بين الأرض والميناء: كيف نصنع لحاصلاتنا الزراعية سمعة عالمية

بين الأرض والميناء: كيف نصنع لحاصلاتنا الزراعية سمعة عالمية
بين
      الأرض
      والميناء:
      كيف
      نصنع
      لحاصلاتنا
      الزراعية
      سمعة
      عالمية

حين تتوقف شحنة من الحاصلات الزراعية المصرية على أرصفة الموانئ الأوروبية، وتخضع للفحص تحت أعين مفتشي الجودة، تصبح لحظات الانتظار ثقيلة كأنها محاكمة صامتة لمنتج وطني بأكمله. في تلك اللحظة، لا يكون الرهان فقط على تلك الشحنة، بل على سمعة مصر الزراعية في الأسواق العالمية، وعلى ثقة مستورديها، وعلى تدفق العملة الصعبة إلى اقتصاد يئن تحت ضغط الحاجة. وعندما يُرفض دخول الشحنة بسبب وجود بقايا مبيدات محظورة أو تلوث في طرق التعبئة، تنهار معها آمال كثيرة، وتُغلق أمام المنتج المصري أبواب المنافسة التي بالكاد فُتحت.
لم يعد الالتزام بالمعايير الجيدة في تصدير الحاصلات الزراعية  ترفًا أو خيارًا إضافيًا يمكن التغاضي عنه، بل أصبح ضرورة وطنية لحماية الاقتصاد من جهة، وحماية سمعة المنتج المصري من جهة أخرى. ومع اشتداد المنافسة وتزايد وعي المستهلك الأوروبي، أصبحت الرقابة أكثر صرامة، وأصبحت الأسواق الخارجية ترفض أي تساهل في مسألة سلامة الغذاء. من هنا، يظهر جليًا أن النجاح في التصدير لا يرتبط بوفرة الإنتاج فقط، وإنما بجودته، وملاءمته للمواصفات الفنية والصحية للدول المستوردة.
من هنا يجب الابتعاد التدريجي، بل والحاسم عن استخدام المبيدات الضارة والمواد الكيميائية ذات التأثير المتراكم، والتي كثيرًا ما تتسبب في رفض الشحنات الزراعية. وبدلاً من ذلك، فإن الاتجاه نحو الممارسات الزراعية النظيفة والعضوية ليس  أمرًا ضروريًا، بل هو أيضًا فرصة حقيقية لتثبيت أقدامنا في الأسواق الخارجية وتعزيز ثقة المستورد في “المنتج المصري”.
ولأن التحديات التي تواجه تصدير الحاصلات الزراعية لا تُحل بالشعارات، فإنني أرى أن الحلول تبدأ من الميدان، من أرض الزراعة ذاتها. وأحد أهم هذه الحلول هو توعية المزارعين والمصدرين بأهمية الممارسات الزراعية الجيدة، من خلال برامج تدريبية مستمرة ومكثفة ، تُشرف عليها وزارة الزراعة بالتعاون مع الجهات التصديرية، بحيث يدرك كل فلاح أن ما يزرعه ليس فقط قوتًا محليًا، بل رسالة مصرية إلى العالم؛ تعود عليه وعلى المجتمع كله بالنفع. 
كما ولابد من إنشاء معامل مركزية معتمدة دوليًا لفحص وتحليل المنتج الزراعي قبل التصدير، تضمن أن كل شحنة يتم تصديرها قد خضعت لاختبارات دقيقة من حيث خلوها من بقايا المبيدات أو الملوثات. هذه الخطوة ستمنح المنتج المصري شهادة ثقة، وتقلل بشكل كبير من نسب الرفض في الخارج.
كما أن تطبيق نظام التتبع الزراعي أصبح ضرورة لا يمكن تأجيلها، لأنه يُمكّن الجهات الرقابية والمستوردين من معرفة تاريخ كل منتج، من أين زُرع، وكيف نُقل، وما هي المواد التي استخدمت في زراعته، وهذا يعزز الشفافية والثقة في آنٍ واحد.
وأضيف إلى ذلك أن تشجيع المزارعين على الالتزام بالمعايير لن يتحقق في الإطار النظري ، بل من خلال تقديم حوافز مالية وفنية حقيقية، مثل تخفيض تكاليف الحصول على الشهادات الدولية، أو دعم شراء مستلزمات الزراعة الآمنة. فالمزارع عندما يشعر بأنه شريك في المنظومة، سيبذل قصارى جهده لضمان نجاحها.
أما من ناحية الرقابة، فإن سنّ قوانين صارمة ضد من يتجاوز المعايير أو يستخدم مبيدات محظورة يُعد أمرًا ضروريًا لحماية الجميع، لأن خطأ واحدًا من مصدر صغير قد ينعكس على سمعة المنتج كله، ويجعل الدول المستوردة تتردد في التعامل مع السوق المصري ككل.
ومن وجهة نظري، فإن بناء علامة تجارية وطنية موحدة للحاصلات الزراعية المصرية، تحت شعار مثل “منتج مصري آمن ونظيف”، سيسهم بشكل كبير في تثبيت صورة إيجابية في أذهان المستهلكين، ويخلق ولاءً طويل الأمد لدى المستوردين، لا سيما إذا تم ربط هذا الشعار بجودة حقيقية على الأرض، وليس مجرد دعاية.
وفي النهاية، لا يمكن النظر إلى تصدير الحاصلات الزراعية باعتباره مجرد نشاط اقتصادي، بل هو مسؤولية وطنية تتطلب وعيًا مشتركًا من الدولة والمزارع والمُصدر على حد سواء. فحين نزرع بمعايير عالمية، ونُصدر بضمير، ونُراقب بصدق، نربح السوق والكرامة، ونصنع لمصر مكانة لا تُرفض.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق بحضور الوزير.. ثقافة النواب تناقش طلب النائب هشام حسين بشأن الاستثمار الثقافي في الكتاب
التالى «جولة دبلوماسية جديدة».. وزير خارجية إيران يزور مصر ولبنان الأسبوع المقبل