قد بدأت، فإن المؤشرات تدل على أن إيران تتهيأ لكافة السيناريوهات، بما في ذلك المواجهة المباشرة مع إسرائيل.
●●●
في ظل دعم الإدارة الأمريكية لحليفها الإستراتيجي في المنطقة، إسرائيل، الذي تجاوز كل الحدود التي يمكن أن يتخيلها العقل.. وإعلان أوروبي بالانحياز إلى إسرائيل في هجماتها ضد إيران، ودور المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل جروسي السلبي، من خلال تصريحاته التي سبقت الضربة الإسرائيلية، وقال فيها، إن طهران باتت قادرة على صنع سلاح نووي، مما أعطى غطاء سياسيًا غير مباشر للهجوم، وأحبط المفاوضات الأمريكية ـ الإيرانية في سلطنة عمان.. فإنه لا يُتوًقع ردود فعل جدية وخطوات عملية من جانب روسيا، بل ستوقف دورها عند رد الفعل الدبلوماسي وبيانات الإدانة، إذ أن موسكو ستكون إلى جانب إيران في الأمم المتحدة، (التي تعرضت لعدوان)، ومن المتوقع أن تحبط الولايات المتحدة وبريطانيا أي مشروع قرار يدين إسرائيل.
كل ما فعلته روسيا إلى الآن، إدانة وزارة الخارجية الروسية الضربات الإسرائيلية على الأراضي الإيرانية، وقالت في بيان لها (ندين بشدة العمل العسكري الذي قامت به دولة إسرائيل، والذي ينتهك ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي).. وأعربت عن قلقها البالغ من أن تؤدي هذه الهجمات إلى تصعيد خطير للتوتر في الشرق الأوسط، ووصفتها بأنها (ضربات عسكرية غير مبررة ضد دولة عضوة ذات سيادة في الأمم المتحدة، ومواطنيها، ومدنها الهادئة، ومنشآت بنيتها التحتية للطاقة النووية، وهو أمر غير مقبول قطعيًا)، مشيرة إلى أن (تصرفات إسرائيل تزامنت مع انعقاد جلسة لمجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وعشية جولة أخرى من الاتصالات بين طهران والولايات المتحدة بشأن البرنامج النووي، وهذا ما يجعل هذا الهجوم مثيرًا للسخرية).. ولم تنس أن تؤكد أن مسئولية عواقب التصعيد تقع على عاتق القيادة الإسرائيلية لأنها (اتخذت خطوة مقصودة نحو مزيد من تفاقم الصراع)، وتنتظر موسكو من الوكالة تقييمًا موضوعيًا للوضع وتحليلًا شاملًا لعواقب الهجمات على المنشآت النووية في إيران، وأنها تأمل أن يدرك الغرب ـ الذي أثار هستيريا معادية لطهران ـ النتائج الكارثية لسياسته.
وترى روسيا على لسان الخبير في الشئون الشرق أوسطية، أندريه أونتيكوف، أن الهدف من وراء الهجمات الإسرائيلية، ليس البرنامج النووي الإيراني كما يقول رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة، لأن طهران لا تملك المستوى الكافي من اليورانيوم المخصب لإنتاج أسلحة نووية.. يكمن الهدف الحقيقي في محاولة نتنياهو الخروج من الأزمات الداخلية، لأن العملية العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة دخلت في نفق مسدود، فضلًا عن الضغوط التي يتعرض لها من جانب المعارضة والمظاهرات المناهضة لسياساته، وقد وجد نتنياهو المخرج في اللجوء نحو التصعيد من خلال شن الهجمات على إيران، والحصول على نزاع طويل الأمد يمكنه من البقاء في السلطة.. لذلك، جرى تنفيذ الهجمات الإسرائيلية بشكل وترتيبات، تضع رد الفعل الإيراني في سياق العدوان والرد غير المتكافئ، من وجهة نظر المنظومة الغربية، ومن المتوف أن يكون الرد إلإيراني (متناسبًا) مع حجم الضربات الإسرائيلية، وستجد طهران وسيلة لتحقيق ذلك، في ظل محاولة إسرائيل من خلال الشخصيات والمواقع التي استهدفتها، التأثير على الوضع السياسي الداخلي في إيران، أما من الناحية العسكرية، فقد هدفت الضربة إلى التقليل من مستوى القدرات والإمكانيات العسكرية لدى طهران، إلا أن تدمير البرنامج النووي الإيراني بالكامل من خلال الغارات الجوية، أمر مستحيل، فهو (مُشتت ومدفون في أعماق الأرض ومُحصن، ومن المرجح أن تكون لديه قدرة احتياطية وخطط للطوارئ).
