"ماذا سيكون تأثير الموت علىّ وعلى الآخرين؟ لا شيء.. ستنشر الصحافة نبأ موتي كخبر مثير، ليس لأني متّ، بل لأن موتي سيقترن بحادثة مثيرة.. "هكذا كتب يوسف السباعي في روايته "طائر بين المحيطين" عام 1971، وكأنه يوقّع نبوءته بنهاية مأساوية .

وفي 11 يونيو 1978، تصدّرت الصحف المصرية عناوينها بخبر صادم: "اغتيال يوسف السباعي في جريمة سوداء بيد التطرف الفلسطيني في قبرص"
اقتحم مسلحان قاعة مؤتمر للتضامن الأفروآسيوي في نيقوسيا، وأطلقا 3 رصاصات على رأس السباعي، ثم احتجزا رهائن قبل أن يستقلا طائرة إلى عدن.. المشهد كان صادمًا، ورد الفعل المصري جاء حاسمًا، وأعلن الرئيس أنور السادات:
"فقدت السباعي أخًا وصديقًا."
من فارس إلى أديب.. من ضابط إلى وزير
وُلد يوسف محمد عبد الوهاب السباعي في 17 يونيو 1917، وتخرّج من الكلية الحربية 1937 عمل مدرسًا فيها، ثم مديرًا للمتحف الحربي عام 1952، حتى رُقي إلى رتبة عميد.
لكنه لم يكتفِ بالزي العسكري، بل خاض معركة أخرى في ميدان الأدب والثقافة، حيث قدّم مجموعة من الأعمال الرومانسية والإنسانية الخالدة مثل:"بين الأطلال، إني راحلة، نادية، رد قلبي" وأعمال أخرى ذات بعد فلسفي واجتماعي مثل:"السقا مات، أرض النفاق، نحن لا نزرع الشوك، أم رتيبة"
السباعي كما تراه خميلة الجندي
في كتابها "بين أطلال السباعي" ترسم الكاتبة خميلة الجندي صورة شاملة لحياة الأديب الراحل، منذ طفولته في حي السيدة زينب، ومرورًا بتجربته العسكرية، ووصولًا إلى ذروة نشاطه الثقافي والدبلوماسي.
تصفه بأنه "فارس نبيل"، استطاع أن يجمع بين الشعبية الأدبية الواسعة، واللمسة الإنسانية الصادقة. كتب للسينما فحصد نجاحًا جماهيريًا، وتحولت رواياته إلى أفلام لا تزال عالقة في الوجدان المصري والعربي.

مواقف ونوادر
يروي الصحفي طاهر عبد الرحمن موقفًا طريفًا جمع بين السباعي وتوفيق الحكيم، عندما كتب الأول مقالًا نيابة عن الثاني، ووقّعه بـ"بلسان" الحكيم وليس قلمه، في العدد الأول من مجلة الرسالة الجديدة عام 1954.
وفي موقف آخر رواه صلاح عيسى، رفض السباعي، حين كان وزيرًا للثقافة عرض مشهد يظهر "النموذج الشيوعي" في فيلم الكرنك وهو يموت تحت التعذيب. وعندما سأله المنتج ممدوح الليثي: "يموت إزاي؟"، أجابه السباعي بحدة:
"عنه ما مات!"
السباعي والسياسة.. بين المحبة والجدل
عُيّن يوسف السباعي وزيرًا للثقافة ورأس تحرير العديد من الصحف والمجلات: الرسالة الجديدة، آخر ساعة، المصور، الأهرام.كان شخصية جدلية؛ البعض اعتبره الأب الروحي للثقافة، بينما رآه آخرون رمزًا لفشل الإدارة الثقافية.أيد مبادرة السادات للسلام مع إسرائيل، ما جعله هدفًا للمتطرفين. ومع ذلك، لم يتخلّ يومًا عن القضية الفلسطينية، فكتب في رواية "ابتسامة على شفتيه":"القدس كالقاهرة كعمان كدمشق كبغداد... إننا نؤدي واجبنا في كل مكان."
الوداع الأخير
نال يوسف السباعي جائزة الدولة التقديرية عام 1973، وعددًا من الأوسمة الرفيعة.لكنه غادر الدنيا على يد من لم يتحملوا صراحته، ومواقفه، وإيمانه بضرورة السلام، حتى في أحلك الظروف.
رحل السباعي تاركًا إرثًا أدبيًا، وثقافيًا، وسياسيًا قلّ نظيره، ورحل وهو يزرع في كل سطر كتبه زهرة، ما زالت تزهر في قلوبنا حتى اليوم.