محمد عزت عبد الغفار بكتب: التنسيقية.. من منصة للحوار إلى شريك في صناعة القرار

محمد عزت عبد الغفار بكتب: التنسيقية.. من منصة للحوار إلى شريك في صناعة القرار
محمد
      عزت
      عبد
      الغفار
      بكتب:
      التنسيقية..
      من
      منصة
      للحوار
      إلى
      شريك
      في
      صناعة
      القرار

لم تكن نشأة “تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين” في عام 2018 مجرد إعلان عن كيان شبابي جديد، بل كانت تعبيرًا دقيقًا عن لحظة فارقة في المسار السياسي المصري، لحظة قررت فيها الدولة أن تصنع تحولًا نوعيًا في فلسفة الحكم عبر دمج الشباب من مختلف التوجهات داخل معادلة القرار، وأن تقدم نموذجًا جديدًا للممارسة السياسية يعتمد على الحوار بدلًا من الصدام، وعلى البناء المؤسسي بدلًا من الفردية، وعلى الانتماء للوطن قبل الانتماء لأي أيديولوجيا أو تيار.

في أعقاب ثورة 30 يونيو، كان من الواضح أن التحدي الأكبر الذي يواجه الدولة لم يعد فقط أمنيًا أو اقتصاديًا، بل كان سياسيًا واجتماعيًا بامتياز، إذ كيف تُدار دولة بحجم مصر دون أن يكون هناك جيل شاب قادر على فهم الدولة، والتفاعل مع مؤسساتها، والمشاركة الفعلية في إعادة بناء منظومتها السياسية والإدارية؟ وهنا جاءت التنسيقية كفكرة غير تقليدية، ثم كيان مؤسسي، ثم كحالة سياسية متكاملة استطاعت أن تفرض احترامها على الجميع، لأنها ببساطة خرجت من رحم الدولة لكنها لم تتقوقع داخلها، بل اختارت طريق التأثير من الداخل والخارج معًا.

خصوصية التنسيقية لا تكمُن فقط في أنها جمعت بين 27 حزبًا من مختلف الخلفيات، بل في أنها صنعت نموذجًا للتمازج السياسي بين الاختلافات دون ذوبان، وبين التعددية دون فوضى. هذا النموذج صُمم ليعمل كـ”معمل سياسي” يدمج الرؤى المختلفة، ويصيغ منها موقفًا وطنيًا عقلانيًا يخدم الدولة والمجتمع. ومنذ نشأتها، رفعت التنسيقية شعار “السياسة بمفهوم جديد”، وكان هذا الشعار دقيقًا في وصف الحالة التي صنعتها؛ حالة لا تنكر الخلاف، لكنها تؤمن بإدارته؛ لا ترفض الآخر، لكنها تسعى لصناعة مشتركات معه؛ لا تستعرض بالمواقف، بل تتسلّح بالعلم، وتعمل بصمت.

وقد ظهرت نتائج هذا النهج سريعًا على أرض الواقع، حيث بدأت الدولة المصرية – لأول مرة بهذا الشكل المنظم – في تمكين الشباب السياسي تمكينًا حقيقيًا وليس مجرديًا، من خلال الدفع بكوادر التنسيقية إلى مواقع صنع القرار. ظهر هذا بوضوح من خلال نواب المحافظين من أبناء التنسيقية، الذين أثبتوا كفاءة واضحة في الملفات التنفيذية، وقدموا نموذجًا لشباب مدرّب، واعٍ، ملتزم، وقادر على التعامل مع الأزمات والمواطنين بمنطق الإدارة الحديثة لا بمنطق الوعود الخطابية.

ولم يتوقف تأثير التنسيقية عند الحدود التنفيذية، بل امتد بقوة داخل البرلمان بغرفتيه، النواب والشيوخ، حيث قدّم نواب التنسيقية نموذجًا فريدًا في الأداء التشريعي والرقابي. كانوا أصحاب مشروعات قوانين نوعية، ومداخلات سياسية دقيقة، وحضور قوي داخل لجان البرلمان المختلفة. لم يكونوا مجرد ممثلين لأحزابهم، بل لضمير ووعي الشباب المصري الطامح إلى دولة قانون، وعدالة اجتماعية، وتنمية شاملة. وقد تميّز أداؤهم بالجدية والاحترافية، وفتحوا مسارات حقيقية للتواصل بين البرلمان والمجتمع، وغيّروا الصورة النمطية للنائب البرلماني.