صحيح، أن الضربات الإسرائيلية، قد تُعطل بشكل كبير أو تعيق تقدم البرنامج النووي الإيراني لأشهر أو سنوات، إلا أنه سيتم الحفاظ على المعرفة والبنية التحتية الأساسية، مما يسمح لإيران بإعادة بناء برنامجها، بل من المرجح أن يُعزز عزمها على تطوير أسلحة نووية كرادع، وسترد طهران (حتمًا) على الهجوم الإسرائيلي بنفس القوة، لأن خلاف ذلك سيكون ضربة قاسية لسمعتها ونفوذها، اللذين تضررا بالفعل بعد أحداث سوريا ولبنان، خصوصًا وأن العملية الإسرائيلية تقوض بشكل خطير، وربما تدمر في المستقبل المنظور، آفاق استئناف المحادثات النووية، لأن طهران ستعتبر أي هجوم ـ خصوصًا إذا كان مدعوما بموافقة أو رضوخ غربي ـ دليلًا على عدم جدوى الدبلوماسية، وأن أمنها لا يمكن ضمانه إلا بالردع النووي.. وقد أثبتت إيران، رغم الصعوبات الاقتصادية، قدرتها على الصمود في وجه عقود من الضغوط، وبنت جهازًا أمنيًا قويًا وفعالًا في وجه التهديدات الداخلية المعارضة، ومن المرجح أن تعزز هذه الضربات روايتها عن الدفاع عن الوطن من العدوان الخارجي، وحشد الدعم المحلي (مؤقتًا على الأقل)، وترسيخ موقفها.. وفي هذا السياق، لا يعد تغيير النظام هدفًا عسكريًا واقعيًا لإسرائيل.
●●●
يرى الكاتب الأمريكي، توماس فريدمان، أن الهجوم الإسرائيلي الشامل على البنى التحتية النووية الإيرانية، يُضاف إلى قائمة الحروب الحاسمة التي غيرت قواعد اللعبة، وأعادت تشكيل منطقة الشرق الأوسط منذ الحرب العالمية الثانية.. ويوضح فريدمان ـ في مقال له بصحيفة نيويورك تايمز ـ أن الحروب التي يعنيها، هي أحداث باتت معروفة فقط بتواريخها: 1956، 1967، 1973، 1982، 2023، والآن 2025.. وقال إنه من السابق لأوانه، معرفة التداعيات المحتملة للهجوم الحالي على مسار الأحداث في الشرق الأوسط، لكنه رجح أن تمضي الأمور في اتجاهين متناقضين تمامًا، أحدهما اعتبره إيجابيًا للغاية ـ من وجهة نظره ـ وهو (إسقاط النظام الإيراني واستبداله بنظام أكثر لياقة وعلمانية وتوافقية)، والآخر سلبي للغاية، يتمثل في اشتعال المنطقة بأكملها ودخول الولايات المتحدة على خط الأزمة.. وبين هذين النقيضين، لا يستبعد الكاتب الأمريكي ذو الميول الليبرالية، حلًا وسطًا تفاوضيًا مؤقتًا، مبنيًا على كون الهجوم رسالة من الرئيس دونالد ترامب إلى الإيرانيين، مفادها، (ما زلت مستعدًا للتفاوض على إنهاء سلمي لبرنامجكم النووي، وقد ترغبون في ذلك على وجه السرعة.. أنا في انتظار مكالمتكم).
وفي تفاصيل تداعيات ودلالات الهجوم الإسرائيلي على إيران، يرى فريدمان، أن ما يجعل الصراع بين إيران وإسرائيل عميقًا إلى هذا الحد، هو سعي إسرائيل لمواصلة القتال هذه المرة، حتى تتمكن من القضاء نهائيًا على البرنامج النووي الإيراني.. وفي هذا الصدد، أن إسرائيل كانت تصوب سلاحها نحو البرنامج النووي الإيراني عدة مرات خلال الخمسة عشر سنة الماضية، ولكن في كل مرة كانت تتراجع في اللحظة الأخيرة، إما تحت الضغوط الأمريكية وبسبب عدم ثقتها بقدراتها العسكرية، ومن ثم فإن ما يحدث حاليًا قد يعتبر نتيجة طبيعية لذلك المسعى الإسرائيلي.. وإذا نجحت إسرائيل هذه المرة في إلحاق الضرر بالمشروع النووي الإيراني، بما يكفي لإجبارها على وقف عمليات التخصيب ولو مؤقتًا على الأقل، فإن ذلك من شأنه أن يمثل مكسبًا عسكريًا كبيرًا لإسرائيل.. لكن الأمر المهم، هو التأثير المحتمل للصراع على منطقة الشرق الأوسط، خصوصًا على ما يصفه فريدمان بـ (النفوذ الإيراني الخبيث) في العراق ولبنان وسوريا واليمن، حيث قامت طهران برعاية وتسليح مليشيات محلية للسيطرة بشكل غير مباشر على تلك البلدان.
