إيران تحت النار

إيران تحت النار

الإثنين 16 يونيو 2025

رئيس مجلسى الإدارة والتحرير

عبدالرحيم علي

رئيس التحرير

داليا عبدالرحيم

رئيس مجلسي الإدارة والتحرير

عبدالرحيم علي

رئيس التحرير

داليا عبدالرحيم

سياسة

الإثنين 16/يونيو/2025 - 10:14 م
ايران
ايران
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في ذروة التصعيد المتواصل بين إيران وإسرائيل، تتجه أنظار العالم إلى احتمالات اندلاع حرب إقليمية كبرى، قد تعيد رسم خارطة الشرق الأوسط بأكملها. لكن خلف هذه الجبهة الصاخبة، ثمّة ما هو أكثر خطورة وأبعد أثرًا: تفكك الداخل الإيراني ذاته. فالحرب الخارجية، وإن بدت صراعًا بين دولتين، إلا أنها تُطلق في إيران شرارات قد تُلهب الداخل، وتكشف هشاشة البنيان الوطني الذي طالما حاول النظام الإيراني إظهاره موحدًا ومتماسكًا.
تعيش إيران على توازن هشّ بين المركز القوي والأطراف المهمّشة. وعلى مدى عقود، اعتمدت طهران على القمع والتهميش لضبط التنوع العرقي والديني داخل البلاد، دون أن تُقدم نموذجًا سياسيًا جامعًا يعترف بهذه الفسيفساء المتعددة. ومع كل أزمة كبرى، تعود هذه التوترات إلى السطح، وتصبح قابلة للانفجار في أية لحظة. واليوم، مع تصاعد الهجمات والضربات المتبادلة، تبدو الأطراف الإيرانية على وشك التحول من جبهات خامدة إلى بؤر توتر ملتهبة.

