هاجمت الطائرات الإسرائيلية عشرات الأهداف العسكرية والمواقع النووية الإيرانية، فى ساعة مبكرة من فجر أمس، فى موجات متتالية، بدأت منذ الثالثة حتى الرابعة والنصف فجرًا، فى عملية لا تبدو مفاجئة بدرجة كبيرة للمتابعين، كونها جاءت بعد إجلاء دبلوماسيين أمريكيين وأسرهم من عدة دول فى المنطقة.
وأسفرت الهجمات عن تدمير عدد من المواقع النووية والعسكرية، من بينها موقع «نطنز»، قرب العاصمة الإيرانية طهران، مع اغتيال عدد من كبار القادة العسكريين، وأيضًا عدد من علماء البرنامج النووى الإيرانى، الأمر الذى يفتح الباب أمام التساؤل عن أسباب هذه الهجمة الإسرائيلية وأهدافها وتوقيتها، بالإضافة إلى احتمالات الرد عليها، وهو ما يستحق تسليط الضوء عليه فى السطور التالية.
استهداف أكثر من 100 «هدف نووى وعسكرى».. واغتيال كبار القادة العسكريين
قال رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، فجر الجمعة، إن إيران كانت تستعد لإنتاج عشرات الآلاف من الصواريخ الباليستية التى «يمكن أن تقتل ملايين الإسرائيليين حتى دون الأسلحة النووية، ولكن تخيل لو كان أى منها يحمل أسلحة نووية»، مضيفًا: «إيران ربما لا تفصلها سوى بضعة أشهر عن القدرة على صنع سلاح نووى فعليًا، وليس مجرد امتلاك ما يكفى من اليورانيوم».
وحسب الجيش الإسرائيلى، فإن إيران تمتلك ما يكفى من اليورانيوم لتحويله إلى أسلحة نووية، أى ما يكفى لصنع ١٥ سلاحًا نوويًا خلال أيام.
وبالتزامن، هاجمت أكثر من ٢٠٠ طائرة مقاتلة تابعة لسلاح الجو الإسرائيلى، أكثر من ١٠٠ هدف فى جميع أنحاء إيران، بما فى ذلك أماكن اختباء كبار القادة العسكريين الإيرانيين.
واستهدفت الخطوة الأولى فى الهجوم الإسرائيلى تحييد منشآت الكشف والدفاع الجوى فى شمالى إيران والعراق، ونُفِّذت معظم الغارات عبر طرق فى سوريا، التى كانت محفوفة بالمخاطر حتى وقت قريب، بعد أن دمّر سلاح الجو منظومة الدفاع الجوى السورى بعد انهيار نظام بشار الأسد.
وحسب صحيفة «نيويورك تايمز»، فقد هاجمت إسرائيل ٦ قواعد عسكرية فى منطقة طهران، بما فى ذلك قاعدة «بارشين»، بالإضافة إلى مبان سكنية فى مجمعين شديدى الحراسة يقيم فيهما كبار المسئولين العسكريين، ومنازل أخرى فى منطقة طهران، فى عمليات اغتيال استهدفت كبار المسئولين الإيرانيين.
وذكرت تقارير أخرى أن أهدافًا تعرضت للهجوم فى مدينتى «تبريز» و«أراك»، حيث يوجد مفاعل ماء ثقيل، بالإضافة إلى قواعد صاروخية قرب طهران وفى مدينة «كرمانشاه».
ووفقًا لمسئول إسرائيلى، فبالإضافة إلى الغارات الجوية المكثفة، قاد «الموساد» سلسلة عمليات سرية لـ«مكافحة الإرهاب فى عمق إيران». وحسب قوله، فقد «صممت هذه العمليات لتدمير منظومة الصواريخ الاستراتيجية الإيرانية وقدرات الدفاع الجوى».
وأسفر الهجوم عن مجموعة اغتيالات كبيرة وغير مسبوقة، إذ أكدت وسائل إعلام رسمية إيرانية مقتل قائد الحرس الثورى الإيرانى حسين سلامى فى الضربة الافتتاحية فى العملية الإسرائيلية، بالإضافة إلى عدد من حراسه، وأيضًا قُتل اللواء غلام على رشيد، نائب قائد الجيش الإيرانى، فى غارة جوية.
وأسفرت الهجمات، أيضًا، عن اغتيال العالم النووى الدكتور فريدون عباسى، ومقتل زوجته وطفله، وكذلك الدكتور عبدالحميد منوشهر، عضو هيئة التدريس عميد كلية الهندسة النووية فى جامعة «شهيد بهشتى»، والعالم أحمد رضا ذو الفقارى، أستاذ بكلية الهندسة النووية فى الجامعة نفسها.
التوقيت تناسب مع تعثر المفاوضات النووية وجاء بعد فتح الطريق السورى
من ناحية التوقيت، بدا أن اللحظة مناسبة لإسرائيل لتنفيذ الهجوم على إيران، بسبب ثلاثة عوامل، أولها: تراجع نفوذ وكلاء إيران الإقليميين، فقبل سنوات، عندما كانت مسألة مهاجمة إيران تطرح على طاولة مجلس الوزراء الإسرائيلى، كانت إحدى الحجج الرئيسية المعارضة لها هى الرد الذى ستواجهه إسرائيل من «حزب الله» فى لبنان، و«حماس» فى غزة، والقوات الإيرانية فى سوريا، لكن لم يعد هذا القلق كما كان فى السابق.
