في تطوّر استراتيجي غير مسبوق، نفّذت إسرائيل واحدة من أعقد وأوسع عملياتها العسكرية ضد إيران، مستهدفة أكثر من عشرين موقعًا بالغ الحساسية، شملت منشآت نووية، ومراكز قيادة تابعة للحرس الثوري، ومساكن كبار القادة العسكريين.
وأكد التلفزيون الرسمي الإيراني صحة التقارير التي أفادت باغتيال عدد من القيادات العسكرية البارزة، إلى جانب علماء في مجال الطاقة الذرية، وذلك عقب الضربة الجوية المباغتة التي طالت طهران وعدة مدن رئيسية. ووفقًا لمصادر متعددة، استهدفت العملية شخصيات رفيعة من بينها حسين سلامي، قائد الحرس الثوري، ومحمد باقري، رئيس هيئة الأركان، وأمير علي حاجي زاده، قائد القوات الجو-فضائية.
في الأثناء، ترددت أنباء عن احتمال حدوث تسرب إشعاعي في منشأة نطنز النووية، إلا أن هيئة الرقابة النووية والإشعاعية المصرية أكدت في بيان لها أن الوضع لا يزال تحت السيطرة، ولا توجد مؤشرات تدل على تسرب إشعاعي حتى الآن. وأوضحت الهيئة أن هذا التقييم جرى بالتنسيق مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية والجهات المعنية، مؤكدة استقرار الوضع حتى اللحظة.
من اللافت أن جميع المؤشرات خلال الأيام الماضية كانت تنذر باحتمال توجيه ضربة عسكرية لإيران، ما أثار ترقبًا إقليميًا ودوليًا واسعًا. ومع ذلك، بدا أن طهران لم تتعامل مع هذه التهديدات بالجدية المطلوبة، وهو أمر يثير التساؤلات والاستغراب.
هذه الضربة لا يمكن اختزالها في إطار عملية عسكرية محدودة، بل تمثل نقطة تحوّل مفصلية في قواعد الاشتباك، وتفتح الباب أمام مسارين متضادين: إما بداية لانهيار المشروع الإيراني الإقليمي، أو اندلاع حرب شاملة قد تطال معظم جبهات المنطقة.
العملية الإسرائيلية جاءت ضمن نمط ممنهج سبق تطبيقه في لبنان ضد “حزب الله”: استهداف الحلقة القيادية الضيقة، شلّ مراكز القيادة والتحكم، وتفكيك البنية التحتية، وصولًا إلى محاولة تصفية رأس الهرم. واليوم، يُعاد تطبيق هذا النموذج على إيران، في ما يبدو أنه محاولة استراتيجية مدروسة لتفكيك النظام الإيراني من الداخل، على المستويات السياسية، والعقائدية، والعسكرية.
منذ غزو العراق عام 2003 وتفكيك جيشه، بدأ النظام الإقليمي بالتآكل تدريجيًا. الحرب في سوريا، استنزاف حزب الله، ومحاصرة الحوثيين كانت جميعها حلقات ضمن مسلسل إنهاك “محور الممانعة”. واليوم، مع استهداف إيران مباشرة، يبدو أن المخطط يقترب من مرحلته النهائية، بدعم استخباراتي غربي وتواطؤ عربي معلن أو ضمني.
في هذا السياق، تتجه الأنظار نحو القاهرة باعتبارها آخر قوة عربية تملك وزنًا عسكريًا وجيوسياسيًا حقيقيًا. ومع تفكك العراق، وانهيار سوريا، وتراجع الدور اللبناني، تبقى مصر العقبة الكبرى أمام مشروع الهيمنة الإقليمي الجديد. وإذا ما تم تحييد إيران بالكامل، فقد تتحول القاهرة إلى الهدف غير المعلن في المرحلة التالية، سواء عبر ضغوط سياسية، أو مواجهات غير مباشرة.
