لم تعد تكنولوجيا الجيل الخامس مجرد نقلة تقنية في مسار تطور الاتصالات، بل أصبحت بمثابة بنية تحتية اقتصادية جديدة تشكّل عمودًا فقريًا لعصر الرقمنة والابتكار الصناعي. إطلاق هذه الشبكات، كما بدأ بالفعل في مصر من خلال شركات الاتصالات الكبرى، لا يقتصر على تحسين سرعة الإنترنت أو جودة الاتصال، بل يمتد أثره ليشمل إعادة هيكلة الاقتصاد نفسه من خلال خلق فرص استثمار، وتطوير قطاعات، وتمكين صناعات جديدة بالكامل.
تتطلب شبكات 5G استثمارات ضخمة في البنية التحتية من أبراج ذكية وألياف ضوئية وأجهزة بث متقدمة، وهو ما يؤدي بدوره إلى تحفيز قطاعات البناء والمقاولات والتكنولوجيا، ويخلق فرص عمل جديدة في مجالات فنية وهندسية متقدمة. كما تدفع هذه الاستثمارات بالشركات الصغيرة والمتوسطة للدخول في سلاسل القيمة المرتبطة بالتحول الرقمي، بما يعزز من قوة السوق المحلية ويشجع التصنيع الذكي.
لكن الأثر الأكبر يتمثل في أن 5G ليست ترفًا مرتبطًا بالمستخدم النهائي، بل ركيزة أساسية في الاقتصاد الإنتاجي الجديد. فهي تتيح تشغيل مصانع مؤتمتة بالكامل، وإدارة أنظمة نقل ذكية، وتحسين الكفاءة التشغيلية في قطاعات مثل الخدمات اللوجستية والطاقة والرعاية الصحية. من خلال تمكين إنترنت الأشياء، تصبح الشبكة أساسًا للتشغيل السلس والفعال للآلات والخدمات على حد سواء، ما يرفع من تنافسية المنتج المحلي في الأسواق العالمية.
كذلك تفتح هذه التقنية الباب أمام نشوء قطاعات لم تكن موجودة سابقًا، مثل الواقع المعزز والافتراضي، والتي تدخل بقوة في التعليم والتدريب الطبي والصناعي. كما تدعم 5G نمو اقتصاد المحتوى الرقمي والترفيه التفاعلي، بما في ذلك الألعاب الإلكترونية والبث المباشر، ما يمنح رواد الأعمال والمطورين المصريين نافذة جديدة للإبداع والدخل في سوق عالمية.
ولا يمكن تجاهل دور الجيل الخامس في تسريع وتيرة الشمول المالي ودعم الاقتصاد الرقمي. فبفضل السرعات العالية وانخفاض زمن الاستجابة، تصبح المعاملات المالية عبر الهاتف المحمول أكثر أمانًا وسرعة، ما يسهم في إدماج شرائح أوسع من المجتمع ضمن المنظومة المصرفية الرسمية. وهو ما ينعكس مباشرة على معدلات النمو الاقتصادي، خاصة في الاقتصادات التي تسعى لدمج الاقتصاد غير الرسمي ضمن منظومة الدولة، كما هو الحال في مصر.
وعلى مستوى الإيرادات الحكومية، تتيح هذه الطفرة التكنولوجية فرصًا لتعظيم الموارد، سواء من خلال رسوم ترخيص الترددات، أو الضرائب على الخدمات الرقمية، أو الرسوم على خدمات القيمة المضافة. ومع توسع قاعدة المستخدمين والنشاطات الاقتصادية المرتبطة بالشبكة، تتحول 5G إلى مصدر دخل مستدام للدولة، شريطة أن يتم ذلك عبر سياسات تنظيمية متزنة تحفز الاستثمار وتراعي في الوقت نفسه الحماية المجتمعية.
الأهم من كل ذلك هو أن امتلاك الدولة لبنية تحتية قوية للجيل الخامس لا يجعلها فقط في موقع المتلقي للتكنولوجيا، بل يمكنها من أن تكون منتجًا لها. فمع وجود حاضنات ابتكار، ودعم للشركات الناشئة، وبيئة تنظيمية مشجعة، يمكن لمصر أن تطور حلولًا محلية تعتمد على 5G وتصدرها إلى أسواق إفريقيا والعالم العربي، ما يمنحها مكانة استراتيجية في مشهد الاقتصاد الرقمي الإقليمي والدولي.
في المحصلة، لا يمكن التعامل مع تكنولوجيا الجيل الخامس باعتبارها رفاهية اتصالية، بل يجب النظر إليها كأداة استراتيجية لإعادة تشكيل الاقتصاد الوطني.
فمن يمتلك البنية التحتية الرقمية، يمتلك المستقبل، والرهان الحقيقي لا يكمن فقط في نشر الشبكة، بل في إدارة هذا الانتقال الذكي من خلال سياسات تعليمية، واقتصادية، وتشريعية متكاملة تضمن أن يكون تأثير 5G شاملًا وعادلًا ومستدامًا.