وفي الوقت نفسه، لعبت التنسيقية دورًا مهمًا في دعم مؤسسات الدولة لا من باب التبعية، بل من منطلق الشراكة الوطنية. فقد كانت دائمًا جزءًا من معارك الوعي، ومن حملات التوعية، ومن التفاعل مع القضايا الجماهيرية. ساهمت في المبادرات الرئاسية، دعمت مشروعات الحماية الاجتماعية، شاركت في الحوار الوطني، وأطلقت برامج تدريب وتثقيف سياسي لشباب غير حزبي، وهو ما جعلها أكثر من مجرد كيان سياسي؛ بل أصبحت جسرًا فعّالًا بين المواطن والدولة، وبين السلطة والمعارضة، وبين السياسة والتنمية.

ومما يحسب للتنسيقية أنها لم تكن كيانًا مغلقًا على نفسه، بل اختارت الانفتاح على كل مؤسسات الدولة، وعلى كل الأحزاب المصرية، حتى التي تختلف معها. فقد بنت شراكات سياسية ذكية، وعلاقات متوازنة مع أجهزة الدولة، واستطاعت أن تثبت أن العمل السياسي الناضج لا يتعارض مع الولاء الوطني، بل يقوم عليه. وقد نجحت في بناء ثقة متبادلة بينها وبين القيادة السياسية، وهي ثقة بُنيت على الأداء لا على المجاملة، وعلى الكفاءة لا على التلميع، وعلى النتائج لا على الشعارات.

أحد أعمق أوجه نجاح التنسيقية، أنها أسّست مفهومًا جديدًا لما يمكن أن نسميه “الوظيفية السياسية”؛ أي أن يكون العمل السياسي له وظيفة تنموية، معرفية، توعوية، إصلاحية. لم تكن مجرد منصّة لعرض المواقف أو تسجيل المواقف، بل كانت مصنعًا حقيقيًا لإنتاج الكوادر، ورسم السياسات، وإعداد القيادات المستقبلية. وهو ما يجعلها اليوم مدرسة سياسية كاملة داخل الجمهورية الجديدة، تربّي جيلًا يفكر بعقل الدولة ويتحدث بلغة المواطن.

ومع مرور سبع سنوات على تأسيس هذا الكيان، يمكن القول بأن التنسيقية تجاوزت كونها تجربة مؤقتة أو مبادرة سياسية عابرة، وأصبحت جزءًا من البنية السياسية المصرية، ومن مشروع الدولة العصرية. لكن التحديات التي تنتظرها لا تقل عن التي واجهتها، فالحفاظ على ما تحقق أصعب من تحقيقه، ومراكمة التأثير تحتاج إلى مزيد من التوسع، خاصة في المحافظات والجامعات والنقابات والمجتمع المدني، مع ضرورة الحفاظ على توازنها الدقيق بين الدعم الرسمي والاستقلالية السياسية، لأن هذه الاستقلالية هي ما يكسبها احترام الجميع، ويمنحها القدرة على الاستمرار.

في الختام، فإن “تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين” ليست مجرد كيان شبابي سياسي، بل مشروع دولة في هيئة كيان، مشروع يقدم نموذجًا واقعيًا لما يجب أن تكون عليه السياسة في ظل الجمهورية الجديدة: سياسة تفهم التحديات، وتشارك في بناء الحلول، وتتجاوز الانقسامات، وتُنتج المعنى لا الصخب.

وإن كان التاريخ سيكتب مستقبل هذه التجربة يومًا، فإنه سيتوقف طويلًا أمام لحظة قرر فيها شباب مصر أن يتحولوا من جمهور يتلقى السياسة إلى شركاء يصنعونها.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق المؤبد لسائق توكتوك و5سنوات لشقيقه لقتلهما جارهما فى سمنود
التالى «جولة دبلوماسية جديدة».. وزير خارجية إيران يزور مصر ولبنان الأسبوع المقبل