
في عالم يبحث باستمرار عن حلول لمشكلة الطاقة، تبرز "الطاقة النووية" كقوة خفية تحمل في طياتها إمكانيات هائلة، لكنها تظل محاطة بالجدل والتساؤلات، بين مؤيد يراها مفتاحًا لمستقبل خال من انبعاثات الكربون، ومعارض يحذر من مخاطرها البيئية والسلامية، تظل هذه التقنية واحدة من أكثر مصادر الطاقة إثارة للاهتمام والتحدي في الوقت نفسه.
فهل يمكن لهذه الطاقة الهائلة المخزنة في نواة الذرة أن تكون الحل الأمثل لأزمة المناخ وتلبية الطلب المتزايد على الكهرباء؟ أم أن التكاليف الباهظة والمخاوف من الكوارث المحتملة تجعلها خيارًا غير مستدام؟
عندما يذكر مصطلح "الطاقة النووية"، تتبادر إلى الأذهان صور المفاعلات الضخمة وأبراج التبريد التي تولد الكهرباء، أو ربما المخاوف المتعلقة بالسلامة والانتشار، لكن خلف هذه التصورات الشائعة، تكمن قوة هائلة ومتعددة الأوجه، "قوة خفية" تتجاوز بكثير مجرد إنارة المدن وتشغيل المصانع، إنها طاقة تحمل في طياتها مفاتيح واعدة لمستقبل أفضل في مجالات حيوية تمس حياتنا اليومية بشكل مباشر، من التشخيص الدقيق للأمراض وعلاجها، إلى ضمان الأمن الغذائي عبر تقنيات زراعية مبتكرة، وصولاً إلى تحقيق طموحاتنا في استكشاف أغوار الفضاء.
تعد "الطاقة النووية" الناتجة عن التحكم في عمليات الانشطار النووي، مصدراً حيوياً للطاقة على مستوى العالم، حيث تحتل المرتبة الثانية كأكبر مصدر للطاقة منخفضة الكربون، وفقاً لتقديرات الرابطة العالمية للطاقة النووية.
وبينما يظل توليد الكهرباء هو الاستخدام الأبرز والأكثر شيوعاً لهذه التقنية، فإن تطبيقاتها تمتد لتشمل مجالات متنوعة وحيوية أخرى.
فإلى جانب دورها المحوري في تزويد العالم بجزء كبير من احتياجاته الكهربائية، تجد الطاقة النووية وتقنياتها المتقدمة تطبيقات واعدة في قطاعات حيوية مثل الزراعة والأمن الغذائي، والطب التشخيصي والعلاجي، واستكشاف الفضاء، وحتى في عمليات تحلية المياه، مما يجعلها لاعباً رئيسياً في مواجهة تحديات التنمية المستدامة.
دور الطاقة النووية في مكافحة تغير المناخ
تنتج المفاعلات النووية ما يقارب ثلث إجمالي الكهرباء الخالية من انبعاثات الكربون على مستوى العالم (حوالي ٢٨٪ من الإجمالي في عام ٢٠١٩)، مما يجعلها عنصراً ضرورياً لتحقيق الأهداف العالمية المتعلقة بمكافحة تغير المناخ والحد من ظاهرة الاحتباس الحراري.
وبالمقارنة، يتم إنتاج حوالي ٣٥.٢٪ من الكهرباء العالمية من الفحم، و٢٣.٦٪ من الغاز الطبيعي، وكلاهما من مصادر الوقود الأحفوري التي تساهم بشكل كبير في انبعاثات غازات الدفيئة.
إن التوسع في استخدام الطاقة النووية السلمية، إلى جانب مصادر الطاقة المتجددة الأخرى، يمثل خياراً استراتيجياً للعديد من الدول الساعية إلى تحقيق أمن الطاقة وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، والمساهمة بفعالية في الجهود العالمية لمواجهة تحديات تغير المناخ.
الطاقة النووية في أرقام
حالياً، توفر الطاقة النووية حوالي ١٠٪ من إجمالي الكهرباء المولدة على مستوى العالم، وذلك من خلال ما يقرب من ٤٤٠ مفاعلاً للطاقة النووية موزعة في مختلف أنحاء العالم.
وفي عام ٢٠٢٠، اعتمدت ١٣ دولة على الطاقة النووية لتوليد ما لا يقل عن ربع إجمالي احتياجاتها من الكهرباء.
وتعود البدايات التجارية لتوليد الكهرباء من الطاقة النووية إلى عام ١٩٥٤، عندما قامت روسيا (الاتحاد السوفيتي آنذاك) بتشغيل أول مفاعل نووي لديها في مدينة أوبنينسك، بقدرة إنتاجية بلغت ٥ ميجاوات، وكان مخصصاً للأغراض التجارية.
وتعد فرنسا من أبرز الدول التي تعتمد بشكل كبير على الطاقة النووية، حيث تولد حوالي ٧٠٪ من إجمالي احتياجاتها من الكهرباء عبر هذه التقنية.