هل يُسرّع التصعيد مع إسرائيل تفكك الداخل الإيرانى؟
التحولات الكبرى في الإقليم، بما فيها التهديدات التي تستهدف منشآت نووية ومراكز عسكرية داخل إيران، لا تؤثر فقط على الحكومة المركزية، بل تخلق فراغات أمنية وشعورية في الأقاليم التي طالما شعرت بالغربة عن "دولة المركز". فحين يشعر المواطن البلوشي أو الكردي أو العربي الأحوازي أن طهران عاجزة عن حمايته، بل ربما غير معنية بمصيره، تبدأ خيارات "الانفصال النفسي" عن الدولة في التبلور، وقد تتطور إلى تحركات فعلية على الأرض.
من هنا، لا يمكن قراءة الصراع بين إيران وإسرائيل كحدث منعزل، بل كأزمة مركبة تمس الداخل الإيراني بنفس عمقها الخارجي. فالضربات لا تُحدث ثقوبًا في المنشآت فحسب، بل تفتح جروحًا قديمة في النسيج الوطني، وتمنح الأقليات المهمّشة لحظة نادرة للمطالبة بحقوقها أو للتمرد على واقعها. وهذا ما يجعل السؤال المركزي في هذه المرحلة يتجاوز الحسابات العسكرية: هل إيران مهيأة لصمود داخلي في وجه تصعيد خارجي؟ أم أن الحرب قد تُسرّع لحظة الانفجار التي ظلت مؤجلة لعقود؟
التصعيد العسكري يكشف الهشاشة الداخلية
مع دخول المواجهة بين إيران وإسرائيل مرحلة أكثر علنية وخطورة، بدأت التحذيرات الإسرائيلية تتخذ منحى غير مسبوق، إذ دعت المدنيين الإيرانيين إلى إخلاء المناطق المحيطة بالمنشآت النووية والعسكرية. هذا التحذير، الذي نُشر باللغة الفارسية، لم يكن موجهاً إلى الحكومة الإيرانية فقط، بل إلى الشعب مباشرة، في خطوة تعكس بوضوح أن الحرب دخلت مرحلة الضغط على الداخل الإيراني، وجعل المواطن في قلب المعادلة الأمنية والعسكرية. في المقابل، سارعت الحكومة الإيرانية إلى طمأنة مواطنيها، فدعتهم للاحتماء في المساجد والمدارس ومحطات المترو، وهو ما يحمل في طياته إقراراً ضمنياً بخطورة الوضع وغياب الحماية الكافية.
هذه الإجراءات الطارئة كشفت عن هشاشة في بنية الدولة الإيرانية، التي وإن كانت تُظهر قدرات أمنية واستخباراتية كبيرة في الخارج، إلا أن قدرتها على حماية مواطنيها في الداخل تبدو محدودة وغير منظمة، خصوصًا في حالات التصعيد العسكري المباشر. فالدعوة إلى اللجوء للمساجد والمدارس – مؤسسات مدنية غير مجهزة للحرب – تؤكد غياب بنية دفاع مدني محدثة وشاملة. كما أن هذا الإجراء يعكس حالة من الارتباك، حيث لم يُعلن عن مراكز إيواء أو خطط إجلاء رسمية، ما يعزز الشعور بأن إيران، رغم صلابتها الخطابية، تُفاجأ بواقع ميداني قد يعصف بأمنها الداخلي.
إيران ليست دولة قومية متجانسة، بل كيان متعدد الأعراق والطوائف والمذاهب، قامت وحدته التاريخية على مركزية فارسية شيعية قوية، استخدمت القمع والاحتواء والتهميش لضبط بقية المكونات. في الأوقات العادية، ينجح هذا النموذج السلطوي في فرض الاستقرار، لكن في أوقات الأزمات الكبرى – كما في الحرب الراهنة – تعود التوترات القديمة إلى السطح. الأكراد، البلوش، العرب الأحوازيون، الآذريون، والتركمان، كلهم يعيشون على الهامش، جغرافيًا وسياسيًا، ويشعرون أن المركز لا يمثلهم، بل يقمعهم. ومع تعرض الدولة لهجمات خارجية، يتضاعف الشعور بالخذلان، ما يفتح الباب أمام حالات تمرد أو تفكك كامنة.
يبقى السؤال المحوري: هل تستطيع إيران، وهي تواجه تصعيدًا عسكريًا مباشرًا من قوة إقليمية كبرى مثل إسرائيل، أن تُحافظ على تماسكها الداخلي؟ التجربة تُشير إلى أن الدول التي تشهد هذا المستوى من التنوع الإثني والديني تحتاج إلى نظام سياسي مرن ومتصالح مع التعدد، لا دولة مركزية أمنية تقوم على الإقصاء والتخويف. ومع غياب هذا النموذج في إيران، يصبح الداخل الإيراني أشبه بفسيفساء هشة، تنتظر فقط اللحظة المناسبة لتتشقق، لا سيما إذا طال أمد الحرب أو تحوّلت الضربات الخارجية إلى ضغوط يومية على حياة المواطن في الأطراف أكثر من المركز.
خارطة الأعراق: أرضية خصبة للتمرد