بدأ تراجع النفوذ الإيراني في المنطقة بقرار رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بقطع رأس مليشيا حزب الله وشلها، وكان من نتائجه في لبنان وسوريا، تشكيل حكومات تعددية وانتعاش حالة الأمل، رغم أن البلدين لا يزالان في حالة ضعف.. لذا، فإن نتنياهو، على الصعيد الإقليمي، يتصرف دون التزام بقيود أيديولوجية أو سياسية، أما في تعامله الداخلي مع الطرف الفلسطيني، فإن قراراته، خصوصًا منع إقامة دولة فلسطينية، تتأثر برغبته في البقاء في السلطة باعتماده على اليمين المتطرف، ولذلك، أغرق الجيش الإسرائيلي في رمال غزة المتحركة، وذلك (كارثة أخلاقية واقتصادية وإستراتيجية) على إسرائيل.
وتساءل فريدمان: كيف كانت المعلومات الاستخباراتية الإسرائيلية عن إيران جيدة، لدرجة أنها حددت مواقع عدد من كبار القادة والضباط العسكريين الإيرانيين وقتلتهم؟.. إلا أنه سُرعان ما يرد بأن الإجابة عن هذا السؤال توجد في مسلسل )طهران) الذي تبثه منصة Apple TV Plus، عن عميل إسرائيلي للموساد في طهران.. ويستخلص فريدمان من ذلك المسلسل، مدى استعداد عديد من المسئولين الإيرانيين للعمل لصالح إسرائيل، بسبب كرههم الشديد لحكومتهم، وهذا يُسهّل على إسرائيل تجنيد عملاء في الحكومة والجيش الإيرانيين على أعلى المستويات.. وإذا ما فشلت إسرائيل في هذه العملية العسكرية، وخرج النظام الإيراني جريحًا، وتمكن لاحقًا من استعادة قدرته على بناء سلاح نووي، فإن السيناريو المحتمل في نظر فريدمان، هو حرب استنزاف طويلة الأمد بين جيشين قويين في المنطقة، وبالتالي استمرار حالة الاضطراب وتفاقم أزمة النفط، وربما إقدام إيران على مهاجمة الأنظمة العربية الموالية لواشنطن، والقوات الأمريكية في المنطقة.
في هذه الحالة، فلن يبقى أمام إدارة الرئيس دونالد ترامب، سوى التدخل بشكل مباشر، ليس فقط لإنهاء تلك الحرب، ولكن من أجل القضاء على النظام الإيراني، وهذا سيناريو لا أحد يمكن أن يتكهن بتبعاته.. ويبقى هناك أهم درسين يمكن استخلاصهما من التاريخ، هما: أن أنظمة شبيهة بإيران تظل تبدو قوية إلى أن تفقد قوتها وتنهار بسرعة.. أما الدرس الثاني، وفقًا لفريدمان، فهو أن نهاية الاستبداد في الشرق الأوسط لا تعني بالضرورة قيام الديمقراطية، بل إن البديل قد يكون حالة اضطراب طويل.. وبقدر ما يجاهر الكاتب برغبته في سقوط النظام الإيراني، فإنه يحذر من تداعيات ذلك على المنطقة والإقليم.
