يقظة ضمير أم أزمة مصير؟!

يقظة ضمير أم أزمة مصير؟!
يقظة
      ضمير
      أم
      أزمة
      مصير؟!

«تثقب قطرة الماء الصخر.. لا بقوتها وإنما بدأبها»
مثل لاتينى

من الملحوظ، بوتيرة متصاعدة، أن العديد من دول الغرب المُهمة تشهد فى الفترة الأخيرة، تحولات ظاهرة فى الموقف من القضية الفلسطينية، بعد عدوان همجى مُستمر، منذ قرابة العامين، تم فيها شن حرب إبادة قذرة ضد أبناء الشعب الفلسطينى، بشكل عام، ومواطنى قطاع غزة على وجه الخصوص. 

ولا تبدو هذه التحولات فى انحيازات الرأى العام الشعبى وحسب، وإنما أيضًا تطال السياسات الرسمية لهذه الدول تجاه دعم نضال الشعب الفلسطينى المشروع، وضرورة وضع نهاية قاطعة توقف المأساة الإنسانية الجارية. هذه التحولات مدفوعة بعدة عوامل، منها، على المستوى الشعبى، تصاعد الوعى الجماهيرى بالقضية، وتأثير صور المعاناة الإنسانية التى تنقلها وسائط الميديا إلى أرجاء العالم لحظيًا، وجهود النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان، وتجاوز مُمارسات الاحتلال الهمجى كل الحدود، بما يستحيل معه تجاهل أبعادها، أو تبرير استمرار التواطؤ بالصمت على تجاوزاتها الإجرامية غير المسبوقة فى تاريخ الصراعات والحروب.

وفى هذا السياق، فإن أهم ما يمكن معاينته المظاهر التى تؤكد تزايد التعاطف مع القضية الفلسطينية فى صفوف الشباب الجامعى والناشطين فى الغرب. هذا التعاطف لا يقتصر على المظاهرات والاحتجاجات، بل يمتد إلى النقاشات على وسائل التواصل الاجتماعى وحوارات المؤسسات الأكاديمية والثقافية، حيث يُنظر إلى الصراع بشكل مُتزايد من منظور حقوق الإنسان والقانون الدولى، مع التركيز على حق تقرير المصير للفلسطينيين وضرورة إنهاء الاحتلال الغاشم!

وتلعب الحركات الشعبية والمنظمات غير الحكومية دورًا حيويًا فى دفع الحكومات الغربية نحو تغيير مواقفها. وتسهم المظاهرات الحاشدة، وحملات المُقاطعة، ودعوات وسحب الاستثمارات والعقوبات «BDS»، والضغط على السياسيين، فى إبقاء القضية الفلسطينية فى صدارة الأجندة العامة.

وقد انتبهتُ مُبكرًا إلى أهمية هذه الظاهرة فى تقرير اتجاهات الصراع الفلسطينى الصهيونى، فكتبت فى دراسة عنوانها: «7 أكتوبر 2023: جردة أولية لحسابات المكسب والخسارة»، كتبت بعد أسابيع من واقعة «طوفان الأقصى» 7 أكتوبر 2023، ضمنتها كتابى المعنون بـ«طوفان الأقصى: الموت ولا المذلّة» (دار نفرتيتى 2024)، ذكرت فيها أن «القضية الفلسطينية كسبت، وللمرة الأولى فى تاريخها الممتد، هذا الزخم العالمى من الشعور بالتضامن، والانتماء للقضية الفلسطينية العادلة، الذى عمَّ العالم، وأجبر قادة الغرب على الإنصات لصوت الشعوب المُصرّة على عدم تجاهل الحق الفلسطينى، وآية ذلك مظاهرات الدعم لفلسطين وشعبها فى أغلب بلدان العالم، ومن كل الاتجاهات- بمن فيهم اليهود المعادون للصهيونية- والمواقف التى انتشرت على مواقع الـ«سوشيال ميديا»، والعامرة بأشكال الدعم للقضية الفلسطينية، والعداء للممارسات العنصرية، وقد أظهرت الاستطلاعات المحايدة تراجع التأييد للمواقف الإسرائيلية إلى أقل من ٥٪ من استجابات الرأى العام العالمى، مقابل ٩٥٪ من التأييد لقضية فلسطين وحقوق شعبها، وأربك هذا الاستقطاب الكبير القيادات الانتهازية الغربية، التى وجدت نفسها، للمرة الأولى، محشورة بين سندان المصالح الاستعمارية- الإمبريالية من جهة، ومطرقة الجماهير المتعاطفة مع القضية الفلسطينية من جهة أخرى».

لقد أدى حجم الدمار والخراب والقتل الهمجى غير المسبوق فى التاريخ الإنسانى، وفى المقابل صمود الشعب الفلسطينى وأهل غزة البطولى، وتحمله ما لا يُحتمل من تضحيات وآلام، ورفضه مغادرة أرضه أو قبول بدائل لها، ومقاومته المستميتة لمخططات «التهجير» القسرى، «الترانسفير»، إلى تغيير مُتصاعد، وأحدث تراكمات مُتوالية أثّرت فى الخطاب الإعلامى الغربى، وحفزته على انتهاج منهج أكثر توازنًا وأشد تحسسًا للقضية الفلسطينية، مع تسليط الأضواء على معاناة المدنيين الفلسطينيين، وإبراز آلام وتحديات الحياة تحت هيمنة بطش الاحتلال، ما حفزهم على الاحتجاج على استراتيجية التدمير والتجويع لغزة وأهلها، ودفعت قطاعًا واسعًا ومؤثرًا من الجماهير والسياسيين، والشباب على وجه الخصوص، إلى التشكك فى صحة السردية الصهيونية، ومن ثم إلى التمرد على ادعاءاتها ومزاعمها، خاصة تلك التى تُلصق بأى انتقاد للسياسات الصهيونية، وممارساتها الإجرامية، صفة «مُعاداة السامية»، التى طالما استخدمتها لإرهاب كل رافض أو متحفظ على مواقفها وسياساتها الإجرامية!