في ظل التصعيد العسكري المتواصل بين إيران وإسرائيل، وما يحمله من تهديدات مباشرة للبنية التحتية الحيوية داخل البلاد، تزداد المخاوف من أن يتجاوز أثر الحرب الساحة العسكرية ليكشف هشاشة الداخل الإيراني المتعدد عرقيًا ومذهبيًا. فإيران، التي لطالما اعتمدت على القبضة الأمنية المركزية لضبط مكوناتها المتنوعة، تقف اليوم أمام اختبار حقيقي، حيث قد تتحول خطوط التماس العرقية والطائفية إلى جبهات موازية في حال تخلخلت سيطرة طهران على الأطراف. وتقدم خارطة الأعراق في البلاد صورة معقدة لتوزيع الهويات والانتماءات التي قد تنفجر سياسيًا أو أمنيًا مع استمرار الضغط الخارجي واتساع رقعة الاضطرابات.
الأحواز: قنبلة موقوتة على حافة الخليج
إقليم خوزستان، أو ما يعرف تاريخيًا بـ"الأحواز"، يمثل أحد أكثر المناطق حساسية في إيران، ليس فقط بسبب موقعه الجغرافي الاستراتيجي على الخليج العربي، بل أيضًا لغناه الفاحش بالنفط والغاز، ما يجعله شريانًا اقتصاديًا حيويًا للدولة الإيرانية. ورغم هذه الأهمية الاقتصادية، يعاني سكان الإقليم – وهم من العرب السنة – من تهميش ممنهج سياسيًا وثقافيًا واقتصاديًا، إذ تُفرض عليهم الهوية الفارسية بالقوة، ويُحظر عليهم استخدام لغتهم في التعليم أو الإعلام المحلي، ما يولد شعورًا مستمرًا بالاغتراب عن الدولة المركزية.
في كل مرة تمر فيها إيران بأزمة كبيرة، سواء اقتصادية أو أمنية، تتصاعد في الأحواز موجات الغضب الشعبي، التي غالبًا ما تُقابل بعنف وقمع من الحرس الثوري. ومع اشتداد التصعيد العسكري الحالي، خاصة مع استهداف منشآت استراتيجية داخل الإقليم، تتضاعف المخاوف من أن يتحول هذا الغضب المزمن إلى تمرد مفتوح، لا سيما إذا ما استُشعر فراغ أمني أو تراجع للسلطة المركزية. وفي ظل الحديث عن دعم خارجي محتمل لحركات المعارضة العربية الأحوازية، تصبح المنطقة مرشحة لأن تكون نقطة الاشتعال الأولى في حال تفاقمت الحرب وتوسعت رقعتها.
البلوش والهامش الذي لم يُرَ
تقع محافظة سيستان وبلوشستان على الحدود الشرقية لإيران، وهي موطن لعرقية البلوش، التي تعتنق المذهب السني وتعيش في واحدة من أفقر المناطق وأكثرها تهميشًا في البلاد. رغم اتساع رقعة المحافظة جغرافيًا، إلا أن التنمية فيها شبه منعدمة، وتُعاني من غياب البنية التحتية، وانتشار البطالة، ونقص الخدمات الصحية والتعليمية. وعلى مدى العقود الماضية، فشلت الدولة المركزية في إدماج البلوش ضمن مشروع وطني حقيقي، بل تعاملت معهم كخطر أمني دائم، ما عمّق من شعورهم بالعزلة القومية والمذهبية، ورسّخ لديهم وعيًا جمعيًا بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية.
البلوش ليسوا مجرد جماعة مهمّشة، بل هم جماعة ذات تاريخ طويل من التمرد، ويمتلكون تنظيمات مسلحة صغيرة لكنها نشطة، دأبت على مهاجمة مواقع للحرس الثوري في الإقليم. وبحكم موقعهم الحدودي مع باكستان وأفغانستان، فإنهم يتصلون بجذور عرقية ومذهبية خارج إيران، ويُعتقد أن بعض حركاتهم قد تلقت دعمًا من قوى إقليمية معادية لطهران. في ظل التصعيد العسكري مع إسرائيل، وإذا ما تزايد الضغط الأمني وانشغلت الدولة بجبهات أخرى، فقد يرى البلوش في هذه اللحظة فرصة سانحة لتوسيع تمردهم، وإعادة طرح مطالبهم التاريخية، سواء بالحكم الذاتي أو بالاستقلال الكامل، مستفيدين من الفوضى المحتملة واهتزاز قبضة المركز.
الأكراد الإيرانيون: تنظيمات ذات امتدادات إقليمية
يتمركز الأكراد في شمال غرب إيران، خاصة في محافظة كردستان ومناطق من أذربيجان الغربية وكرمانشاه، ويشكلون واحدة من أبرز الأقليات القومية داخل الدولة الإيرانية. يتمتع الأكراد بوعي قومي عميق، تدعمه لغة وهوية ثقافية متميزة، وينتمون إلى حركة كردية أوسع تتجاوز حدود إيران، تمتد إلى العراق وتركيا وسوريا. هذه الهوية العابرة للحدود تمنحهم شبكة دعم معنوي وتنظيمي قوية، حيث يتعاونون مع فصائل كردية إقليمية كحزب العمال الكردستاني (PKK) ووحدات حماية الشعب (YPG)، بينما يقود حزب "الحياة الحرة الكردستاني" (PJAK) النشاط السياسي والمسلح داخل الأراضي الإيرانية، ويشتبك دوريًا مع الحرس الثوري.