●●●
من وجهة نظر مغايرة لفريدمان، تذهب الكاتبة والصحفية الأمريكية، بيلين فرنانديز، مؤلفة كتاب (المنفى: رفض أمريكا واكتشاف العالم)، أنه بشن إسرائيل ضربات غير مسبوقة على إيران، مما أسفر عن مقتل مدنيين إلى جانب مسئولين عسكريين كبار وعلماء، فإنها وضعت الحكومة الإيرانية فعليًا في موقف لا بد أن تردّ فيه، وكأن ما يجري في الشرق الأوسط ليس كافيًا، لا سيما مع الإبادة الجماعية المستمرة التي تمارسها إسرائيل بحق الفلسطينيين في قطاع غزة.. قالت إن إسرائيل أصبحت تعيش على الفوضى الدائمة والقتل الجماعي، بينما تواصل تصوير نفسها كضحية لأولئك الذين تذبحهم وتستفزهم بانتظام.. وكما هو متوقع، صوّرت إسرائيل إيران الآن على أنها المعتدية، مدعية أن أسلحة إيران النووية ـ غير موجودة ـ تشكل (تهديدًا لبقاء إسرائيل نفسها)، كما صرّح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في بيانه الذي أعلن فيه عن إطلاق (عملية الأسد الصاعد) ضد إيران.. بل إنه وعلى عكس إيران، تمتلك إسرائيل بالفعل أسلحة نووية، مما يجعل الوضع أكثر قابلية للاشتعال.. لكن بالنسبة لنتنياهو، فإن إبقاء المنطقة مشتعلة، هو وسيلة لإنقاذ نفسه من المعارضة الداخلية وتورطه في تهم فساد متعددة.
ومع أن الولايات المتحدة نفت أي تعاون لها في الهجمات الإسرائيلية، فإن الرئيس دونالد ترامب قال بالأمس القريب: إن (ضربة إسرائيلية لإيران قد تحدث فعلًا).. وكان ترامب قد تفاخر في مارس، بأنه (يرسل إلى إسرائيل كل ما تحتاجه لإنهاء المهمة) في غزة، لكنه أثار مؤخرًا غضب نتنياهو بدعوته إلى حل دبلوماسي مع إيران، إلى جانب خطوات أخرى، رآها نتنياهو غير عدائية بما فيه الكفاية.. وبإطلاقها ما يسمى (ضربة استباقية) على إيران، تكون إسرائيل قد أجهضت فعليًا إمكانية التوصل إلى أي حل سلمي، لمسألة ما إذا كان يجب السماح للإيرانيين بمواصلة برنامجهم لتخصيب اليورانيوم لأغراض مدنية.. وكان ترامب قد أكّد، يوم الأربعاء الماضي، أن الطاقم الدبلوماسي والعسكري الأمريكي يُنقل من بعض مناطق الشرق الأوسط، (لأنها قد تصبح خطرة، وسنرى ما سيحدث).
لكن الولايات المتحدة ليست غريبة على استهداف المصالح والأفراد الإيرانيين.. نتذكر جميعًا عملية اغتيال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، التي نفذتها الولايات المتحدة بطائرة مسيّرة في يناير 2020، والتي لم تكن سوى ترسيخ إضافي للمعايير المزدوجة للإمبراطورية.. وقعت عملية الاغتيال في بغداد خلال الولاية الأولى لترامب، وشكّلت انتهاكًا للقانون الدولي، وهو ما ليس استثناءً في السياسة الخارجية الأمريكية.. وقد كانت العملية مثيرة للغاية، بالنسبة لأعضاء الإعلام الليبرالي في الولايات المتحدة، حتى إن صحيفة (نيويورك تايمز) نشرت بسرعة مقالًا لرئيس قسم الشئون الخارجية لديها، يقول فيه، إنّه (ربما يطلق اسم ترامب على أحد شوارع طهران يومًا ما).. وذلك اليوم لم يأتِ بعد، رغم أن ترامب كان سيُنظر إليه، ربما، بأقل قدر من العداء في طهران، لو أنه التزم بسياسة (أمريكا أولًا)، التي تُعد حجر الأساس لإدارته الثانية.. وكما يوحي اسمها، فإنّ هذه السياسة تدّعي التركيز على المواطنين الأمريكيين واحتياجاتهم، بدلًا من قصف الناس في بلدان أخرى.. ومع ذلك، فإن التأييد ـ ولو الضمني ـ الذي أبداه ترامب للهجمات على إيران، يثير تساؤلات حول أولويات الولايات المتحدة، ويثير احتمال أن تكون الولايات المتحدة تضع (إسرائيل أولًا).
