فى خطوة تعكس تطور الفكر الاقتصادى المصرى فى إدارة ثرواته الطبيعية، بدأت وزارة البترول والثروة المعدنية تطبيق آلية «عامل الربحية»، ضمن نماذج الاتفاقيات الجديدة التى تُبرم مع كبرى شركات النفط والغاز العالمية، وهى الآلية التى تفتح الباب أمام طفرة استثمارية غير مسبوقة فى المناطق النائية والمعقدة جيولوجيًا داخل الحدود المصرية، وعلى رأسها مناطق غرب البحر المتوسط وحوض البحر الأحمر وأجزاء من الصحراء الغربية الجنوبية، وتُعد هذه الآلية واحدة من أبرز أدوات الحوافز الاستثمارية التى تستند إلى فلسفة المشاركة فى المخاطرة مقابل تحفيز الإنتاج وتحقيق التوازن العادل بين الدولة والمستثمر.
ويعتبر عامل الربحية، أو ما يعرف دوليًا بـR Factor، بندًا فى عقد بترولى، فى إطار اقتصادى متكامل يُعاد من خلاله توزيع نسب الإنتاج بين الدولة والشريك الأجنبى وفقًا لمعادلة زمنية واقتصادية دقيقة.
ففى السنوات الأولى التى تتحمل فيها الشركات العالمية عبء النفقات الرأسمالية الثقيلة المرتبطة بعمليات الحفر والتنقيب فى البيئات الصعبة والمعقدة، تمنح الاتفاقيات المستثمرين حصة إنتاجية مرتفعة تسمح لهم باسترداد التكاليف وتحقيق قدر معقول من العائد، ومع مرور الوقت وارتفاع الإيرادات تبدأ تلك الحصة فى التراجع تدريجيًا لصالح الدولة، بما يضمن لها عوائد سيادية متزايدة دون المساس بجاذبية الاستثمار.
وكشفت وثائق، حصلت عليها «الدستور»، عن أن هذا النظام قد تم تطبيقه فعليًا على عدد من البلوكات الواقعة فى عمق البحر المتوسط، حيث تمثل هذه المناطق تحديات تشغيلية وجيولوجية كبيرة، سواء بسبب عمق المياه الذى يتجاوز فى بعض المواقع ٢٥٠٠ متر، أو بسبب نقص البيانات الجيوفيزيائية الدقيقة، أو بعدها الكبير عن البنية التحتية اللازمة لنقل ومعالجة الإنتاج.
وتدرس الهيئة المصرية العامة للبترول حاليًا تعميم هذه الآلية على عدد من المناطق الأخرى فى البحر الأحمر والصحراء الغربية، ضمن خطة الدولة الشاملة للتحول إلى مركز إقليمى للطاقة، وتعزيز قدراتها التصديرية من خلال تطوير شبكات الربط والبنية التحتية.
وأوضح مصدر مسئول بوزارة البترول والثروة المعدنية أن تطبيق «عامل الربحية» لا يتم عشوائيًا، إنما يخضع لمجموعة دقيقة من المعايير التى تشمل الجوانب الفنية والاقتصادية والجيولوجية، فالمناطق المؤهلة للاستفادة من هذه الآلية هى فى الغالب تلك التى تفتقر إلى بيانات تفصيلية حول التكوينات الحاملة للنفط والغاز، أو التى تتطلب تقنيات خاصة للحفر فى خزانات عالية الضغط والحرارة، أو التى تقع فى مواقع يصعب الوصول إليها، ما يضاعف من تكاليف البنية التحتية والتشغيل.
وأشار المصدر إلى أن هذا التوجه يأتى فى إطار سياسة الوزارة لتقليل الفجوة الاستثمارية فى تلك المناطق، وتحقيق العدالة بين المناطق المنتجة والمناطق التى لم تحظَ بفرص مماثلة فى السابق.
ووفقًا للمصدر ذاته، تجرى اللجنة الفنية المختصة داخل الهيئة مراجعة دورية لهذه المناطق كل عامين على الأقل، حيث يُعاد تقييم الجدوى الاقتصادية ومعدلات الإنتاج ونسب التكاليف والإيرادات، وبناءً على النتائج يتم تعديل شروط الاتفاقيات ونسب المشاركة بما يتوافق مع المعطيات الفعلية دون الإخلال بحقوق الدولة أو مصالح المستثمرين، ويعكس هذا التوجه مرونة كبيرة فى إدارة العقود وتكييفها مع طبيعة كل منطقة، بما يجعل مصر أكثر قدرة على المنافسة أمام الأسواق العالمية التى تقدم حوافز مماثلة.
وأكد المصدر أن مصر، بتبنيها آلية عامل الربحية، تواكب الاتجاهات العالمية الحديثة فى إدارة عقود البترول، التى تبتعد تدريجيًا عن النماذج الثابتة نحو النماذج المتغيرة حسب الأداء والجدوى، وهو ما جعل العديد من الشركات العالمية، على رأسها «إينى» الإيطالية و«شل» البريطانية و«بى بى» البريطانية، تُبدى حماسًا متزايدًا للمشاركة فى الامتيازات الجديدة التى طرحتها وزارة البترول خلال الأعوام الأخيرة، وقد أسهم هذا الانفتاح فى دفع عجلة الاستثمار، ورفع معدلات الحفر والاستكشاف، وزيادة الاحتياطى المؤكد من النفط والغاز، بما ينعكس على الاقتصاد الكلى وميزان المدفوعات وعائدات الدولة بالعملة الصعبة.
وتنطلق فلسفة عامل الربحية من مبدأ التشارك فى تحمل التحديات والنجاحات، فحين تكون التكاليف عالية والمخاطرة كبيرة، يكون من العدل أن يحظى المستثمر بحصة أعلى من الإنتاج فى البداية، ومع تقدم المشروع وزيادة المردود، يعود التوازن تدريجيًا لصالح الدولة، هذه المعادلة تضمن استمرارية المشروعات وعدم انسحاب المستثمرين بعد المراحل الأولية، وتُسهم فى تحويل المناطق الحدودية المعقدة إلى مصادر إنتاج فعلية تسهم فى تغطية الطلب المحلى وتعزيز الصادرات.