على مدار العقود الماضية، أظهر الأكراد الإيرانيون قدرة على التحرك في لحظات ضعف المركز، سواء خلال الحرب الإيرانية-العراقية أو في فترات الاضطراب الداخلي. واليوم، في ظل التصعيد العسكري المباشر مع إسرائيل، وتزايد التهديدات للعمق الإيراني، قد يرى الأكراد أن لحظة الفوضى تقترب، ومعها فرصة لتثبيت مكاسب سياسية أو جغرافية. فالمطالبة بالحكم الذاتي، وهي مطلب قديم يتجدد كلما ضعفت طهران، قد تتحول من شعار سياسي إلى مشروع ميداني، خاصة إذا انشغلت الدولة بجبهات خارجية، ووجد الأكراد دعمًا أو حتى تغاضيًا إقليميًا ودوليًا عن تحركاتهم. هذا الاحتمال يفتح الباب أمام تغيرات جذرية في الخريطة السياسية لإيران، تبدأ من أطرافها.
الحرب كعامل كاشف للتصدعات
الحروب لا تُنتج الأزمات البنيوية، لكنها تكشفها وتسرّع انفجارها. هذا هو الدرس الذي تؤكده تطورات المشهد الإيراني الراهن. فمع كل صاروخ يسقط، وكل انفجار يهز منشأة عسكرية، تتراجع صورة الدولة الإيرانية كقوة صلبة ومتماسكة، وتبرز بدلاً منها حقيقة بلد يقوم على توازنات دقيقة بين المركز ومحيط متعدد الأعراق والمذاهب. التصعيد العسكري مع إسرائيل لم يضرب فقط المنشآت النووية أو العسكرية، بل مزق الستار عن هشاشة البناء الداخلي، وأظهر أن استقرار طهران لم يكن نابعًا من رضا شعبي واسع أو ولاء قومي موحد، بل من قبضة أمنية مطلقة ظلت تضغط على نقاط التوتر دون معالجتها.
الإعلان الحكومي عن فتح المساجد والمدارس ومحطات المترو كملاجئ للمواطنين، وإن بدا إجراءً إنسانيًا في ظاهره، يحمل في طياته إقرارًا ضمنيًا بعدم قدرة مؤسسات الدولة التقليدية على التعامل مع سيناريو تصعيد شامل. هذه الدعوات لا تعني فقط توقّع السلطات لهجمات جديدة، بل تعكس قلقًا من أن تتجاوز تداعيات الضربات العسكرية الطابع الدفاعي إلى فوضى مجتمعية أوسع. وفي بلد مثل إيران، حيث تتراكم المظالم العرقية والمذهبية والاقتصادية منذ عقود، فإن مثل هذه الفوضى قد تصبح بيئة مثالية لانفجار تمردات كامنة طالما تم احتواؤها بالقمع وحده.
الحرب إن طالت، لن تبقى على حدودها المرسومة بين إسرائيل وإيران كدولتين. بل ستعيد ترسيم حدود النفوذ والولاءات داخل إيران ذاتها. الأقاليم المهمشة، التي طالما عانت من إقصاء وتهميش، ستجد في تشتت المركز فرصة لإعادة طرح قضاياها بقوة، وربما بسلاحها. وهو ما يجعل الأطراف الإيرانية – من خوزستان إلى كردستان، ومن سيستان إلى أذربيجان – مرشحة لأن تتحول إلى جبهات داخلية موازية، تستهلك موارد النظام وتشتته بين الداخل والخارج. ومع كل تصعيد، تتقلص المسافة بين "جبهة الحرب" و"جبهة التمرّد"، ويزداد احتمال أن تتحول الضواحي المتوترة إلى خطوط نار.
في سيناريو حرب ممتدة، قد تجد السلطة المركزية في طهران نفسها أمام معضلة مزدوجة: الضغط العسكري الخارجي، والانفجار الاجتماعي الداخلي. فكلما زادت حاجة النظام إلى التركيز على جبهاته الخارجية، ضعفت قبضته الأمنية على الداخل، خصوصًا في المناطق ذات النزعة الانفصالية أو الاحتقان الطائفي. ومع غياب مؤسسات محلية قادرة على ضبط الأوضاع بشكل مستقل، وانعدام الثقة بين السكان والسلطة المركزية، فإن الانفلات الأمني يصبح مسألة وقت لا أكثر. ومن هنا، تتحول الحرب إلى لحظة كاشفة: إما تعيد ترتيب الداخل الإيراني على أسس جديدة، أو تدفعه إلى حالة من التشظي يصعب التحكم في مآلاتها.
هل الحرب هي اللحظة الحاسمة؟
تعيش إيران في هذه المرحلة أخطر لحظة استراتيجية منذ نهاية الحرب مع العراق. لكنها اليوم لا تواجه خصمًا خارجيًا فحسب، بل تخوض صراعًا على الشرعية داخل حدودها. تتلقى الضربات من الخارج، بينما تنهار تدريجيًا الثقة في الداخل، ليس فقط في قدرتها على الصمود عسكريًا، بل في قدرتها على تمثيل شعبها والدفاع عن وجوده. الحرب هنا لا تكشف ضعف البنية التحتية فقط، بل تُعرّي الأزمة الأعمق: أزمة العلاقة بين الدولة ومكوناتها السكانية المتنوعة التي لم تجد فيها مظلة حقيقية لحمايتها أو تمثيلها.