اللافت في العملية الإسرائيلية لم يكن فقط حجم الضربة أو طبيعة الأهداف، بل مستوى الاختراق الأمني والاستخباراتي غير المسبوق. تمكنت إسرائيل من الوصول بدقة إلى مساكن كبار قادة الحرس الثوري، في مناطق يُفترض أنها شديدة التحصين. هذا يطرح تساؤلات عميقة: هل هناك اختراق سيبراني واسع؟ أم أن النظام الإيراني بدأ يتآكل من الداخل؟ المؤشرات الحالية تشير إلى تصدّع أمني ربما يكون أخطر من الضربة ذاتها.
وبالنسبة لطهران، فإن الردّ لا يخضع فقط لحسابات عسكرية، بل يرتبط أيضًا بمعادلة الشرعية السياسية داخليًا وخارجيًا. فأيّ مظاهر ضعف قد تُفقد النظام هيبته أمام شعبه وحلفائه، في حين أن ردًا غير محسوب قد يفتح الباب أمام مواجهة شاملة تتجاوز قدراته. الخيارات المتاحة تشمل إطلاق صواريخ باليستية، شنّ هجمات سيبرانية، أو تفعيل الوكلاء في العراق واليمن ولبنان — وجميعها خيارات تنطوي على مخاطر تصعيد قد يُقابل بضربات استباقية قاسية.
الهدف الإسرائيلي لا يقتصر على تعطيل البرنامج النووي الإيراني. ما يجري حاليًا هو محاولة لتجريد طهران من أدوات نفوذها: العسكرية، العقائدية، والاستخباراتية. إنه مشروع لإعادة تشكيل بنية النظام من الداخل، وضرب الأسس التي قامت عليها “إيران الثورة”، لتحويلها إلى دولة محدودة التأثير، بلا مخالب.
اقتصاديًا، جاءت التداعيات فورية: ارتفعت أسعار النفط بأكثر من 5% وسط مخاوف من تعطل الإمدادات، وتراجعت العملات الرقمية، في حين ازداد الطلب على الذهب كمَلاذ آمن. هذه المؤشرات تؤكد أن الصدمة تجاوزت حدود إيران، وامتدت إلى النظام المالي العالمي. أما واشنطن، فرغم علمها المسبق بالعملية، آثرت التزام الحياد العلني لتفادي استهداف قواعدها في الخليج، لكنها تظل عمليًا شريكًا غير مباشر في إعادة رسم المشهد الأمني الإقليمي.
ما يحدث لا يمكن اعتباره ضربة عسكرية معزولة. نحن أمام بداية مشروع استراتيجي متكامل لإعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق رؤية إسرائيلية واضحة. من طهران إلى بيروت، ومن صنعاء إلى دمشق، تتهاوى قلاع “الممانعة” واحدة تلو الأخرى، ويُعاد رسم الخارطة على أسس جديدة تُقصي كل من لا يدور في فلك التفوق الإسرائيلي.
الرسالة كانت واضحة، الضربة لم تُوجَّه إلى إيران وحدها، بل إلى كل عاصمة إسلامية تعتقد أن لهيب النار سيتوقف عند حدود طهران. إسرائيل، كما عهدها العالم، تضرب أولًا، وبقوة، ولا تنتظر. والسؤال اليوم لم يعد: “متى ستضرب؟” بل: “من تبقّى ليُضرب؟”
وهنا تعود مصر إلى الواجهة. فبعد تحييد القوى الإقليمية الأخرى، تبقى القاهرة الرقم الأصعب في معادلة الردع. وإذا ما اكتملت فصول المشروع الإسرائيلي في إيران، فقد يكون استهداف مصر — سياسيًا، استخباراتيًا، أو حتى عسكريًا — مجرد مسألة وقت.
نحن أمام لحظة تاريخية يُعاد فيها تشكيل الشرق الأوسط بالنار، لا بالمفاوضات. وكل من يصفّق لسقوط طهران عليه أن يتذكّر أن نيران الحروب لا تفرّق بين مؤيد أو معارض. فالحرب، حين تندلع، لا تمنح وقتًا للاصطفاف. فإما يقظة عربية شاملة تعيد بناء توازن الردع… أو سقوط مدوٍ في زمن تُرسم حدوده بالقوة لا بالجغرافيا.