الواقع، أن هذه ليست المرة الأولى التي يُتّهم فيها البيت الأبيض بتقديم أهداف السياسة الإسرائيلية على حساب مصالحه الخاصة.. فالمليارات التي منحتها الإدارات الجمهورية والديمقراطية، على حد سواء، لإسرائيل كمساعدات فتاكة، لا يمكن القول بأنها تفيد المواطن الأمريكي العادي، الذي سيكون أفضل حالًا لو أنفقت تلك المليارات في الإسكان المُيسّر، أو الرعاية الصحية في الولايات المتحدة نفسها.. ومن الطبيعي أن تؤدي هذه الترتيبات المالية، إلى إطلاق شائعات، بأن إسرائيل هي من تملي الأوامر في واشنطن.. لكن في نهاية المطاف، تستفيد قطاعات رئيسية من الرأسمالية الأمريكية من وحشية إسرائيل في المنطقة؛ فلن تسمع، مثلًا، من صناعة الأسلحة الأمريكية شكوى، بأن الهجوم على إيران لا يضع أمريكا أولًا.
●●●
لم يستبعد خبراء ومحللون سياسيون، إمكانية دخول حلفاء إيران في المنطقة على خط المواجهة العسكرية مع إسرائيل، التي تسعى بكل الطرق لإقناع أمريكا بالمشاركة المباشرة في الصراع.. إذ بث الأداء الصاروخي الإيراني القوي دماءً جديدة في حلفاء إيران، أو ما كان يُسمى محور المقاومة، في كل من لبنان والعراق واليمن على أقل تقدير، لكن ضمن (هندسة جديدة).. ومن الوارد جدًا احتمال دخول هؤلاء الحلفاء لمساندة إيران في حربها ضد إسرائيل، بل ربما يكون قريبًا، في ظل تصريحات قادة الحرس الثوري، الذين تحدثوا عن هذا الخيار كأمر مطروح على الطاولة.. إلا أن توقيت دخول الحلفاء مرتبط بمجريات المعركة، ومرهون بتصاعد الهجمات الإسرائيلية، ورغبة إيران أن تعزز موقفها في هذه المواجهة.. ويعتبر دخول حزب الله إلى المواجهة مسألة وقت، بينما ستصبح مشاركة أنصار الله (الحوثيين) أكبر، باستخدام أدوات ووسائل جديدة في المواجهة، مع إمكانية ظهور مفاجآت من أماكن أخرى.
هذا السيناريو، تخشاه إسرائيل منذ البداية.. وبناءً على هذه المخاوف، وسعيا لحرمان إيران من دعم حلفائها، عملت إسرائيل وبكل ما أوتيت من قوة، خلال الاشهر الماضية، على إضعاف حلفاء إيران في لبنان، خصوصًا حزب الله، ووجهت ضربات لهم في سوريا بُعيد سقوط نظام بشار الأسد، كما شنت هجمات على جماعة الحوثيين في اليمن، الذين واصلوا طوال الثمانية عشر شهرًا الماضية، استهداف إسرائيل بالصواريخ والمسيرات، أسنادًا للمقاومة الفلسطينية في قطاع عزة.
ولا تتوقف جهود إسرائيل لمنع تدخل حلفاء إيران بالمنطقة في الحرب الدائرة، بل إنها تسعى إلى جر الولايات المتحدة الأمريكية للانخراط في الحرب مباشرة وعلنًا، وتعتمد عدة سياسات لمحاولة جر واشنطن لهذه الحرب.. تكمن الطريقة الأولى، في إقناع الولايات المتحدة أن العمل العسكري مُجدٍ، وأن ما تقوم به إسرائيل لا يتطلب تكاليف باهظة، مع التأكيد أن دخول أمريكا، يمكن أن يمنع الصواريخ المتجهة لإسرائيل.. وتقوم الطريقة الثانية، على تقديم عرض مغرٍ لواشنطن، بأن لديها الآن خيارًا تاريخيًا للمساهمة فقط بتدمير المشروع النووي الإيراني، بينما تترك لإسرائيل تدمير القدرات الصاروخية والعسكرية الإيرانية.. وتركز الطريقة الثالثة، على محاولة إقناع الرئيس دونالد ترامب، بعدم الانضمام إلى المعركة بكل تفاصيلها، وإنما الانضمام فقط لقضية محددة، وهي تدمير المشروع النووي الإيراني.