في الأزمات الكبرى، تسقط الحيادية، وتُضطر الجماعات المهمشة إلى تحديد موقفها من الصراع. ومع استمرار الحرب واتساعها، قد تجد بعض الأقليات العرقية والمذهبية في إيران نفسها مضطرة للخروج من موقع المتفرج إلى موقع الفاعل. ليس بدافع الاصطفاف مع الأعداء الخارجيين، بل من باب استثمار لحظة تاريخية نادرة، حين تكون الدولة المركزية مشغولة بحماية نواتها الصلبة، وغير قادرة على ضبط الأطراف. وعند هذه النقطة، يصبح التمرد فعلًا عقلانيًا، لا انحرافًا، وفرصة سياسية أكثر منه مغامرة عسكرية.
تكمن الخطورة الحقيقية في أن اللحظة الحالية قد لا تقود إلى تمرد منظم أو حركة قومية واضحة المعالم، بل إلى نوع من التفتت الفوضوي، حيث تتحرك المجموعات على الأرض دون قيادة مركزية، وتتوزع الولاءات بحسب من يوفر الحماية أو الموارد أو مجرد فرصة للنجاة. هذا النمط من الانفجار يضع الدولة أمام معضلة أعقد: فبدل أن تواجه جبهة موحدة يمكن التفاوض معها أو قمعها، تجد نفسها أمام فسيفساء من الفاعلين المحليين، لكل منهم أسبابه ودوافعه، وكل منهم يملك نقطة اشتعال خاصة به.
لذلك، فإن الحرب الجارية لا تهدد فقط الأمن الإيراني أو نفوذه الإقليمي، بل تضرب في عمق سؤال الهوية الوطنية. في حال طال أمد الصراع، أو خرجت الأمور عن السيطرة، قد تجد إيران نفسها مضطرة – لأول مرة بجدية – إلى إعادة النظر في طبيعة العلاقة بين المركز والأطراف، وفي نموذج الدولة الأحادي الذي فُرض لعقود بالقوة. وإذا ما فشلت في ذلك، فإن الحرب قد لا تكون مجرد أزمة عابرة، بل لحظة ولادة مؤلمة لكيان جديد، أو على الأقل تفكك تدريجي لكيان قائم لم يعُد قادرًا على التكيف مع واقعه المتغير.
لا يمكن الحديث عن التصدعات الداخلية في إيران دون التوقف عند البعد الاقتصادي، الذي يشكّل عصب الاستقرار الاجتماعي والسياسي. فالعقوبات الغربية، والانهيار المتواصل للعملة الإيرانية، وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين، كلها عوامل تجعل الداخل الإيراني قابلًا للاشتعال حتى دون وجود حرب. وفي ظل التصعيد الحالي مع إسرائيل، فإن استنزاف الموارد في جبهات الخارج سيؤدي بالضرورة إلى تفاقم الأزمات المعيشية، وهو ما قد يدفع فئات أوسع من السكان، لا سيما في المدن الكبرى، إلى النزول إلى الشارع، ليس فقط احتجاجًا على الوضع الاقتصادي، بل على النظام نفسه، كما حدث في احتجاجات ٢٠١٩ و٢٠٢٢.
من جهة أخرى، لا يمكن إغفال أثر الجيل الجديد من الإيرانيين، الذي نشأ على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وتفتح وعيه السياسي والثقافي في زمن الانكشاف الإعلامي والتمرد على السلطة. هذا الجيل، الذي لا يُعير كثيرًا من الولاء للشعارات الثورية القديمة، يُبدي استعدادًا أكبر لكسر الحواجز التقليدية والمشاركة في حركات الاحتجاج، سواء لأسباب سياسية أو ثقافية أو حتى بيئية. ومع تصاعد التوترات، قد يلعب هذا الجيل دورًا فاصلًا في رسم معالم المرحلة القادمة، لا عبر الانخراط في حركات انفصالية، بل بالمطالبة بإعادة صياغة الدولة من الداخل، على أسس أكثر ديمقراطية وتعددية.
يُضاف إلى ما سبق، العامل الديني الذي قد يتحوّل من عنصر تعبئة لصالح النظام إلى عنصر انقسام داخلي. فمع تصاعد الغضب الشعبي وتزايد الفجوة بين المؤسسة الدينية الرسمية والشارع، خصوصًا في الأوساط الشيعية غير المسيسة، بدأ يظهر تيار نقدي داخل الطائفة نفسها، يطالب بفصل الدين عن الحكم، ويُحمّل الطبقة الدينية مسئولية الفشل السياسي والفساد. هذا التحول الداخلي قد يفتح بابًا جديدًا من التصدع، ليس بين الطوائف فقط، بل داخل الطائفة الشيعية نفسها، التي طالما اعتُبرت حاملة شرعية النظام الثوري.
أخيرًا، يجب النظر إلى مستقبل إيران في ضوء المتغيرات الإقليمية والدولية. فالتغير في مواقف قوى كبرى مثل روسيا أو الصين، أو تغير ميزان القوى في الخليج، قد يعيد رسم خطوط التحالفات ويُسرّع أو يُبطئ من وتيرة التفكك المحتمل. كما أن صعود حركات انفصالية أو احتجاجية داخل إيران قد يُغري أطرافًا إقليمية بالتدخل، إما لدعمها أو لاستخدامها كورقة ضغط. وبالتالي، فإن المشهد الإيراني لا ينفصل عن محيطه، بل يتفاعل معه في إطار لعبة إقليمية معقدة، سيكون لتداعياتها أثر عميق على شكل الدولة الإيرانية في المستقبل القريب.