وقد تكررت على ألسنة العديد من السياسيين الغربيين مؤخرًا انتقادات متصاعدة لسياسات إسرائيل والمطالبة بحل عادل وشامل، وفى الأيام القليلة الماضية بادرت بريطانيا وأربع دول أخرى: «كندا، وأستراليا، ونيوزيلندا، والنرويج»، بفرض عقوبات على المجرمين الإسرائليين: وزير الأمن الوطنى «إيتمار بن غفير»، ووزير المالية «بتسلئيل سموتريتش»، وفى بيان مُشترك صادر عن وزير الخارجية البريطانى «ديفيد لامى» ووزراء خارجية الدول الأربع أُعلن عن السبب: «لقد حرَّض «إيتمار بن غفير» و«بتسلئيل سموتريتش»، على عنف المُتطرفين والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ضد الفلسطينيين، وهذه الأفعال غير مقبولة. ولذا قررنا اتخاذ هذا الإجراء ومحاسبة المسئولين عنه»!

غير أن أبلغ مثال على ذلك التحول الأوروبى النسبى هو المُتجسد فى موقف الإدارة الفرنسية، والرئيس «ماكرون»، الذى تبدّل موقفه بشكل كبير، من داعمٍ مُتحمس لإسرائيل، ومُساند سياسيًا وعسكريًا لخططها العدوانية، فى البداية، إلى ناقدٍ، فمعترضٍ، فمعارضٍ، فرافضٍ، فمتبنٍ وداعٍ لضرورة أن يكون للفلسطينيين دولتهم المستقلة!

يُرجع د. «عبدالعليم محمد»، مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أسباب هذا «التحول» إلى عناصر مُتعددة، فى مقدمتها تحرُّر أوروبا من «السطوة الأمريكية» بعد اتجاه الولايات المتحدة إلى التحرُّك منفردة بحثًا عن حلول لمشكلاتها وتحقيقًا لمصالحها، دون النظر بعين الاعتبار لمشكلات ومصالح الدول الحليفة فى «الناتو»: «الموقف من المفاوضات مع إيران، الاتفاق المنفرد مع الحوثيين، التفاوض المستقل مع (حماس)، جولة (ترامب الخليجية)،... إلخ»، وأيضًا ضغوط الرأى العام الأوروبى المستمرة على مدى الفترة الماضية، وكذا التجبُّر الإسرائيلى، وغياب استراتيجية واضحة لإنهاء الحرب،.. إلى غيرها من الأسباب، ويتساءل مع د. «عبدالعليم» مع عديدين: «هل هى مناورة لتهدئة الرأى العام؟!».

لا بأس على أى حال، ولكن مع كل ما حدث ويحدث، يبقى التساؤل مشروعًا: هل التبدُّلات فى المواقف الغربية التى تبدّت مؤخرًا، وانتقال عدد من دول أوروبا المُهمة، من موقفٍ سلبيٍ تجاه الفلسطينيين وقضيتهم، وداعمٍ رئيسى للكيان المُغتصب، إلى موقفٍ إيجابى نوعًا ما، أميل لإدانة مسلكيات الكيان الصهيونى والتشهير بهمجيته، وأقرب للتعاطف مع الشعب الفلسطينى، ورفض «التخاريف» الترامبية التى من نوع «ريفييرا الشرق» وخلافه.. فهل هذه التبدلات حقيقية ونابعة من يقظة ضميرية صادقة، وهنا يكون المثل اللاتينى الذى تصدّر هذه السطور قد صدق مُجددًا، وأبان أن قطرات الماء «الجماهيرية» الدائمة فى إصرار وعناد، قادرة على ضعفها، أن تخترق صلادة الصخر، أم إنها مجرد مناورة تكتيكية »رسمية»، الهدف الأساسى منها احتواء الغضب الشعبي، وامتصاص نقمة الجماهير، وتبرئة الذمّة، وغسل اليدين من دماء مئات الآلاف من الشهداء الأبرياء والمُصابين؟!

من المُبَكِّرُ، كما يرى د. «عبدالعليم محمد» الحُكم على ما يحدث، وهذا موقف صحيح.. ومن الضرورى الاستمرار فى تتبع الإشارات والخطوات العملية، للتأكد من صدق المواقف وصحة التوبة الغربية عما فعلوه بشعوب العالم التى استعمروها واستنزفوا ثرواتها لقرون طويلة، والأخطر عن ابتلائهم الشعب الفلسطينى ومجمل الشعوب العربية بالسرطان الصهيونى المُستشرى فى شرايين المنطقة!

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق غرق فتاة بترعة الشباب في القنطرة بالإسماعيلية
التالى «جولة دبلوماسية جديدة».. وزير خارجية إيران يزور مصر ولبنان الأسبوع المقبل