وخلال الأشهر الأخيرة، سقط نظام بشار الأسد فى سوريا، وفقد تقريبًا جميع قدراته العسكرية الاستراتيجية بسبب الغارات الجوية الإسرائيلية، أما «حزب الله»، فرغم خطورته، فإنه لم يعد يُذكر بعد أن تدهورت ترسانته بشكل كبير، أما حماس، فقدرتها على ضرب إسرائيل أصبحت شبه معدومة، وما تبقى هو بضع عشرات من صواريخ الحوثيين فى اليمن، وترسانة إيران القوية التى تضم بضعة آلاف من الصواريخ الباليستية بعيدة المدى، وفقًا للتقارير.
العامل الثانى: كانت القدرة العملياتية والتساؤلات حول: هل تستطيع إسرائيل فعلًا تنفيذ مثل هذه الضربة؟، ولطالما كان هذا أحد أصعب الأسئلة، إذ ينطوى على مزيج من التحديات اللوجستية والتكنولوجية والاستراتيجية، لكن فى أبريل، ومرة أخرى فى أكتوبر من العام الماضى، حلقت طائرات سلاح الجو الإسرائيلى- بما فيها طائرة إف٣٥ آى المتطورة- لأكثر من ٢٠٠٠ كيلومتر داخل المجال الجوى الإيرانى وضربت عشرات الأهداف، بما فى ذلك أنظمة صواريخ أرض- جو إس٣٠٠ الإيرانية روسية الصنع.
وكانت تلك الأنظمة تُعتبر الرادع الرئيسى للغارات الجوية الإسرائيلية، وقد أدى تدميرها الآن إلى فتح المجال الجوى الإيرانى على مصراعيه.
أما العامل الثالث فهو: التغيير فى واشنطن، فبينما صرّح الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بأنه يُفضّل اتفاقًا دبلوماسيًا مع إيران فقد تعثرت المفاوضات مؤخرًا، وهو ما منح إسرائيل الفرصة.
وبالنسبة لنتنياهو شخصيًا، كان التوقيت ملائمًا لحل أزمة حكومته الداخلية، وتوحيد حلفائه معًا، إذ لن تكون أمامهم فرصة لتفكيك الحكومة، بينما تنتظر إسرائيل صواريخ إيران للرد على الهجوم الكبير.
وأيضًا كان لدى إسرائيل تنسيق قوى مع الولايات المتحدة، لكن المسئولين العسكريين الإسرائيليين رفضوا القول ما إذا كانت الولايات المتحدة قد حصلت على تحديث مسبق أو تنسيق بالكامل فى الهجوم الحالى، فيما جاء الهجوم بعد ساعات من إشارة واشنطن إلى أنها قد لا تكون على علم بالهجوم أو توافق عليه، ولكن كُشف لاحقًا عن أن ذلك كما يبدو كان ضمن خطة التضليل الإسرائيلية.
وقال وزير الخارجية الأمريكى، ماركو روبيو، فى بيان: «اتخذت إسرائيل الليلة إجراء أحادى الجانب ضد إيران.. نحن لسنا متورطين فى ضربات ضد إيران، وأولويتنا القصوى حماية القوات الأمريكية فى المنطقة».
«القنبلة النووية» ما زالت ممكنة.. ورهان إسرائيلى على «انتفاضة» فى طهران
بعد الضربات يأتى السؤال الأصعب الذى لا أحد يعرف حقًا كيفية الإجابة عنه، وهو: ماذا يحدث فى اليوم التالى للهجوم الكبير؟، فلا شك أن هجوم إسرائيل سيُلحق ضررًا بالغًا بالبرنامج النووى الإيرانى وسيُعوق تقدمه، لكن هل سيُوقف سعى طهران لامتلاك قنبلة نووية؟ الإجابة المرجحة على ذلك هى لا، بل إن الهجوم قد يُسرّع من سعى النظام الإيرانى نحو امتلاك أسلحة نووية، خاصة إذا اعتقدت طهران أن الرادع الحقيقى الوحيد هو قدرة نووية مستقلة، لكن هذا القرار سيحتاج إلى وقت طويل.
وعلى عكس العراق فى عام ١٩٨١، أو سوريا فى عام ٢٠٠٧- وكلاهما اعتمد على جهات خارجية لبناء وتشغيل برامجهما النووية- تمتلك إيران الخبرة التقنية والبيانات والمعرفة اللازمة لإعادة بناء نفسها، و«لن تحتاج إلى علماء فرنسيين أو كوريين شماليين»، فالخبرة التقنية محلية، لكن القدرات هى التى تراجعت الآن.
فيما ترجح بعض التقارير العبرية، أن الهجوم الإسرائيلى والرد الإيرانى المحتمل «سيدفعان الإيرانيين نحو انتفاضة شعبية»، وأن «الشعب الإيرانى المُضطهد- الذى يعانى منذ عقود من حكم آيات الله- قد ينتفض أخيرًا وينزل إلى الشوارع»، ليحقق هدفًا إسرائيليًا آخر يتمثل فى «تغيير النظام فى طهران».
وحول ذلك، تساءل المحلل الإسرائيلى بن كاسبيت، فى مقاله بصحيفة «معاريف»، عن مدى نجاح الهجوم وحجم الضرر؟ وكم من الوقت ستستغرق إيران لاستعادة قدراتها؟
وقال: «كم من الوقت أخرنا أو أوقفنا المشروع النووى؟ إلى أى مدى سنتلقى الآن تعزيزات أمريكية تسمح باستمرار النشاط العسكرى فوق إيران، وتعزلها عن إمكانية استعادة البرنامج النووى، وتحد من قدرتها على الرد؟.. جميع هذه المسائل مفتوحة، لم يُحسم الأمر بعد.. الحدث فى بدايته، وليس فى نهايته.. الشىء الوحيد الذى يمكن الجزم به الآن هو أننا فى حرب تاريخية. لا أقل من ذلك».