الآذريون: اندماج سطحي وهوية مزدوجة
يعيش الآذريون في شمال إيران، وتحديدًا في محافظتي أذربيجان الشرقية وأذربيجان الغربية، ويشكلون واحدة من أكبر الأقليات العرقية في البلاد، من حيث العدد والنفوذ الاقتصادي. وقد تمكن الآذريون، عبر العقود، من تحقيق نوع من الاندماج النسبي في مؤسسات الدولة، حيث يشغلون مناصب في الجيش والإدارة والاقتصاد، ويُنظر إليهم غالبًا كجزء من النسيج الوطني الإيراني. ومع ذلك، فإن هذا الاندماج ظل سطحيًا في جوانب كثيرة، حيث لا تزال اللغة الأذرية محرومة من التعليم الرسمي، وتُمارس ضغوط ثقافية تهدف إلى تفريس الهوية القومية الآذرية، ما أبقى شعور الانتماء القومي حيًا ومكبوتًا تحت سطح الولاء الرسمي لطهران.
في أوقات الاستقرار، يظل هذا التوازن الهش قائمًا، لكن في لحظات التأزم الكبرى، كما في حالة التصعيد العسكري مع إسرائيل، تبدأ الهويات العرقية في الظهور مجددًا. فمع تزايد الضغوط الاقتصادية واحتمال تعرّض الإقليم الشمالي لضربات عسكرية، قد يجد العديد من الآذريين أنفسهم أمام تساؤلات حادة حول الولاء والانتماء. القرب الجغرافي والثقافي من جمهورية أذربيجان – التي تربطها علاقات مع إسرائيل وتوترات مع طهران – يزيد من تعقيد المعادلة، ويُغذّي إمكانية انبعاث نزعة قومية قد تُترجم سياسيًا أو ميدانيًا إذا انزلقت إيران إلى فوضى أوسع. في مثل هذه الحالة، لن يكون الولاء الآذري مضمونًا، بل رهينة للمتغيرات الميدانية وموازين القوى الإقليمية.

الاقسام


© 2021 Albawabhnews All Rights Reserved.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق بعد عيد الأضحى.. تقديم اعتذارات المعلمين عن امتحانات الثانوية العامة
التالى هاني رمزي: الأهلي لديه خبرات كبيرة.. ولن يلعب بخوف أمام إنتر ميامي