لكن الولايات المتحدة تريد كل شيء مجانًا، وترامب يريد أن تتنازل إيران عن ملفها النووي دون مقابل، وبدون ضغوط.. لذلك، فإن ترامب قد يكون أعطى الضوء الأخضر لإسرائيل بمهاجمة إيران، أو أُقنع بأن هذا هو الطريق الوحيد لفرض السلام بالقوة، بعد أن وجد الطريق مسدودًا لإجبار إيران على التنازل.. وعليه، فإن ترامب يواجه حيرة حقيقية.. فهو لا يستطيع الكف عن تأييد إسرائيل لأنها تنفذ له ما أراد، ولا يستطيع المضي في مشاركتها، لأن هذا سيورطه في قتال مباشر، وهو ما يتناقض مع وعوده الدائمة بالسلام ونبذ الحروب.. لكن هدف الولايات المتحدة في منع إيران من امتلاك وسائل القوة، لا سيما النووية والصاروخية، سيحتاج في لحظة ما إلى تدخل أمريكي مباشر، خصوصًا وإسرائيل تطلب من الولايات المتحدة مساعدتها، بتدمير محطة (فوردو) النووية الإيرانية، التي تقع تحت الأرض، وتمتلك واشنطن قنابل قادرة على الوصول إليها.
ومع دخول الحوثيين رسميًا في دائرة التصعيد، باتت المواجهة تتجاوز إطارها التقليدي بين طهران وتل أبيب، مما ينذر بتحولها إلى صراع إقليمي متعدد الجبهات.. إذ أعلنت جماعة الحوثي اليمنية، الأحد الماضي، أنها استهدفت منطقة يافا بعدة صواريخ باليستية، في هجوم تم بالتنسيق مع طهران.. وبهذا فإن دخول الحوثيين على خط المعركة، يفتح مرحلة جديدة من التصعيد الإقليمي، ويعزّز فرضية (جبهة متعددة الأطراف) ضد إسرائيل.. في كلمة متلفزة بثّتها قناة (المسيرة)، أعلن زعيم جماعة أنصار الله، عبد الملك الحوثي، تأييده الكامل للرد الإيراني على إسرائيل، مهددًا بما وصفه بـ (حرب مفتوحة وطويلة الأمد) ضد تل أبيب. وأن اليمن سيكون جزءًا من أي معركة مصيرية يخوضها (محور المقاومة).
في بغداد، دعت الحكومة العراقية إلى اتخاذ خطوات رادعة لإيقاف الاعتداء، مطالبة مجلس الأمن الدولي بـ (الانعقاد الفوري واتخاذ إجراءات حاسمة وملموسة لردع هذا العدوان، وضمان عدم تكراره، واستعادة هيبة النظام القانوني الدولي)، مؤكدة التزامها الثابت بمبادئ السيادة وعدم استخدام القوة وتسوية النزاعات عبر الوسائل السلمية.. ودان حزب الدعوة الإسلامية ما سماه بـ (الاعتداء الغاشم الصهيوني) على إيران، وقال (نثق في قدرة وعزيمة الشعب الإيراني على رد العدوان والدفاع عن سيادته ومواقفه المستقلة)، وعدَّ رئيس تيار الحكمة، عمار الحكيم، أن هذه الهجمات تصعيد خطر ومقصود، يهدف إلى جر المنطقة نحو مزيد من التوتر والعنف.
بدأت ملامح تداعيات الهجوم تنكشف تدريجًا في العراق، إذ أعلن المجلس الاقتصادي العراقي تأجيل انعقاد ملتقى العراق للاستثمار إلى إشعار آخر، وألغى الحشد الشعبي جميع الفعاليات الخاصة بالاحتفال بذكرى تأسيس الحشد.. وتعتبر العراق الخاصرة والحلقة الأضعف داخل المنطقة، إذا ما تطورت الأمور صوب الانفجار الأمني والعسكري، و(ما زال القائد العام يواصل فشله الذريع في لجم ألسنة زعماء الميليشيات، التي عرضت أخيرًا خدماتها لمصلحة طهران)، إذ تتجاوز هذه الميليشيات على السلطات الدستورية للقائد العام، وكذلك على مؤسسات الدولة، وعلى رأسها مجلس النواب الذي منحه الدستور حصرًا، الحق في اتخاذ قرار السلم والحرب.. وقد يبدو أنها تعلمت من دروس بقية الساحات التي كانت مرتبطة بها، لكن في بغداد، فإن هذا لا يكفي ليطمئن مسئولوها، أن الميليشيات لن تورط البلاد في أزمات المنطقة، لأنها، وكما يعرف الجميع وكما تعلن هي بنفسها، لا تلتزم بقرار الدولة ومؤسساتها الدستورية، كون سلاحها وولائها إلى المرشد الإيراني، ومصالح المرشد لا تتطابق مع مصالح العراق في هذه الأزمة على وجه التحديد.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.