كما تعتمد دول أخرى مثل أوكرانيا وسلوفاكيا وبلجيكا والمجر على الطاقة النووية لتوليد نحو نصف احتياجاتها من الكهرباء. وفي المقابل، تحصل دول مثل إيطاليا والدانمارك على ما يقارب ١٠٪ من احتياجاتها الكهربائية من خلال استيراد الطاقة النووية.
عدد المفاعلات النووية
وفيما يتعلق بعدد المفاعلات النووية، تتصدر الولايات المتحدة القائمة أيضاً، حيث تمتلك ٩٢ مفاعلاً نووياً ساهمت في إنتاج ١٩.٦٪ من إجمالي كهرباء البلاد في عام ٢٠٢١.
وتمتلك فرنسا ٥٦ مفاعلاً، بينما لدى الصين ٥٥ مفاعلاً نووياً أنتجت من خلالها ٥٪ من كهرباء البلاد.
أما روسيا، فتمتلك ٣٧ مفاعلاً نووياً ساهمت في إنتاج حوالي ٢٠٪ من احتياجاتها الكهربائية.
ولدى اليابان ٣٣ مفاعلاً قابلاً للتشغيل، وتمتلك كوريا الجنوبية ٢٥ مفاعلاً ساهمت في إنتاج ٢٨٪ من كهرباء البلاد.
وتأتي الهند في المرتبة التالية بـ ٢٢ مفاعلاً، تليها كندا (١٩ مفاعلاً)، ثم أوكرانيا (١٥ مفاعلاً ساهمت في إنتاج ٥٠٪ من كهربائها).
أما المملكة المتحدة، فتمتلك ١١ مفاعلاً نووياً قابلاً للتشغيل ولّدت منها حوالي ١٥٪ من احتياجاتها من الكهرباء، وفي أبريل ٢٠٢٢، أعلنت الحكومة البريطانية عن خطط لبناء ٨ مفاعلات نووية جديدة بهدف تعزيز استقلالها في مجال الطاقة على المدى الطويل.
وتمتلك باكستان ٦ مفاعلات نووية ساهمت في توفير حوالي ١٠٪ من احتياجاتها الكهربائية، بينما تمتلك إيران مفاعلاً نووياً رئيسياً واحداً مخصصاً للأغراض البحثية.
كما شهدت المنطقة العربية اهتماماً متزايداً بالطاقة النووية السلمية في السنوات الأخيرة، فقد أعلنت دولة الإمارات العربية المتحدة في أغسطس ٢٠٢٠ عن نجاح تشغيل الوحدة الأولى من محطة "براكة" للطاقة النووية السلمية، لتصبح بذلك أول دولة في العالم العربي تمتلك محطة طاقة نووية عاملة.
وعند اكتمال تشغيل جميع مفاعلات الطاقة الأربعة في المحطة، من المتوقع أن توفر حوالي ٢٥٪ من إجمالي احتياجات الإمارات من الكهرباء، وفقاً لمؤسسة الإمارات للطاقة النووية.
وفي مصر، تجري حالياً أعمال إنشاء محطة الضبعة النووية لتوليد الكهرباء، وذلك بالتعاون مع الجانب الروسي، وتتضمن المحطة أربعة مفاعلات نووية، ومن المتوقع أن يتم تشغيل جميع المفاعلات بحلول عام ٢٠٣٠.
وتسعى السعودية أيضاً إلى بناء مفاعلات نووية لإنتاج الكهرباء، وقبل ذل، تخطط المملكة لبناء مفاعلين صغيرين بهدف فهم التقنية واكتساب الخبرة قبل التوسع في هذا المجال، بحسب تصريحات لوزير الطاقة السعودي الأمير عبدالعزيز بن سلمان في يناير الماضي.
وأشار وزير الطاقة السعودي إلى أن عقود مفاعلات الطاقة النووية التي تعتزم بلاده بناءها ستُوقع "قريباً جداً"، كاشفاً عن وجود مباحثات مع شركاء دوليين راغبين في المشاركة في هذه العقود.
وفي الأردن، أعلن رئيس هيئة الطاقة الذرية، الدكتور خالد طوقان، عن دراسة إمكانية بناء مفاعلات نووية صغيرة للمساهمة في توليد الكهرباء في البلاد.
أما المغرب، فلم يكشف رسمياً عن خطط لإنشاء مفاعلات نووية، لكن مجلس الوزراء الروسي أعلن في ١٢ أكتوبر ٢٠٢٢ أن روسيا ستوقع اتفاقية مع المغرب لبناء أول محطة طاقة نووية في المملكة.
وكانت وزيرة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة المغربية، الدكتورة ليلى بنعلي، قد صرحت في مقابلة مع منصة "الطاقة" في ١٤ سبتمبر ٢٠٢٢ بأن المملكة بصدد تحديث استراتيجيتها الوطنية للطاقة، لتضمين الطاقة النووية ضمن مزيج الكهرباء خلال السنوات المقبلة.
